] حمار الشعر والشعراء - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الاثنين 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 2021

حمار الشعر والشعراء

أديب صعب
الاثنين 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 2021

يدور هذا المقال على الوزن في الشعر العربي المكتوب هذه الأيام على نسق التفعيلة، باستقلال عن الكتابة النثرية المسماة شعراً، وعن نظرتي إليها. وتتعلق ملاحظاتي بنوع من الرتابة المملة أصاب موسيقى الشعر الحديث، الذي يكاد الكثير منه، منذ ما يزيد على العقود الأربعة، يندرج ضمن مفتاح موسيقي واحد. هذا المفتاح هو «فاعِلُنْ». وإنْ كنا نحتاج إلى إدراجه تحت اسم أحد الأوزان التقليدية في الشعر العربي، فهذا الاسم هو «المتدارَك» الذي يجري على نسقَين: «فاعِلُنْ» و»فَعِلُنْ» علماً أن النسق الأول هو الذي يهمّني في هذا المقال. ولئن انطلق الإيقاع الذي نحن في صدده مع شاعرين كبيرين هما بدر شاكر السياب وأدونيس، فقد بلغ ذروته مع محمود درويش. أقصد أنه بلغ ذروته بمعنى المبالغة في استعماله. ومن درويش انتقل، بما فيه من مبالغة، إلى شعراء الأجيال اللاحقة.
أدخلَ السياب وأدونيس هذا الإيقاع إلى شعر التفعيلة ـ وهو غير شائع في الشعر العمودي في تراثنا ـ مطلعَ الستينيات من القرن الماضي. وقد يكون أحد الشعراء سبقهما إليه. لكن موضوعنا ليس السبق الزمني، وهو موضوع مشادة بين نازك الملائكة والسياب حول أيّ منهما كتب القصيدة العربية الأُولى على نسق التفعيلة. وهذا مثَل من السياب على مفتاح «فاعلن»: «ما نَفَضْتُ الندى عن ذُرى العشبِ فيها/ما لَثَمتُ الضبابَ الذي يحتويها». ويلاحَظ في التفعيلة الأخيرة «فاعلاتن» أو «فاعلن فا». وهذا من طبيعة المفتاح الذي نحن في صدده. وكما في قافية الشعر العربي، يحصل التسكين أحياناً، وهو كثير جداً في الشعر الحديث. وهنا نموذج من قصيدة السياب الشهيرة «المسيح بعد الصلب»: «بعدما أنزلوني سمعتُ الرياحْ/في نواحٍ طويلٍ تسفّ النخيلْ…/حينما يُزْهِرُ التوتُ والبرتقالْ/حين تمتدّ جيكور حتى حدود الخيالْ…».
مع شاعرين موهوبَين أصيلين مثل أدونيس والسيّاب، نحن أمام صوتين، لكل منهما ميزاته. ومما يميز أدونيس كشوفاته الإيقاعية – اللغوية، وهو القائل عن الشعر العظيم إنه «لغة في قلب اللغة» علماً أن موسيقى الشعر جزء لا يتجزأ من لغته. وهو طبَعَ إيقاع «فاعلن» بطابعه الشخصي، كما في: «وَحدَهُ البذرةُ الأمينَهْ». التفعيلات الثلاث هنا هي: «فاعلن فاعلن فعولن». والمفتاحان «فاعلن» و»فعولن» يتولّد أحدهما من الآخر: «فعولن» هي «عِلُنْ/فا» و»فاعلن» هي «لُنْ/فَعُو». وقد حصلت هذه المزاوجة على نحو كبير في شعر محمود درويش ومن تلاه. ومن خصوصيات أدونيس في إيقاع «فاعلن» البدء بتفعيلة «فا» تليها «فاعِلُن» المخفَّضة أحياناً إلى «فَعِلُن»: «يَجهَلُ أن يتكلمَ هذا الكلامْ/يجهلُ صوتَ البراري».

أدخلَ السياب وأدونيس هذا الإيقاع إلى شعر التفعيلة ـ وهو غير شائع في الشعر العمودي في تراثنا ـ مطلعَ الستينيات من القرن الماضي. وقد يكون أحد الشعراء سبقهما إليه.

