] تشيلي التي استفاقت من رمادها - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 8 كانون الثاني (يناير) 2022

تشيلي التي استفاقت من رمادها

السبت 8 كانون الثاني (يناير) 2022

- سعيد خطيبي

استدارت أعين العرب، في الأيام الأخيرة، إلى تشيلي، هذا البلد اللاتينو ـ أمريكي صار فجأة محل اهتمام دولي أيضاً، عقب انتخاب رئيس جديد يُدعى غابريال بوريك، في الخامسة والثلاثين من العمر، يساري العقيدة وعد بالمزيد من الحريات الاجتماعية ومن الانفتاح على الأقليات، والأهم من ذلك أن وعد بمحو سنوات الديكتاتورية وما تلاها من تبعات رسخها حكم بينوشيه، لقد وعد بوريك شعبه بانتقال حاسم إلى الأمام، وكتابة تاريخ جديد يطوي صفحة ما سبقه، هذا التاريخ السابق، الذي ساده الدم، خيم طويلاً على عقول التشيليين، تاريخ محتدم ليس من السهل فهمه واستيعابه، دونما عودة إلى الأدب، إلى الروايات التي عالجت حقبة بينوشيه، ثم الروايات التي عالجت ما بعد ـ بينوشيه، على غرار «حاصل الطرح» لأليا ترابكو ثيران (ترجمة محمد الفولي، منشورات ممدوح عدوان/ سرد، 2021) التي تقارب ذلك الانتقال الخجول من الاستبداد إلى الديمقراطية، والذي لم يتم كما كان الناس يرجونه.

مساواة عدد الموتى مع عدد القبور

تفتتح أليا ترابكو ثيران روايتها من تاريخ مفصلي في تاريخ بلدها: الخامس من تشرين الأول/أكتوبر عام 1988، حين قصد الناس صناديق التصويت من أجل القبول باستمرار بينوشيه في الحكم من عدمه، فكانت النتيجة «لا» عكس ما توقعه الديكتاتور، رفضوا استمراره، وفضلوا سلك حياتهم دونه، بحثاً عن الحرية، هذه الحرية سوف تجسدها إحدى شخصيات الرواية في اكتشاف اللذة والسيجارة والمخدرات لأول مرة، من هنا سوف تتوإلى تغيرات في البلد، وتنتقل الرواية بعدها سنوات إلى الأمام، إلى 2016، حين يعود جثمان إنغريد إلى تشيلي، وهي التي فضلت المنفى في ألمانيا عقب معارضتها للحكم المستبد، قبل أن توصي بدفنها في مسقط رأسها في سانتياغو، لكن عاصفة أرمدة نجمت عن استفاقة بركان، سوف تحول مسار الطائرة التي حملت الجثمان إلى الأرجنتين، من هنا تبدأ رحلة ثلاث شخصيات: فيليبي، إيكيلا وبالوما، في استعادة الجثمان، يتبادلون الأدوار في حكي جزءٍ من حياتهم وحيوات آبائهم الذين عاشوا في المعارضة، في ذهاب وإياب بين ماضٍ وحاضر، وفي استعادة سنوات القمع، الترهيب، السجن والتعذيب التي عاشها مواطنوهم في ثمانينيات القرن الماضي، «تساقطت الأرمدة، أو ربما لم تتساقط. ربما اللون الرمادي ليس سوى خلفية ذكرياتي، وكل ما تمخضت عنه هذه الليلة فعلاً هو مجرد مطر خفيف، وحفل كبير، ورذاذ عنيد مع العقدة التي تربط هذه الذكرى ببقايا ذكريات طفولتي». في هذا الجو الجنائزي الذي تنخرط فيه شخصيات الرواية، في حكاية تروى تحت الأرمدة، يستفيق تاريخ البلد مثلما استفاقت براكينه، وملأت الجو بلون رمادي، ويكتشفون أن قصص آبائهم، إنما هي حكاياتهم هم، وجد الأبناء أنفسهم مضطرين لتحمل وزر ما فعله الآباء، سواء اختاروا المعارضة أو الموالاة، كما لو أن تاريخ تشيلي ليس سوى حلقات مكررة، لا يتقدم إلى الأمام مطلقاً.

