] الزمن الجميل : ملف الأخبار - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 22 أيار (مايو) 2021

الزمن الجميل : ملف الأخبار

السبت 22 أيار (مايو) 2021

سكت، أخيراً، دويّ الطائرات والمدافع والصواريخ، ليعلو صوت السياسة. لا يعني ذلك أن المعركة انتهت، بل إن فصلاً جديداً منها قد بدأ ربّما، إنما بأدوات وأساليب مغايرة. فصلٌ تبدي المقاومة استعدادها التامّ للتعامل معه، سواءً في المفاوضات حيث يُراد، على ما يبدو، انتزاع تنازلات منها لم تُحصّل بالحرب - وإن كان الموقف المصري يُولّد إلى الآن ارتياحاً غير مسبوق -، أو في الميدان، حيث تُظهر جاهزية عالية لصدّ أيّ عدوان إسرائيلي جديد، على قاعدة «إن عُدتم عُدنا»، و«لمعركتنا فصول لم تُكتَب بعد». هكذا، تنظر المقاومة إلى اليوم التالي، فيما على ضفّة العدو يَظهر التخبّط سيّد الموقف. أسئلة كثيرة تحضر على طاولة صانع القرار الإسرائيلي حول الفشل وأسبابه وكيفية حصْره والحدّ من تداعياته، سواءً في الدائرة الأولى الفلسطينية، أو في الدوائر الأبعد، في حين لا يبدو صبّ الاتهامات على بنيامين نتنياهو إلّا محاولة لصرف الأنظار عن الفشل المؤسّسي، الذي يكفي فزع الجيش من دخول القطاع برّاً للتدليل عليه. على أيّ حال، تُدرك إسرائيل أن ما بعد “سيف القدس” لن يكون كما قبلها، تماماً مثلما تُدرك ذلك فصائل المقاومة، وعلى رأسها «حماس» التي بدأت ترتيب أوراقها لإعادة علاقاتها مع سوريا، ضمن الاستثمار المتوقّع والمجدي في نتائج الجولة الأخيرة. أمّا الضفة الغربية وأراضي الـ48، فلن تعود إلى «القمقم» كما تحكي بعض التوقّعات، إذ إن الثأر الذي بدأ لن ينتهي قريباً، وما خَطَّتْه مواجهة أيار لن يكون من السهل محوه، بل سيحفر عميقاً، إن على صعيد وحدة الشعب الفلسطيني، أو المواجهة مع الاحتلال، أو الاشتباك مع «سلطة أوسلو»

- إسرائيل أمام الأسئلة الكبرى: لماذا فشلنا؟ يحيى دبوق

تنتظر إسرائيلَ في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار مع قطاع غزة، علاماتُ استفهام متشعّبة، في اتّجاهات ومستويات مختلفة، لا تقتصر على النتائج المادّية المباشرة للمعركة العسكرية فقط، بل وتطال أيضاً تداعياتها على ساحات أخرى، لا تقلّ أهمية، بل تزيد، عن الساحة الغزّية، على رغم تقدُّم الأخيرة سلّم الأولويات حالياً. الأسئلة التي تشغل صاحبَي القرار السياسي والعسكري في تل أبيب، بل وشغلتهما قبل وقف إطلاق النار، تتعلّق بأسباب الفشل وتأثيراته السلبية على تموضع إسرائيل في مواجهة الفلسطينيين، سواء في غزة أو الضفة أو القدس، وكذلك في أراضي العام 1948. ولعلّ في مقدمة تلك الأسئلة في دائرة التحدّي الأولى، أي الفلسطينية، حجم الضرر الذي لحق بقوة الردع الإسرائيلية في هذه المواجهة، والذي يبدو كافياً في ذاته لمنع مواجهة أخرى، يُرجَّح، مع هذا، أن لا يفصلها زمن طويل عن الأخيرة. أيضاً، سيكون على إسرائيل البحث في قوة الفصائل كما تبدّت في الجولة المنتهية، وإن كانت تل أبيب تملك أدوات منع ترميمها أو تعاظمها من جديد.