السياب وأدونيس كلاهما نوّعا في الأوزان التي كتب كل منهما شعره عليها. وهذا التنويع نجده ـ إلى حد أقل ـ مع محمود درويش قبل الثمانينيات. لكن من يقرأ شعر درويش الغزير منذ ثمانينيات القرن الماضي يتولد لديه انطباع أنه يقرأ قصيدة واحدة مكررة. فالنسبة الكبرى من هذه القصائد تجري على مفتاحَي «فاعلن» و»فعولن» مع غلبة المفتاح الثاني. وهنا عدد من مطالع قصائده في تلك الفترة: «ينام المغنّي على أُسطُوانَهْ» (فعولن)؛ «مدينتُنا حُوصِرَت في الظهيرَه» (فعولن)؛ «مطرٌ ناعمٌ في خريفٍ بعيد» (فاعلن)؛ «أُسمّي الترابَ ٱمتداداً لِروحي» (فعولن)؛ «خَسِرنا ولم يَربَحِ الحُبُّ شيئاً» (فعولن)؛ «يعلّمُني الحبُّ ألا أُحبَّ» (فعولن): «ألَا تستطيعينَ أن تُطفِئي قمراً واحداً كي أنام» (فعولن)؛ «إلهي، إلهي، لماذا تخلَّيتَ عنّي» (فعولن)؛ «عندما يذهب الشهداءُ إلى النومِ أصحو» (فاعلن)؛ «اَلقطارُ الأخيرُ توقَّفَ» (فاعلن)؛ «على هذه الأرض ما يستحقُّ الحياة» (فعولن)؛ «هذه سنةٌ صعبةٌ» (فاعلن)؛ «وانتقلتُ إليكِ كما ٱنتقلَ الفلكيّونَ» (فاعلن)؛ «لكِ التوأمانِ، لكِ النثرُ والشعرُ يتّحدان» (فعولن)؛ «واحدٌ نحن في ٱثنين لا ٱسمَ لنا» (فاعلن)؛ «لِنَذهبْ كما نحنُ، سيّدةً حرّةً وصديقاً وفيّا» (فعولن)؛ «للعدوّ الذي يشرب الشايَ في كوخِنا» (فاعلن)؛ «تتركين الهواء مريضاً على شجر التوتِ» (فاعلن)؛ «وتركنا طفولتنا للفراشة» (فاعلن)؛ «إلى أين تأخذني يا أبي» (فعولن)؛ «لم أكن بعد أعرف عادات أُمي» (فاعلن)؛ «وأما الربيع فما يكتب الشعراء السكارى» (فعولن)؛ «لا أنام لأحلم قالت له، بل أنام لأنساكَ» (فاعلن).

المَطالع التي أوردناها أعلاه غيض من فيض درويش في مرحلةٍ لعله كان يكتب خلالها عدداً من القصائد يومياً. ويسهل على من يمارس الكتابة المتلاحقة إلى هذا الحد أن يسيطر على سمعه الداخلي نغم واحد. وهذا مما يفسر وفرة القصائد التي كتبها درويش واندراج نسبة مرتفعة منها ضمن نغم رتيب. وما مفتاحا «فاعلن» و»فعولن» كما لاحظنا، سوى تنويع بسيط على نغم واحد؛ وهو تنويع قد لا يتبيَّنه فوراً أشد الناس رهافةً في موسيقى الشعر. وطالما اجتمع هذان المفتاحان في القصيدة الواحدة. وهنا نماذج من محمود درويش: «مشيتُ على ما تبقّى من القلب صوبَ الشمال… (فعولن)/لم أكن عاطفياً… (فاعلن)/مشيتُ كما يفعل السائحُ الأجنبيّ» (فعولن). يكفي في هذه العبارة الأخيرة أن تضاف الواو إلى «مشيتُ»: «ومشيتُ كما يفعلُ…» لتحويل المفتاح من «فعولن» إلى «فاعلن». وهذا مثَل من قصيدة ثانية: «قُربَ ما سيَكونُ ٱستمعنا إلى ما يقولُ الكناريُّ: لي ولكِ الشدوُ في قفصٍ ممكنٌ…(فاعلن)/غداً نتذكّرُ أنّا تَرَكنا الكناريَّ في قفصٍ وحدَهُ» (فعولن). هنا أيضاً يتحول المفتاح من «فعولن» إلى «فاعلن» بحرف الواو: «وغداً نتذكّرُ…». وهنا نموذج ثالث: «لا كما ظَنّ آدمُ: لولا الخطيئةُ، لولا النزولُ إلى الأرضِ، لولا ٱكتشافُ الشقاءِ وإغواءُ حوّاءَ، لولا الحَنينُ إلى جَنّةٍ غابِرَهْ (فاعلن)/لما كان شعرٌ ولا ذاكِرَهْ (فعولن)/ولما كان للأبجديةِ معنى العزاءْ» (فاعلن). وهنا نموذج ثالث: «لا جديدَ، ٱلفصولُ هنا ٱثنانِ: صيفٌ طويلٌ كمئذنةٍ في أقاصي المَدى، وشتاءٌ كراهبةٍ في صلاةِ خُشوعْ (فاعلن)/وأما الربيعُ فلا يستطيعُ الوقوفَ على قدميه سوى للتحيّةِ: أهلاً بكُم في صُعودِ يَسوعْ» (فعولن).