تتناوب شخصيتان في حكي الفصول، تبدو شخصية فيليبي الأقرب إلى مخيلة القارئ، إنه ينقل الرواية من جوها الواقعي إلى جو حالم وكابوسي في آن، يرى الجثث من حوله في كل زاوية وركن، يرى جثث الماضي وقد عادت إلى الظهور، ولا هم له سوى طرح الزوائد كي يتساوى عدد الموتى مع عدد القبور المتاحة، وهي عملية ليست سهلة، يستمر في عمليات حسابية كي تظل سانتياغو مدينة أحياء لا موتى، في رحلة الشخصيات إلى استعادة جثمان إنغريد، لا يستفردون بسرد تاريخهم العائلي وحده، بل يبدو أن تاريخ تشيلي برمته يطل برأسه، تاريخ المعذبين، الذين وإن نجوا من مقصلة بينوشيه، فإنهم ظلوا يحملون آثار تلك السنين، ويخشون عودته من جديد، كما لو أنهم من حكاياتهم يريدون أن يثبتوا للآخرين أنهم ما يزالون على قيد الحياة، إن مآسي الآخرين لم تدفنهم مثلما دفنت آباءهم.

رواية حلزونية

تخوض أليا ترابكو ثيران لعبة سردية في رواية «حاصل الطرح» بين ذهاب وإياب من حاضر إلى ماضٍ، مع قفز بين الشخصيات، بلساني إيكيلا وفيليبي، في تشكيل عجينتها السردية، لا تبدو العملية سهلة، من الوهلة الأولى، قد يشعر القارئ بأنه بصدد عمل حلزوني، لا يثبت في مكان واحد ولا زمن واحد، لكن مع قليل من التركيز والصبر، ندرك أن الكاتبة أفلحت في خدعتها، وترافق القارئ في هذا التاريخ الحديث المتشعب من بلدها، تقوده إلى هذا الطريق الطويل بغرض استعادة جثمان إنغريد، وتورطه في حكايات أبناء معارضي بينوشيه، تقربه من شخصيتي فيليبي وإيكيلا، اللذين يحكي كل واحد منهما وجهة نظره إزاء ما حصل، تستعين بالرمزية في توصيف الحالة السوداوية التي سادت في الماضي، وعلى القارئ أن يتحلى بصبر في فهم تعقيدات الوضع، والحق أن الكاتبة كانت محقة في خيارها الفني، لم تشأ أن تحكي رواية عادية، من منظور واقعي كما تعودنا عليه من كتاب بلدها، بل ابتكرت أسلوباً لها، شيئاً مختلفاً عن المعتاد، يمكن القول إنها كتبت رواية جديدة عن تشيلي، مع أنها تقارب موضوعات سبق لنا أن صادفناها في روايات أخرى، لم تخل إلى راحة كتابة خطية كرونولوجية، قد تصيب قارئها بالملل، بل جعلته يفك شيفرات كي يدرك أين يضع قدميه، مثلما كان يفعل فيليبي مستعيناً بالرياضيات في المساواة بين الموتى والقبور، إن «حاصل الطرح» رواية عائلية، رواية الذاكرة التشيلية، رواية المفقودين والضحايا، مثلما فرت إنغريد من القتل، أو الاختطاف القسري فإنها ستدفع الثمن عقب عودة جثمانها من ألمانيا، وتصير هي أيضاً مفقودة، كما لو أن ماضيها يلاحقها إلى الرمق الأخير، بينما الآخرون يبحثون عنها يلف سانتياغو رماد مثل تاريخها الضبابي، الذي يصعب الإمساك به دونما تأمل عميق، تاريخ متشعب تخيم عليه روح (الأخ الأكبر) ذلك هو تاريخ تشيلي برمتها والتي يود غابريال بوريك نقلها إلى دائرة النور.

روائي جزائري*


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 59 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

43 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 43

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28