في الإطار نفسه، سيتركّز الاهتمام الإسرائيلي على بحث فاعلية المعادلة المتشكّلة نتيجة الحرب، وإن لم يجرِ الاتفاق على محدّداتها: إن عاودت إسرائيل إجراءاتها في القدس، وكذلك في الضفة، فهل ستبادر غزة إلى التحرّك عسكرياً لمنع الاعتداء؟ هذا يعني البحث في تأثير الدور الحمائي الغزّي للقدس والمقدسيين وقضاياهم، ومدى إضراره على المستوى الاستراتيجي بإسرائيل، ودوره في تراجع مكانة السلطة الفلسطينية التي تُعدّ أداة طيّعة لدى الاحتلال، بالوكالة عنه وبالأصالة عن نفسها، لقمع أيّ مقاومة فعلية ضدّه. وإذا كانت إسرائيل التزمت بفكّ مستوى من مستويات الحصار، بما يشمل إمكانية إعادة بناء ما تضرّر من دور سكنية وبنية تحتية في القطاع، إلّا أنها ستكون معنيّة، إن قررت المُضيّ قُدُماً في التزامها المشار إليه، في البحث في إمكانية استغلاله لانتزاع تنازلات من الفصائل في ما يخصّ معادلة «غزة - القدس»، التي لم تقرّ بها علناً، وإن كانت تدرك أن متطلّبات تفعيلها باتت متوافرة لدى غزة، نتيجة المواجهة.

ستهتمّ إسرائيل بدراسة أسباب الفشل الاستخباري الذي منعها من تحقيق إنجازات

كذلك، ستهتمّ إسرائيل بدراسة أسباب الفشل الاستخباري الذي منعها من تحقيق إنجازات تطلّعت إلى تحقيقها أيّاماً طويلة، علّها تكون قادرة على تحقيق صورة انتصار ما، كان يحتاج إليها المستويان السياسي والعسكري لإنهاء الجولة. هذا الفشل الذي أدّى إلى تراجع الكيان، وإقراره بشكل غير مباشر بدونية قدرته على تحقيق الأهداف في مواجهة غزة، على رغم الفارق المهول في الإمكانات العسكرية بين الطرفين، يَطرح تساؤلاً حول إذا ما كان ناجماً عن النماذج والقوالب الاستخبارية المعتمَدة في تقدير نيّات غزة وقدراتها، والتي ثبت فشلها، أو تمكّن الفصائل من التملّص من الحصار واحتواء الجهد الاستخباري المُسلَّط عليها، وإن كان الأكثر رجحاناً خليط من الأول والثاني، مع نسب مختلفة.
من الآن، ستضع إسرائيل إمكاناتها، وما يمكنها أن تضيف إليها من أصدقائها وأتباعها، على طاولة البحث تمهيداً لبلورة خطط ومسارات تهدف إلى تفريغ الانتصار الغزّي من مضمونه وفاعليته، مع الإدراك مسبقاً أن تأثيراته السلبية لا تقتصر على تموضع إسرائيل مقابل الدائرة الفلسطينية فقط، بل تنسحب كذلك على تموضعاتها الأخرى في ساحات أشدّ خطراً وتهديداً، بما لا يقارَن مع ما تُمثّله غزة. ومن بين المسارات التي يُقدَّر أن تلجأ إليها إسرائيل، في هذا الإطار، السعي إلى تحقيق أهداف من شأن إنجازها، من وجهة نظر تل أبيب، ترميم الردع، وربّما أيضاً تعزيزه، في مواجهة غزة. وهي غاية تُمثّل أولوية لدى إسرائيل في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار، بما لا يعني تقليص ما يُتوقَّع منها من أفعال تجاه الفلسطينيين فقط، بل وأيضاً إمكانية أن تلجأ إلى الإضرار بقادة الفصائل، علّها تُحقّق، عبر تغييبهم جسدياً، ما عجزت عن بلوغه خلال المواجهة نفسها. وهذا لا يعني بالضرورة عمليات صاخبة قد تتسبّب في استئناف القتال، إذ يمكن للاحتلال أن يشتغل على عمليات ببصمة مكتومة، ما يتطلّب العمل في اليوم الذي يلي على توفير القدرة العملياتية لتنفيذ اعتداءات كهذه. وعليه، سيكون على الفصائل، في المقابل، العمل على تأمين المنعة الاستخبارية المضادّة، والانكفاء العلني ما أمكن، كمظلّة حمائية ضرورية في هذه المرحلة، لمنع الاحتلال من تحقيق أهدافه. في مسار موازٍ، ستكون إسرائيل معنيّة، في اليوم الذي يلي، بدراسة موقع السلطة الفلسطينية، التي باتت في الوعي الجمعي لعموم الفلسطينيين، سلاحاً قمعياً يعمل بالوكالة عن الاحتلال لتحقيق أهدافه ورعاية مصالحه الأمنية. وعلى رغم أن الضرر اللاحق بالسلطة وبدورها الوظيفي، والذي يُعدّ من أهمّ النتائج المادّية للجولة الأخيرة، يتعذّر جبره، إلا أن إسرائيل ستبحث خياراتها في العمل على ترميم صورة رام الله في الوعي الفلسطيني.
في المحصلة، نتائج المواجهة في الساحة الفلسطينية متشعّبة ومتنوّعة ومتداخلة، ومنها ما تَحقّق بشكل كامل، فيما تنتظر نتائج أخرى معارك غير عسكرية يُفترض أن يخوضها الفلسطينيون لاستكمال تَحقّقها، فيما ستكون إسرائل معنيّة بمنعها أو خفض سقف توقّعات الفلسطينيين منها. لكن واحدة من أهمّ النتائج المُنجزة، وإن رفضت إسرائيل الإقرار العلني بها، هي معادلة «غزة - القدس»؛ فمن الآن فصاعداً، سيكون على صاحب القرار في تل أبيب استحضار ردّ فعل غزة على أيّ إجراء عدائي ضدّ القدس والمقدسيين.