أثَر محمود درويش

لا بد من الإشارة إلى أن درويش، في قصائد ربع القرن الأخير من عمره، طعّمَ هذه الرتابة الآتية من فاعلن/فعولن بمفاتيح وزنية أُخرى، تتوزع بين الأوزان البسيطة، أي المكونة من مفتاح واحد، أكثره شيوعاً «متفاعلن» (الكامل) والأوزان المركبة من مفتاحين، مثل «مستفعلن» ـ «فاعلن» (البسيط). أما شعره قبل الثمانينات ففيه تنويع نغمي أكبر: «فاعلاتن» «مستفعلن» «متفاعلن» «فعولن». ولأن درويش كان غزير الكتابة، وكان شاعراً كبيراً ذائع الصيت، ارتبط اسمه بالنضال الفلسطيني الذي لم يحمله على التضحية برومانسيته وتغليب المحتوى العقائدي على الصناعة الفنّية الرفيعة. ولأنه كان ينشر أكثر من أي شاعر آخر، فقد تأثر به عدد كبير من الشعراء، من العراق وسوريا ولبنان ومصر إلى بلدان المغرب وكل الديار العربية. وأهم ما أخذه الشعراء العرب، الذين يكتبون الشعر موزوناً على نسق التفعيلة، عنه، كان مفتاح «فاعلن ـ فعولن». ولا أظن أني أُخطئ إذ أحسب درويش مسؤولاً، على نحو غير مباشر بالطبع، عن هذه الرتابة التي مَيّزَت موسيقى الشعر العربي الراهن.
قديماً سُمّيَ بحر الرجزـ ومفتاحه «مستفعلن» مع تنويعات «مَفاعِلُن» و»مُفْتَعِلُن» و»فَعِلَتُن» ـ حمار الشعر والشعراء لكثرة ما حُمّل من قصائد. هذه التسمية ليست انتقاصية لجهة محتوى القصائد وقوة صنعتها الفنية. لكنها تسمية تشير إلى الرتابة الموسيقية المهيمنة على الشعر الذي يندرج تحتها شكلياً أو نغمياً. ويمكن استعارة التسمية نفسها لإطلاقها على مفتاح «فاعلن ـ فعولن» المهيمن على مساحة شاسعة من شعر التفعيلة الذي ما يزال مستمراً منذ ثمانينيات القرن الماضي، وبين كتّابه شعراء موهوبون حقاً.

قديماً سُمّيَ بحر الرجزـ ومفتاحه «مستفعلن» مع تنويعات «مَفاعِلُن» و»مُفْتَعِلُن» و»فَعِلَتُن» ـ حمار الشعر والشعراء لكثرة ما حُمّل من قصائد. هذه التسمية ليست انتقاصية لجهة محتوى القصائد وقوة صنعتها الفنية. لكنها تسمية تشير إلى الرتابة الموسيقية المهيمنة على الشعر الذي يندرج تحتها شكلياً أو نغمياً.

