] عــــــام ويومــــــان صفحة عبد اللطيف مهنا - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الخميس 16 آب (أغسطس) 2018

عــــــام ويومــــــان صفحة عبد اللطيف مهنا

الخميس 16 آب (أغسطس) 2018

انطلقت الشاحنة لا تلوي بصيدها. قفلت عائدةً بي وبأوراقي إلى من حيث ارسلوها. كان الصمت في داخلها هو سيّد ما بعد تدخُّل الآمر زاجراً المأمور مستشهداً بتوجيهات السيد الزعيم. والزعيم هنا هو رتبة عسكرية اظنها لواءً، اُستبدلت لاحقاً بغيرها لكنها مكثت بحكم العادة قيد استعمالِ حتى اختفت. بدت لي الشوارع لم تتغير. كانت المارة والسيارات والجدران والإسفلت كما هي. ظلَّت كل هذه الخلطة اللامبالية تمارس يوميّاتها اللعينة كالمعتاد وغير آبه بما أنا فيه. هذا فوق كونها، ومن أسف، تجهله، ومثلي أيضاً تجهل ما أنا اساق لمواجهته. بيد أنني، أما وقد عطفت “يقلبون راسَكمْ” على غنائمهم الورقية، هذه التي انعم الله بها عليهم بعيد تنقيب حصيف في المكان الذي كان بيتي، بحيث لم يبق منها شاردةً ولا واردةً، حللت نصف المتحارجة، ما انبئني بأنني مقبل دونما شك على ما لا تحمد عقباه...شيء واحد كنت أجهله تماماً، وهو ما يتضمنه سؤال بسيط، عرفت فيما بعد أنه غبي وغير ذي معنى، وهو: وما الذي فعلته؟! عرفت أنه كان الأجدر بي استبداله بما الذي يظنونني قد أفعله؟!
مرت الشاحنة بشوارع وأحياء اعرفها وأخرى لا اعرفها، ومنهما ما كنت لأعرفه بدون رفقة هؤلاء الصامتين الذين أُعصر محشوراً فيما بينهم. دلفت تقترب بي إلى عتبات يومي الأول في عالم عامي الذي لم أكن لأتخيله قبل أن أعيشه. دخلت حياً بدا لي أنه من كوكب آخر لا يرحّب إلا بسراة القوم، إذ تهجع في حماه دارات باذخة الطلة وقصور منيفة المهابة. كانت غير تلك التي تصادف أن رأيتها خلال ما قارب العامين من وجودي في هذه المدينة الصاخبة بلا حياة، والتي تدرج فيها من الأقوام أصناف لم تكن تحلم بتعددها سفينة نوح ولا ضم لهجاتها ورطاناتها برج بابل. انعطفت إلى بوَّابة ما تبدو لناظرها أكبر من دارة وأقل من قصر، والأبعد ما يكون عن “دائرة حكومية تَبيك ثَمْ اِتْعَوِّد”. كانت تتوسَّط ساحةً متسعة تتدثر بالبلاط. ولجت البوَّبة ولم تزد فتوقفت إلى جانب جندي شاكي السلاح، جاء من ينتظرني فاستلمني من رفاق الشاحنة وكان هذا آخر عهدي بها وبهم...استثني عملاق بسطة الخضار الذي قد أعود فاذكره لكم ذات مرة في يوم قادم من مقبل أيام عامي ويوماه، هذا الذي بدأ للتو بظهيرة لافح هجيرها.
انتبهوا، لا تنتظروا مني مذكرات فتى مُعتَقل، أو من يسرد لكم حصيلةً لمكابداته وراء القضبان، ولا حتى كل ما حدث له هناك. ذاك زمن مضت عليه عقود. حتى الأسماء التي علقت بذاكرتي لا أضمن لكم ألا يختلط علىَّ مع الزمن بعضها فأستبدله بآخر، وربما انساه كلياً. كانت كثيرة حقاً، ولم يكن جميعها تتساوى ويجدر تذكُّرها. لكنني اعدكم بأن كل فاصلة أذكرها لكم كانت لمسة حدثت في لوحةٍ حقيقية الحدوث...وحاذروا، فأنا، إذ اقفز بكم خارج اطارها الزمني، مرةً قبله وأخرى من بعده، وإلى يومنا هذا، قد اسحبكم بتأملاتي في منمنماتها معي إلى حقيقةٍ أخري مفادها، إنه ليس هناك ثمة من فارق جوهري بين ما كان داخله وكلا الماقبل والمابعد...ولجيل بكامله في أمة بكاملها تعددت لوحاتها تعدد بقاعها. ربما لا يخلو بعضها من تباين لكنما التشابه نصيب لأغلبها!
لم يأخذوني لسرداب، وليتهم فعلوا، فعلى طرف البوَّابة كانت، واتفاقاً مع هندسة المبنى المنسوخةً عن مثيل لها في بلاد الله الأقرب للقطب الشمالي، تقع حجيرة، أو قل قمرةً بحجم صندوق كبير به طاقة تتسع لوجه مخلوق، كان المفترض أن يقف فيها الحارس في فصول الزمهرير الثلجي القارص ليرقب الآتي والغادي. هنا لا شيء من هذا يدفع حارساً لأن يختنق داخل تنّورها في بقاع لاهبة لا من علاقة لها بالقطبين شمالاً أو جنوباً، إنما هي واحدة من متطلبات التقليد وموجبات الاستنساخ. حشروا في داخل هذا المربع سريراً حديدياً استوطن ثلثي مساحتها ملامساً ثلاثةً من جدرانه، وتحت طرف فيما هو تحته قبع محرّك لضغط المياه، التي لا أعرف من أين تأتي وإلى أين تذهب، يعاني انبعاجاً، أو تآكلاً في الأنابيب الموصولة به، حيث تتهاطل القطرات المتسرّبة منه في غير ما عجلة لتتجمَّع على راحتها تحت السرير مشكلةً محميّةً طبيعية لأشرس أنواع الباعوض وفقما خلته حينها. كانت اسرابه تسرح وتمرح مغيرةً على هدفها الوحيد الذي هو أنا في عز الظهيرة وحتى الظهيرة القادمة في ظل شبه عتمة الحجيرة التي تناسبها، حامت بأعداد لم ار لها مثيلاً إلا تلك التي تطارد قطعان ايائل الرَّنة في الشمال الأقصى في بعض الأفلام التي تصوّر عجائب الطبيعة.
عندما ادخلوني إلى هذه المحمية، التي يبدو أنها صالون استقبال للمجلوبين بانتظار أول مواجهة لهم مع معشر حسيب ورقيب، وحيث فتحوا بابها الحديدي واشاروا لي على الرحب والسعة، انذروني بألا اجلس على السرير، ذلك حتى لا أواجه الجدار المقابل فالمح من الطاقة التي تتوسَّطه الداخلين والخارجين من حرم الدائرة. أشاروا إلى الفضاء المتبقي بين السرير والجدار حيث بطَّانية صوفية سميكة ثنيت مرتين ومدت أرضاً ليقضم السرير جزءاً لا بأس به من عرضها، وأمروني: “أَجلس”، فجلست ما بين الجدار وبعض ما تحت السرير!

صفحة عبداللطيف مهنا


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 94 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع صفحات التواصل   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 21

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28