- ... نتنياهو مسؤولاً؟ شمّاعة كذب متواصل / يحيى دبوق

واحدة من مميّزات هذه الحرب، توجُّه الإسرائيليين، بما يشمل الجمهور ووسائل الإعلام وعدداً كبيراً من شخصيات المستوى السياسي، بأصابع الاتهام إلى رئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، بالمسؤولية عن الفشل. والظاهر، في خلفية ما تَقدّم، أن جهات في المؤسّستَين العسكرية والأمنية تشترك في تصدير نتنياهو، سواء للجمهور الإسرائيلي أو لأعداء إسرائيل، بأنه السبب شبه الوحيد لما آلت إليه المواجهة، وذلك باستخفافه بالمصالح الإسرائيلية ومعاكسته إيّاه، كما تغليبه المصلحة الشخصية على العامة. وفي هذا الإطار، بدا الإعلام العبري في اليومين الماضيين، حتى قبل أن يتحدّد موعد وقف إطلاق النار مع غزة، مشبَعاً باتهامات واسعة النطاق ضدّ نتنياهو، في صورة تصريحات وتحليلات وتقارير وتسريبات وحتى كاريكاتيرات، فيما يكاد الاستثناء شبه الوحيد يكون متمثّلاً في المسؤولين المقرّبين من نتنياهو، والوسيلة الإعلامية الأكثر قرباً إليه: «القناة 20».

صحيح أن جزءاً من تلك المقاربة حقيقي، إلّا أن جزءها الآخر مغلوط تماماً. نتنياهو لا يمتنع عن فعل أيّ شيء يؤدي إلى تحقيق مصالحه الشخصية، حتى وإن كان على حساب مصلحة إسرائيل الدولة، لكن في المقابل، يبدو أن ثمّة خلطة من المصالح الشخصية لخصومه السياسيين، والتوجيهات الهادفة إلى ستر عيوب إسرائيل ومنع تظهير فشلها، تقتضي القول إن نتنياهو هو سبب الإخفاق، بما يُعدّ أقلّ سلبية على الأمن الإسرائيلي من الحديث عن فشل إسرائيل كدولة، أمام أعدائها. هنا، يمكن الإشارة إلى جملة حقائق لا يجب أن تغيب عن أعين المراقبين، وعلى رأسها أن إسرائيل لا يمكن لها ككيان أن تسمح لرأس الهرم السياسي فيها بفرض إرادته الشخصية عليها. نعم، يمكن لرأس الهرم، وهو نتنياهو في هذه الحالة، أن يستغلّ «إنجازاً» ما لمصلحته عبر توقيت تنفيذه، مثلما يفعل عندما يطلب من الجيش والمؤسسة الأمنية شنّ اعتداءات أو عمليات عسكرية أو اغتيالات، لكن لا يمكنه فرض شيء من أجندته الشخصية نفسها، إن لم تكن المؤسّسة العسكرية والأمنية معنيّة به.
كذلك الأمر لناحية الجهوزية والاقتدار العسكريَّين والإحاطة الاستخبارية. ساحة القرار هنا كانت وستبقى للمستويَين العسكري والأمني. وإن أقدم نتنياهو، بوصفه رأس المؤسسة السياسية، على تشويش هذا الاستعداد، وهو ما لم يحدث، فللجيش أكثر من وسيلة ضغط كي يدفعه إلى التراجع. واحد من الأسئلة التي يمكن أن تعترض رواية مسؤولية نتنياهو، هو سؤال الإخفاق الاستخباري في تقدير نيّة الفصائل في غزة وإمكان مبادرتها إلى البدء بجولة قتالية وتحمّل تداعياتها. فإلى ما قبل دقائق من تساقط صواريخ المقاومة على أهداف إسرائيلية في القدس المحتلة، كان كلّ مَن في إسرائيل، على خلفية تقديرات سائدة ومجمَع عليها لدى الاستخبارات، يؤكد أن حركة «حماس» والفصائل الأخرى غير معنيّة بنشوب مواجهة، أو أيّ عمل عسكري من شأنه التسبّب بمواجهة. هل كان نتنياهو خلف هذا التقدير الذي تسبّب للجيش الإسرائيلي بفقدان عامل المفاجأة؟