وبما أن الشعراء اليوم يُكثِرون من نشر القصائد والمقاطع الشعرية على وسائل التواصل الاجتماعي، إما نقلاً من مجموعات نشروها سابقاً في كتاب ورقي مطبوع أو في موقع إلكتروني، وإما في وسيلة أو أُخرى من وسائل التواصل التي باتت سبيلاً هيّناً للنشر والنقد والتخاطب، فسأتوقف عند بعض المقاطع التي أخذتُها من «فيسبوك» لعدد من الشعراء المبدعين. وسأُوردها غفلاً من اسم الشاعر، لكن سأذكر تاريخ نشرها. هذا مطلع ممتاز لأحد شعرائنا المعاصرين من الصف الأول: «يَصنع الليلُ قهوتَه من حنينٍ إلى بلدٍ لا يغيبُ ولا يتعافى» (فاعلن) ـ 15 نوفمبر/تشرين الثاني. وللشاعر نفسه من القصيدة السابقة مباشرةً: «بلدٌ يتعرّى قُبالةَ خالِقِهِ ويُريهِ التجاعيدَ: هذي هداياكَ يا ربُّ زرقاءُ عاريةٌ» (فاعلن) ـ 31 أُكتوبر/تشرين الأول. وبعد نشر قصيدتين على نغم آخر، كان شاعرنا قد استكان إلى «فاعلن»: «غيمتانِ على كَتِفَيهِ وليلٌ يقودُ يديه إلى مكمنِ الضوءِ حيثُ حريرُ البدايةِ…» 15 سبتمبر/أيلول. وهذا مطلع آخر: «لا تقومي إلى النومِ، ما زال في الليلِ ما نشتهيهِ» (فاعلن) 8 سبتمبر. ومطلع سابق: «مَن سأدعو إلى جلستي، مَن يشارِكُني خُضرةَ الروحِ أو مطرَ المائدهْ» (فاعلن) 9 يوليو/تموز. ومطلع أسبق: «ما الذي قد صنعتَ بنفسِكَ، كانت بلادُ الجزائرِ واسعةً مثلَ أفريقِيا» ـ (فاعلن) – 13 يونيو/حزيران. وهذا مطلَع قطعة لشاعر نشر عدداً من المجموعات الممتازة: «ملاكٌ تراءى فأَزهَرَ قلبي» (فعولن) 6 أُكتوبر 2021… تليه مَطالِع لاحقة: «غُيومُ الرؤى تتجمّعُ فيَّ» (فعولن) 9 أُكتوبر. «كنتُ أرقى إلى فَوقُ يوماً فيَوماً» (فاعلن) – 11 أُكتوبر. «فَكُنْ يا حُضورَ القصيدةِ، كُن ما يُقاطِعُ بينَ الحياةِ وبينَ الفناء» (فعولن) ـ 18 أُكتوبر. «كلّما ٱندفَقَ الفرحُ الكوكبيُّ تَوارى بِعينيكِ» (فاعلن) 25 أُكتوبر. «أنا في قطارِ الزمانِ حكايةُ عمرٍ توثَّبَ مثلَ اللهيبِ» (فعولن) – 26 أُكتوبر. «أخافُ إذا غِبتِ عنّي» (فعولن) 27 أُكتوبر. ولم يشأ شاعرنا إلا أن يودّع شهر أُكتوبر بقصيدة امتزج فيها مفتاحا «فعولن» و»فاعلن»: «وجاءت بنفسجةُ الحلمِ خارجةً من بُخارِ الصلاةِ (فعولن).. أيها الموتُ أرخيتَ طولَ الطريقِ شِراكَكَ» (فاعلن) 31 أُكتوبر. «كل هذا المدى يتباركُ فيكِ بِذاتِكِ، كل المكانِ وكل الزمانِ» (فاعلن) 7 نوفمبر.
وهنا نماذج من شاعر، مُجيد هو الآخر: «اَلظلامُ الظلامُ الذي أَيقظَ الحُلمُ أشجانَهُ… وطني صلبوهُ على جذعِ قرنٍ بِعُمرِ الدهور» (فاعلن) 21 أُكتوبر. «كلّما مسّني الضرُّ لُذْتُ بِهِ ضارعاً بالدعاءْ» (فاعلن) 23 أُكتوبر. «هاجمَتنا الدبابيرُ والنحلُ في لوعةٍ» (فاعلن) 26 أُكتوبر. «هل غناءُ الحزانى لنا من شجون الفراتْ» (فاعلن) 6 نوفمبر. «خَفِّفِ الوَطءَ هذا ترابُ أبي وأبيكَ» (فاعلن) 7 نوفمبر.
المَطالع الشعرية التي أوردناها هي مطالع جيدة لقصائد جيدة، ويمكن إضافة نماذج كثيرة جداً إليها، من نوعية جيدة أيضاً. أما النقد الذي توخيتُه فهو متعلق لا بجودة هذا الشعر ورداءته، بل بالرتابة الآتية من «تناسُل» هذا الإيقاع لدى الشاعر الواحد وعدد غير قليل من الشعراء، هذه الرتابة الدافعة إلى ملل القارئ العارف ببعض أسرار الشعر، وحيرة القارئ غير العارف حيال انزعاج لا يعرف سبباً له. فأنتَ مع هذا النغم الرتيب (فاعلن/فعولن) الذي سميتُه «حمار الشعر والشعراء» كما سُمّيَ الرجز في الماضي، كأنك تقرأ قصيدة واحدة لا تنتهي، من غير أن تلاحظ أنك تقرأ سيلاً من القصائد لعدد من الشعراء. والخروج من هذا المأزق النغمي الذي وقع فيه شعرنا الحديث يكون، كما أرى، في التنويع الموسيقي.
*أكاديمي وشاعر من لبنان


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 152 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

36 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 36

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28