] «الحَرْكَى» قضية فرنسة داخلية… فلماذا يستاء الجزائريون من ماكرون؟ - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الثلاثاء 28 أيلول (سبتمبر) 2021

«الحَرْكَى» قضية فرنسة داخلية… فلماذا يستاء الجزائريون من ماكرون؟

توفيق رباحي
الثلاثاء 28 أيلول (سبتمبر) 2021

استاءَ الكثير من الجزائريين من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأسبوع الماضي. ألقى ماكرون خطابا في قصر الإليزيه أمام حوالي 120 فرنسيا من أصول جزائرية يُسمَّون في الجزائر «الحَرْكَى» أو «الحَرْكيين» وعائلاتهم. وهؤلاء جزائريون انضموا بالآلاف (لا توجد إحصائيات دقيقة) خلال الفترة الاستعمارية وحرب الاستقلال إلى صفوف الجيش الفرنسي وتعاونوا معه إداريا وعسكريا ضد مجتمعهم وأهاليهم وشاركوا في ملاحقة الثوار والمتعاونين معهم.
مع إعلان الاستقلال في صيف 1962، بعد حرب دامية استمرت قرابة ثمانية أعوام، طُرد الفرنسيون، مدنيون وعسكريون، وتركوا وراءهم «الحَرْكَى» فريسة للخوف والذل والعار والاجتماعي، ولانتقام الأهالي الذين نكّل بهم الاستعمار وقتل ذويهم ودمّر حياتهم بمساعدة «الحَرْكَى».
تفيد وثائق سرّية فرنسية، مدنية وعسكرية، جرى الإفراج عنها حديثا، أن الحكومة الفرنسية في صيف 1962 أمرت وزراءها بترك «الحَرْكَى» في الجزائر. كما وجّه الرئيس شارل ديغول بمعاملتهم معاملة اللاجئين وفرز مَن تتوفر فيهم صفات اللجوء ومَن لا تتوفر فيهم. وتكشف أيضا أن بعض الضباط الفرنسيين خرجوا عن أوامر رؤسائهم واصطحبوا معهم بعض «الحَرْكَى» ثوابًا على تعاونهم وخدماتهم.
يروي شهود عيان جزائريون أن موضوع «الحَرْكَى» في ذلك الصيف من تلك السنة كان مأساة حقيقية، لأن الأمر لم يقتصر على رجال اختاروا طريقهم وكان عليهم أن يتحمّلوا تبعات اختيارهم، بل على عائلات ونساء وأطفال وعجزة نزل عليهم خبر نهاية الحماية الفرنسية لهم كالصاعفة. يقول شهود أيضا أن بعضهم تعلَّق بالمراكب وهي توشك على مغادرة ميناء العاصمة وغيرها من المدن الساحلية الجزائرية مثلما تعلّق مئات الأفغان بطائرات سلاح الجو الأمريكي وهي تتأهب للإقلاع من مطار كابل الشهر الماضي.
يُعتقد أن نحو 30 ألف «حَرْكي» نجحوا في الوصول إلى فرنسا ذلك الصيف من أصل 80 ألفا أرادوا المغادرة. لحظة الوصول إلى فرنسا كانت بداية المأساة وليس النهاية. فقد وضعتهم السلطات الفرنسية لشهور، بل سنوات في حالة البعض، في مراكز احتشاد قذرة ينخرهم الجوع والحيرة والخوف، يحرسهم عسكر وبوليس مدجّجون بالسلاح ويمنعونهم من الخروج. هذه المعاملة الفرنسية البائسة تؤلم «الحَرْكَى» وأبناءهم وأحفادهم اليوم أكثر مما تؤلمهم المطاردات التي عاشوها في الجزائر قبيل نجاحهم في الخروج منها. المصير الذي انتظرهم في فرنسا هو ما يعجز هؤلاء الناس عن الشفاء منه. وفي نضالهم من أجل رد الاعتبار، يذكرون غدر فرنسا بهم أكثر من انتقام الجزائر منهم. ربما إيمانا بأنهم خانوا الجزائر فعاقبتهم، وهو أمر انتظروه، وخدموا فرنسا فخذلتهم، وهو أمر مفاجئ وخيانة لم تخطر لهم على بال.
تخلل خطاب ماكرون الكثير من العواطف والاعتراف بخيانة «الحَرْكَى» وتخلِّي فرنسا عنهم عندما كانوا في أشد الحاجة إليها. ثم انتهى بالاعتذار باسم الدولة الفرنسية ووعَد بقانون ينظم تعويضات مادية ومعنوية سيرى النور قبل نهاية العام الجاري.