هل كان نتنياهو أيضاً هو الذي ردع الجيش الإسرائيلي عن المناورة البرّية؟

الأمر نفسه ينسحب على الاستعداد العسكري، الذي طالما أكد رئيس أركان الجيش، أفيف كوخافي، وكبار الضبّاط لديه، أنه وصل إلى حدٍّ يؤمّن لإسرائيل الانتصار في أيّ مواجهة تخوضها ضدّ جبهة واحدة أو جبهات متعدّدة متزامنة، بل إن كوخافي كان يصرّ، إلى حدّ الإفراط، على أن الانتصار سيكون حاسماً وواضحاً ولا لبس فيه. لكن في المواجهة الأخيرة، لم يتحقّق الانتصار أصلاً، حتى يُبحث في ما إذا كان واضحاً وحاسماً. وهو إخفاق عسكري لا يمكن عَدّ نتنياهو مسؤولاً عنه. ولعلّ من أبرز صور هذا الفشل، القصور في استهداف القيادات العسكرية للمقاومة، والتي تسبّبت بإطالة أمد المعركة أياماً، بعدما كان الأمل معقوداً على أن تتسبّب تصفيتهم في تغييرٍ ما في وعي الجمهور الإسرائيلي. هل كان نتنياهو، هنا، هو الذي دفع المستوى العسكري إلى الفشل، علماً بأنه صاحب مصلحة رئيسيّة، بمعنى المصلحة الشخصية، في الوصول إلى قادة المقاومة واغتيالهم.
من الاتهامات المساقة ضدّ نتنياهو، أيضاً، أن سياسته هي التي أدت إلى تعاظم قدرة فصائل غزة عسكرياً، ما أدى إلى صمود القطاع، وفشل اسرائيل في استعادة ردعها. إلّا أن المتابع للشأن الإسرائيلي يدرك أن سياسات إسرائيل المُتّبعة إزاء قطاع غزة منشأها الرئيسيّ هو الجيش الإسرائيلي نفسه، ومن ثمّ تماشت مصلحة نتنياهو الشخصية مع هذا التوجّه. الجيش الإسرائيلي هو صاحب نظرية انكفائية ترى أنه يتعذّر على إسرائيل هزْم الفصائل في القطاع، وأن كلّ ما عليها فعله هو تعزيز الردع وإطالة فترة الهدوء بلا مواجهات، بنتيجته. فرَض الجيش الإسرائيلي نظريته هذه على المستوى السياسي وعلى الجمهور، وزيّنها إلى حدّ باتت معه بلا منازع، إذ إن الخيار الآخر الذي قد يؤدّي إلى اجتثاث التهديد الغزّي، هو المناورة البرّية، مع ما تعنيه من توقّع عدد كبير جدّاً من القتلى والأسرى، فما بالك باحتلال متواصل للقطاع سيؤدي بدوره إلى انكشاف الجنود الإسرائيليين أمام عمليات المقاومة وإلى مزيد من القتلى؟ هل كان نتنياهو أيضاً هو الذي ردع الجيش الإسرائيلي عن المناورة البرّية، أم أن التهديد بتلك المناورة هو السلاح الذي يستخدمه الجيش لمنع المزايدات عليه، إزاء انكفائه عن غزة؟
في الخلاصة، الفشل يتعلّق بإسرائيل نفسها، بمؤسّساتها السياسية والعسكرية والاستخبارية، وكذلك بانكفاء مسؤوليها عن المواجهة خشية تداعياتها. إخفاء الأسباب، وتصويرها نتاجاً لسياسة شخص واحد ليس هو صاحب القرار الابتدائي والنهائي وفقاً لآلية بلورة القرارات في إسرائيل، هو تجهيل مقصود، تشترك فيه جهات تُخاصم نتنياهو. واللغط هنا قد يكون محل رهان مؤسّساتي، يتيح لإسرائيل حجب حقيقة الهزيمة. والفرق بين المطلبَين كبير جدّاً.

