] «جلجامش والراقصة»: حين تُؤسِطرُ الروايةُ اليوميَّ - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الثلاثاء 17 آب (أغسطس) 2021

«جلجامش والراقصة»: حين تُؤسِطرُ الروايةُ اليوميَّ

سارة سليم
الثلاثاء 17 آب (أغسطس) 2021

الرواية هي إما تصور للمستقبل، أو مخاطبة للراهن، أو استحضار للماضي، أو كل ذلك دفعة واحدة، للحديث عن ظاهرة حياتية يعيشها المجتمع من وجهة نظر الكاتب، فما بالك إن تم ربط تلك المسائل بالماضي لاعادة قراءة الحاضر أو لنقل القبض على أطراف الزمان الإنساني، وربطه بمصير الإنسان المعاصر وهو يواجه مصيره في ظل معطيات جديدة؟

هذا ما تجيبنا عنه الروائية الجزائرية ربيعة جلطي في عملها السردي الأحدث «جلجامش والراقصة» (ضفاف /الاختلاف 2021)، إذ استحضرت روائياً أول نص كتب منذ فجر التاريخ الإنساني، وهو ملحمة جلجامش. والأكيد أن تأتي بنص قديم لتربط بين ماض متخيل وماض حقيقي وواقع متخيل وواقع حقيقي، ليس بالأمر السهل ولا الهين روائياً. وإن نحن تحدثنا عن هذا الربط وما المغزى الفلسفي منه، وجب القول إن الكاتبة قدمت تصوراً جديداً للواقع، بتقديم قراءة مختلفة وجديدة لملحمة جلجامش من خلال منحها مساراً مغايراً، وهنا تبرز قوة الخيال الذي تتأسس عليه بنية الرواية، يقول أينشتاين: «الخيال أهم من المعرفة، فهو رؤية مسبقة لجاذبيات الحياة المستقبلية»، إذ في ما قرأتُ تكون الروائية ربيعة جلطي أول من قام باستخدام ملحمة جلجامش في نص أدبي بهذا الشكل وبهذه الفنتاستيكية، ولم يكن الاستثمار أو توطين الأسطورة من أجل التزويق «المثقفاتي» ولا نتيجة «تخمة» ثقافية، بل جاء حاملاً لرسالة سردية وفلسفية قائمة على التأويل و«القلب». إذ تم ربط هذه الملحمة بقضية «توحش الإنسان» المعاصر على هذه الأرض المهددة بالموت، هذا الإنسان الذي صنع بيديه أسلحة الدمار الشامل، وهو نفسه وبها دمّر الطبيعة والحياة في الطبيعة وفي عناصر الحياة التي يجيء عليها الهلاك الواحد بعد الآخر، وهو من ساهم في «إبداع» الكوارث. هنا الرواية تريد القول بأن كل ما صنعه الإنسان من خراب سيجني مرارته وفجائعيته عاجلاً أم آجلاً. بعيداً عن كل حس أخلاقي أو بيداغوجي بارد، بل من خلال سرد متوتر، تشير الرواية إلى ما يهدد حياة الإنسان المعاصر من دمار وخراب هو من تسبب فيه، وهو ما يوحي بأننا أمام نهاية العالم.
انطلقت الكاتبة من مدينة ولهانة التي تبدو معادلاً موضوعياً لمدينة وهران في الغرب الجزائري حيث سنلتقي بيوسف أو «جلجامش» المعاصر، الذي رفض في حياته السابقة قبول عرض عشتار بالزواج منه، مما جعلها تسخط عليه. إذ أرسلت الثور السماوي للقضاء على يوسف، لكن الأخير وصديقه أنكيدو تغلبا على الثور وقتلاه. أمر لم يمرّ بسلام، فالآلهة عشتار قررت الانتقام لمقتل الثور السماوي المقدس بفكرة قتل أنكيدو صديق يوسف. موت أنكيدو جعل يوسف يدخل في نوبة حزن كبيرة، ويقف ذاهلاً أمام سؤال الموت والخلود.
مسار أساسي آخر في الرواية هو بحث يوسف عن عشبة الخلود، إذ يعثر عليها ويأكلها على عكس ما جاء في الملحمة، ليسافر بين الأزمنة والأمكنة فيعيش الحروب والكوارث ويرى ما يراه من أهوال سببها الرئيسي الإنسان نفسه. وهو في ترحاله المتواصل يبحث أيضاً عن عشتار. لنبتة الخلود مساوئها، إذ راح يوسف جلجامش يعيش أزمة وجودية مع شعوره باللاجدوى، يواصل البحث عن عشتار في كل النساء إلى أن يعثر عليها، فلكل عصر «عشتاره» ولكل زمن «جلجامشه»!
إذن رواية «جلجامش والراقصة» قراءة مختلفة لملحمة جلجامش التاريخية، التي أحيتها الكاتبة في زمننا، وبقراءة أخرى لتقول إن الزمان مهما تغيرت معطياته، ستظل الهواجس ذاتها، وما يحرك البشر وما يبث وجودهم هو نفسه: مسألة الموت والحب والخلود والخوف والحرب.
نشعر كأن الروائية قد نسجت خيطاً غير مرئي بين روايتها السابقة «قلب الملاك الآلي» وهذه الرواية الجديدة «جلجامش والراقصة»، لكن مع الاحتفاظ باستقلالية كل نص عن الآخر، واختلاف عالميهما. إلا أن ما قد يوصل بينهما هي هواجس الكاتبة المؤسسة على أسئلة مليئة بالقلق تتعلق بماهية ومصير الوجود الإنساني، مع أن كل ذلك مكتوب بطريقة سردية تتحقق فيها متعة الحكاية غير البريئة.
جاءت رواية «جلجامش والراقصة» بأسلوب ينحاز تارة للتاريخ فيوصلنا في سردية معاصرة إلى منابع التراث، ثم يسائل العلم والدين بطريقة فلسفية من دون أن تفقد الرواية ماهيتها السردية الأدبية المثيرة، فالرواية تدخل حقولاً متعددة من دون أن تفقد سلطتها «الأدبية» وانتماءها الأدبي السردي المعاصر.
إذن ربيعة جلطي لا تقدم رواية أدبية جمالية فقط، وإنما سردية معرفية تحيط بالحياة وبراهنية المجتمعات الإنسانية التي تعيد نوعاً من «الوجودية» الجديدة، تختلف عن وجودية الخمسينات، إنها وجودية الألفية الجديدة، بكل ما تطرحه التكنولوجيا اليوم من أسئلة خطيرة. ومن خلال قراءتنا ندرك بأن الأدب نافذة نطل منها على حياتنا بكل ما تحمله من أوجاع ومسرات وخوف وهشاشة.
ولكن ولو أن يوسف جلجامش في الرواية يكون قد أكل عشبة الخلود، لكنه يواجه السؤال الأبدي الذي ينتمي إلى الأخلاق والخلود والبحث والحب، في ظل عالم نشهد تداعياته في كل شيء، وربما قد تكون هذه بعض من سؤال الرواية: «ما جدوى الخلود في زمن يطغى فيه وعليه اللاجدوى واللامعنى والتوحش؟». تؤكد الروائية ربيعة جلطي ذلك قائلة: «إدراك الحقيقة دائماً غير مضمون العواقب».
فهل يا ترى بالأدب نستطيع إدراك ما فاتنا أو ما خفي عنا في هذه الحياة؟


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 32 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 25

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28