«الحَرْكَى» قضية فرنسية داخلية أولاوأخيرا. هم فرنسيون خذلتهم الدولة الفرنسية وتريد اليوم تعويضهم. الغضب الشعبي الجزائري (رسميا لم يصدر موقف) في غير محله

ركز ماكرون خطابه على خذلان فرنسا لهؤلاء الناس، دون الخوض في ما تعرّضوا له في الجزائر من مطاردة وتنكيل وتهميش.
رغم ذلك، وكما كان متوَقَّعا، استاء الجزائريون وراح بعضهم يقارنون بين امتناع ماكرون عن الاعتذار للجزائر عن جرائم الاستعمار، وسهولة اعترافه بالذنب والاعتذار من أناس خانوا مجتمعهم، بينما طاردت فرنسا مواطنيها المتعاونين مع الاحتلال الألماني أثناء الحرب العالمية الثانية وحاكمت مَن استطاعت منهم.
لا يحتاج الأمر إلى ذكاء عميق لتفسير هذه الثنائية: اعتذار فرنسا من الجزائر يحتاج إلى ضغط (lobbying) سياسي رسمي وأهلي قوي من الجزائريين.. والجزائريون لم يضغطوا وحكومتهم لم تطلب رسميا الاعتذار. واعتذارها من «الحَرْكى» ينبع من كون الدولة الفرنسية لا تجد غضاضة في الاعتراف والاعتذار عندما يتعلق الأمر بقضية رأي عام داخلية، مهما كانت القضية ثانوية ومهما تأخر الاعتذار فيها.
هذا ما يقودنا إلى صلب الموضوع: «الحَرْكَى» قضية فرنسية داخلية أولاوأخيرا. هم فرنسيون خذلتهم الدولة الفرنسية وتريد اليوم تعويضهم. الغضب الشعبي الجزائري (رسميا لم يصدر موقف) في غير محله. في الجزائر، و رغم أنه يشكّل إلى اليوم «وصمة» اجتماعية في جبين عائلات، وحتى عروش بأكملها، تعاونت مع الاستعمار الفرنسي أو تُتهم بذلك، أصبح موضوع «الحَرْكَى» ثانويا وربما الأخير في ترتيب قضايا الفترة الاستعمارية الكثيرة والمعقّدة. الجزائريون يتذكرون هذا الموضوع فقط عندما تثيره فرنسا، ويطرحونه في اتجاه أنهم يرفضون الصفح عنهم ويكرهون أن تنصفهم فرنسا.
هناك أيضا حقيقة الزمن والعمر. مَن يقاتلون اليوم من أجل رد الاعتبار هم «الحَرْكَى» الأبناء والأحفاد، لأن جيل الأباء انقرض إذ أن الأب الذي كان عمره حوالي الثلاثين أثناء الاستقلال في 1962، يحوم اليوم حول التسعين إذا كان لا يزال حيًّا. والأبناء لا يتحملون بالضرورة خطايا آبائهم. ولا تربطهم بالجزائر سوى تلك العلاقة المسمومة والقطيعة المعنوية العنيفة التي يريدون الشفاء منها. والمعروف عنهم أنهم أقل حنينا للجزائر وأقل احتراقا لزيارتها من آبائهم ومن الفرنسيين المسيحيين واليهود الذين وُلدوا على أرضها.
الذين يعتقدون أن فرنسا حسمت قضية «الحَرْكَى» بسهولة مخطئون. لقد تلكأت 60 عاما وترددت ووعدت ثم أخلفت فوعدت مجددا، إلى أن وصل ماكرون للرئاسة. هذا التأخر الكبير والخذلان يجد تفسيره في كون «الحَرْكَى» فئة هامشية غير مؤثرة انتخابيا في فرنسا، وغير مفيدة سياسيا وضارة اقتصاديا (أغلبهم عاشوا على المساعدات الحكومية بلا مؤهلات وظيفية وقضوا عمرهم ينتظرون علاوات الماضي والحاضر). كما أن موضوع الخيانة ضارب في أعماق الضمير الجمعي الفرنسي وليس سهلا التعامل معه. يعود الأمر إلى الحرب العالمية الثانية عندما احتلت ألمانيا النازية فرنسا في صيف 1940. آنذاك لم يجد الألمان أفرادا ومجموعات من العملاء الفرنسيين، بل حكومة وسلطة قائمة بذاتها بقيادة الماريشال فيليب بيتان، واتخذت من مدينة فيشي (وسط فرنسا) مقرا لها طيلة أربعة أعوام.
في البداية كان موضوع «الحَرْكَى» جرحا غائرا في الجسدين الجزائري والفرنسي. لكنه مع الوقت أصبح مشكلة فرنسية داخلية لا تعني الجزائريين، فعليهم التحرر منها بمناقشتها بموضوعية وهدوء بعيدا عن العواطف والشحناء.

كاتب صحافي جزائري


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أحداث و متابعات  متابعة نشاط الموقع متابعات   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 6

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28