- الشهيد جمال الزبدة... زرع عقله ومضى!أكاديمي ومهندس / رجب المدهون

غزة | لم يكن البروفيسور جمال الزبدة، أستاذ العلوم الهندسية والميكانيكا، معروفاً على الساحة الفلسطينية كقيادي في المقاومة، إلا أنه كان يعمل في الخفاء على عين قائد أركانها، محمد الضيف، لتطوير قدراتها العسكرية، مترئّساً مجموعة مهندسين وخبراء محلّيين، يعملون ليل نهار لتحويل الموارد الشحيحة في قطاع غزة إلى أدوات متقدّمة تواجه جيش الاحتلال، الأمر الذي جعل الزبدة في نظر العدو بمكانة قريبة من الشهيد محسن فخري زادة بالنسبة إلى الجمهورية الإسلامية في إيران. الزبدة الذي خرّج جيلاً كبيراً من المهندسين من “الجامعة الإسلامية”، واستقطب سرّاً المئات منهم ليعملوا في البرنامج السرّي للمقاومة لتطوير أدواتها العسكرية وخاصة في ما يتعلّق بالصواريخ والطائرات المسيّرة، وضعه الاحتلال تحت الرادار منذ عام 2010، بعدما كان يشغل رئيس قسم الهندسة الميكانيكية في “الجامعة الإسلامية”، ليحاول اغتياله ويفشل في عام 2012 في آخر ساعات من الحرب.

حصل الزبدة، قبل 35 عاماً، على الدكتوراه في العلوم الهندسية والميكانيكا، من “معهد فيرجينيا للفنون التطبيقية” في الولايات المتحدة الأميركية، لتحصل بعدها عائلته على الجنسية الأميركية وتُقدَّم له العروض ليبقى في الولايات المتحدة، وخاصة أن أبحاثه تخصّصت في محرّكات الطائرات النفّاثة “f 16”، واعتُمد عليها لاحقاً لتطوير الطراز الأحدث من تلك الطائرات (f 35). وقد عَرفت أبحاثه في الديناميكا الهوائية و“جناح دلتا” (Delta wing)، المستخدَمة في صناعة الطائرات الحربية المختلفة، طريقها إلى عشرات المجلّات والكتب العلمية المتخصّصة لتصبح مرجعاً في تطوير المحرّكات. وفي عام 1989، طوّر الزبدة نموذجاً تحليلياً جديداً حول “تأثير الحركة وسرعة الصوت لأجنحة دلتا”، استُخدم كمرجع علمي في مؤلّفات لاحقة حتى ما بعد الألفية الجديدة.
وفي عام 1994، قرّر العودة إلى قطاع غزة للعمل كمحاضر في “الجامعة الإسلامية” في كلية الهندسة، ليبدأ مسيرة تطوير قدراته في الأبحاث العلمية، وينتقل ليصبح خبيراً في البرمجة بجوار علوم الهندسة. يقول أحد تلاميذه، الباحث سعد الوحيدي، إنه في ذات يوم سأل الشهيد ممازحاً: “عم (أبو أسامة) حدّ بسيب أمريكا وبيرجع على غزة؟”، فأجابه: “هذه البلاد أمانة وقضية يا سعد، ومَن عنده انتماء لقضيته لا أمريكا ولا 1000 أمريكا تغريه”. ويقدّم الزبدة نفسه على موقع “الجامعة الإسلامية” في غزة، في سيرته الذاتية، على أنه عمل في “إدارة المشروعات والإشراف عليها، ومتخصّص في ميكانيكا الموائع والمكونات الهيدروليكية، وديناميكا الموائع الحسابية والديناميكا الهوائية، ومجال الهندسة الإنشائية، وتطوير البرمجيات”. وفي عام 2006، بدأ عمله في المقاومة الفلسطينية بعدما انضمّ إلى فريق خاص وسرّي من المهندسين داخل “كتائب القسام” لتطوير الأدوات العسكرية للكتائب، بما فيها برنامج الصواريخ التي وصلت مدياتها في عام 2009 إلى 35 كلم، وفي عام 2021 لتغطّي كلّ فلسطين المحتلة.

أكاديمي ومهندس فذّ وعقلية جبّارة ومقاتل عنيد

ويقول تلميذه الوحيدي: “هذا الأكاديمي الحق، والمهندس الفذّ، والعقلية الجبّارة، والمقاتل العنيد، شخصية كانت تنتقل بروح الله ومعيّته من قاعات المحاضرات إلى المعامل والمختبرات، وتُرابط في ورش التصنيع والتطوير ومختبرات المقاومة ومعاملها، حتى أجرى الله على يديه وأيدي تلاميذه وإخوانه ما يسيء اليوم وجه العدو”.
ويضيف إن الشهيد الزبدة “انتصف يومه وانقسمت حياته؛ بين تدريس وإعداد آلاف المهندسين في مختلف تخصّصات كلّية الهندسة في الجامعة الإسلامية في غزة، وإعداد وتدريب المقاتلين والفنّيين والمهندسين ليكونوا روافع ودعائم للعمل العسـكري المقاوم الذي يدكّ اليوم قلب الكيان المسخ (تل أبيب)”. وخلال عمله في وحدات البحث والتطوير، ضمّ ابنه، المهندس أسامة، الذي يحمل الجنسية الأميركية، إليه، بحسب زوجته، التي كتبت بعد استشهاده تقول: “زوجي... صاحب الثلاثة والثلاثين عاماً، ولو قيست أعمارُ الرجال بأعمالهم لكان أكبرهم قدراً وعمراً... زوجي صاحب الجنسية الأميركية، الذي عرف أن أقصر الطرق إلى الله هي أن تفتديه ودينَه بروحك وعقلك ووقتك ومالك، فآثرها عمّا سواها... زوجي المهندس الذي قال فيه أبوه محدّثاً إيّاي: (زوجك اليوم يا خالي عمل شيء كان ممكن يعمل عليه أفضل بحث دكتوراه في عام 2019). لا أعلم ماذا فعل بالتحديد، ولكني على يقين أن العشر ساعات التي كان يقضيها يومياً في ورش التصنيع عائداً إليّ بوجه مُغبَرّ ويدين مُتّسختَين، منحته شهادة الآخرة، وأولئك كان سعيهم مشكوراً... زوجي الذي رحل باكراً جدّاً تاركاً لي قِطع فؤاده... سلامٌ عليك في دار الخلود”.
في اليوم الثاني من حرب “سيف القدس”، قصفت طائرات حربية إسرائيلية المكان المُحصّن الذي كان يوجد فيه الزبدة وعدد من مهندسي المقاومة تحت الأرض، بأكثر من 20 صاروخاً أميركياً من نوع “GBU”، المخصَّص لاختراق الأماكن المحصّنة، ليستشهد هو ورفاقه، وتنعاه كتائب “القسام”، بجوار قائد لواء غزة في “الكتائب”، باسم عيسى، رفيق المهندس الأول، يحيى عياش. وبعد استشهاد القائد الزبدة وابنه، نشر جهاز الأمن الداخلي للاحتلال، “الشاباك”، وصفاً للشهيد قال فيه إنه كان يمثّل قوة أساسية وراء شبكة إنتاج الصواريخ، وأنه أحد أبرز خبراء البحث والتطوير في “حماس”، إضافة إلى أنه شارك أيضاً في تطوير المشاريع لبناء قوة الحركة، بحسب ما ورد في موقع وزارة الخارجية الإسرائيلية.

- فلسطين... بعد الانتصار / منير شفيق

جاء وقف إطلاق النار المتبادل، بلا شروط، تثبيتاً للإنجازات والانتصارات التي حقّقتها انتفاضة القدس، وصمود أهالي حيّ الشيخ جراح، وانتفاضة فلسطينيي الـ 48، والتي لحقتها مقاومة شعبية في عدّة مواجهات في الضفة الغربية، على الرغم من التنسيق الأمني. وتمّ الإعلان عن وقف إطلاق النار من جانب المقاومة في قطاع غزة، تأكيداً لِمَا حقّقته من توسيع قواعد الاشتباك لتشمل القدس والمسجد الأقصى، وهو ما جعل العدوّ يتراجع عن مواصلة محاولات اقتحام الأقصى من خلال إغلاق باب المغاربة (من دون إعلان)، بعدما وصلت الصواريخ ــــ التي بلغت عدّة آلاف ــــ إلى تل أبيب والقدس وعسقلان ومناطق أخرى، ما أربك العدوّ وجعل ردود قصفه، مهما بلغت فداحتها، محكوماً عليها بالفشل، وهو ما يؤكد اضطرار قيادة العدو إلى قبول وقف إطلاق النار بلا شروط.

لهذا، حقَّ للفلسطينيين ومناصريهم ومشاركيهم وداعميهم أن يرفعوا شارات النصر، وأن يعلنوا ما تمّ تحقيقه، حتى الآن، نصراً. ولكنه نصرٌ تبدأ معه مرحلة جديدة من الصراع، ذلك أن الاحتلال ما زال قائماً، وما زال الكيان الصهيوني يأمل بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإتمام مشروعه الذي يقوم على أساس اقتلاع كلّ الفلسطينيين من فلسطين، وإحلال الكيان الاقتلاعي الاستيطاني العنصري مكانهم في كلّ البلد. ولكن، لكي تُستجلى المرحلة المقبلة من الصراع، لا بدّ من مراجعة سريعة لتفاصيل ما جرى في رمضان وبعده، وصولاً إلى اللحظة الراهنة.
وصل الوضع، الآن، إلى ما يلي: استمرار الحرب الرابعة لليوم الثاني عشر بين المقاومة في قطاع غزة وقيادة الجيش الصهيوني. وقد راحت عدّة دول عربية وأجنبية تتدخّل لوقف إطلاق النار في آن واحد. فوجدت أمامها مقاومة لها شروطها، منها التعهُّد بوقف اقتحام المسجد الأقصى، وبوقف الاستيلاء على بيوت «الشيخ جراح»، والتعهُّد بعدم القيام باغتيالات، مع تكريس قواعد اشتباك لا تقتصر على قطاع غزة، وإنّما تشمل القدس ومسجدها أيضاً.
أمّا الكيان الصهيوني الذي فوجئ بالحرب أصلاً، فقد راح يردّ على قطاع غزة، بكلّ ما يمتلك من قوّة نيران، حتى زاد عدد الشهداء على المئتين، وبلغ عدد الجرحى الآلاف، فيما الدمار واسع جداً. ولكن ذلك لم يؤدِّ، على أيّ حال، إلى وقف المواجهة، أو إبداء المقاومة استعدادها لوقفها من دون فرض شروط على العدوّ وإقرار الأخير بذلك علناً، الأمر الذي جعل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، يَصعد على شجرة لا يعرف كيف ينزل عنها. وأصبح التصعيد العبثي ملجأه الوحيد.
بكلمة: يمكن القطع أن المقاومة في قطاع غزة كسبت الحرب حتّى لو لم تفرض شروطها، وذلك بتوقّف إطلاق النار من دون شروط. فما تحقَّق من إنجازات تحقَّق على الأرض. وبهذا، نشأت معادلة: «وإن عدتم عدنا». وهو ما جعل من الصعب على قيادة الكيان الصهيوني القبول بوقف متبادل لإطلاق النار، بلا شروط، لأن خسارتهم أصبحت واضحة.
على المستوى الآخر، فإن تطوُّر الانتفاضة، بأشكالها المختلفة خلال شهر رمضان وفي ظلّ صواريخ المقاومة، حقَّق ما لم يحصل منذ النكبة عام 1948، أي وحدة الشعب الفلسطيني في كلٍّ من الداخل الفلسطيني المجزّأ وفي الخارج، ولا سيما انضمام شباب الـ 48 إلى الاعتصام في المسجد الأقصى، وانتفاض اللد وحيفا وعكا والناصرة. وهو ما أسهم، بدوره، في انطلاق مقاومة شعبية، كانت قد تأخّرت في الضفة الغربية، بسبب موقف القيادة الرسمية واستمرار التزامها باتفاق التنسيق الأمني.
وهنا، يمكن القطع بأن انتفاضة باب العمود، وصمود أهالي «الشيخ جراح»، ونجاح المرابطين في المسجد الأقصى، ومواجهات شباب القدس، وتدخُّل صواريخ قطاع غزة، حقّقت إنجازات وانتصاراً، ولا سيما في إغلاق باب المغاربة للحيلولة دون تنفيذ جماعات الهيكل تهديدها بإعادة اقتحام المسجد في الأسبوع الماضي، تنفيذاً لعدّة مناسبات دينية كانت تعدّ لها.

فرضت المقاومة قواعد اشتباك لا تقتصر على قطاع غزة، وإنّما تشمل القدس ومسجدها الأقصى

من هنا، فإن المواجهات والانتفاضات الشعبية التي اندلعت في رمضان، وما زالت مستمرّة حتى الآن، شملت كلّ شعب فلسطين في الداخل والخارج، وحقَّقت إنجازات مهمّة يمكن أن تتصاعد في المرحلة المقبلة. ولكن المشكلة تبقى في قيادة سلطة رام الله التي ستتّجه إلى التهدئة، تعلُّقاً منها بأوهام الحلول السياسية والوعود الأميركية.
على أن ثمّة نقطتَين بحاجة إلى وقفة لمنع الذين في قلوبهم مرض مِن أن يعودوا للصيد في الماء العكر تعويضاً لِمَا حلّ بكلّ طروحاتهم السابقة من هزائم سياسية مروّعة، وهم يشهدون انتفاضة باب العمود، وصولاً إلى الصواريخ التي ضربت تل أبيب. لقد تهاوت الموضوعة القائلة إن الكيان الصهيوني لم يعد العدوّ الأول للعرب والمسلمين، وإن الهرولة نحو التطبيع مع هذا العدوّ إلى حدّ التبعية له، هي المستقبل العربي والإسلامي القادم. فإذا بانتفاضة القدس وفلسطين وصواريخ المقاومة تعيد البوصلة إلى اتّجاهها الصحيح باعتبار الكيان الصهيوني، الذي تدهورت سمعته العسكرية والسياسية والمعنوية، العدوّ. وقد ظنّ هؤلاء أن في استطاعة الكيان حمايتهم، وهو الذي صعد على شجرة القوّة ولا يعرف الآن كيفية النزول عنها.
النقطة الأولى: التشكيك بموقف محور المقاومة، ولا سيما «حزب الله»: لماذا لم يتدخّل عسكرياً لمساندة غزة؟ وذلك من دون أن يجرؤوا على الدعوة إلى إنقاذ غزة، لأن غزة، وقفت ندّاً، وهي التي بادرت بإطلاق الصواريخ، وحقّقت نصراً، قبل أن يتوقّف القتال. وقد راحت أميركا ترسل لها الوسطاء لتقبَل بوقف إطلاق النار، فإذا بها تضع شروطاً إذا قبل بها نتنياهو يُمرّغ رأسه في الوحل. فالتدخل يكون في حالتين: حالة إنقاذ مقاومة قطاع غزة من سحق، وهذا غير وارد، وليس بوارد. والحالة الثانية حين تُفتح أبواب الحرب على مصراعيها للتحرير الكامل، وليس لتحقيق أهداف جزئية يمكن تحقيقها، أو أغلبها، من دون حروب إقليمية كبرى. ولعلّ هذا اليوم آت، بظروف أخرى، ومعادلة قوى أخرى. فالوحدة بالمشاركة الجماعية تتحقّق، وفق سُنن الحرب والسياسة، في حالة الهجوم العسكري العام، وليس في مراحل قبل ذلك.
والنقطة الثانية: عدم الاعتراف بفشل العدو بسبب الغموض في وقف القتال، فيمكن التلاعب بتقدير الموقف، وذلك إلى جانب عدم الإعلان عمَّا يقوم به من تنازلات وتراجعات، فبعضها طبّقها عملياً من دون الإعلان، كإغلاق باب المغاربة في وجه المستوطنين الذين أعدّوا لاحقاً لاقتحام المسجد الأقصى حيث لم يُعلن عن هذا الإغلاق، كما لم يتمّ إعلان تأجيل ترحيل أهالي «الشيخ جراح»، إذ أُبقي مؤرجحاً.
ثم يتمّ هذا الاستغلال هنا، بإبراز ما وقع من شهداء وجرحى وخسائر مادية من خلال القصف الجوي الصهيوني. وذلك ليقولوا إن الخاسر في هذه المواجهة كانت غزة وليس «إسرائيل». وهنا، لا يسألون، إذا كان العدو قد انتصر، لماذا لم يفرض شروطه لوقف إطلاق النار؟ ولماذا لم يحتلّ قطاع غزة ويسحب سلاحه، كما كان يحدث أيّام «انتصاراته العسكرية»؟ ثم لا يلحظون ما لَحِق بسمعته من سوء في نظر الرأي العام العالمي الذي سيكون من أسباب هزيمته النهائية.
لا شكّ في أن ما حدث في فلسطين خلال شهر رمضان وما بعده، شكّل في ضخامته وأبعاده وتداعياته نقطة فاصلة بين مرحلتين، وذلك بغضّ النظر عن التفاصيل والأشكال التي انتهى إليها القتال في حرب غزة، كما بغضّ النظر عن كيفية استمرار ما حدث من انتفاضات ومواجهات في القدس ومناطق الـ 48 وقطاع غزة والضفة الغربية.
وما دام وقف إطلاق النار قد ثبّت انتصار المقاومة من دون أن يعترف الكيان الصهيوني بفشلٍ أو بهزيمة، فإن ما بعده ستَحكمه قاعدة «وإن عدتم عدنا»، أي إذا عاد العدو لاقتحام المسجد الأقصى، أو ذهب إلى ترحيل أهالي الشيخ جراح، ولا سيما إذا عادت الانتفاضة، فالسمة الشعبية التي تكرّست هنا تحمل في طياتها أيضاً قاعدة «وإن عدتم عدنا»، أي إذا حاول الكيان الصهيوني العودة إلى كلّ ما أدّى إلى الانتفاضات والصدامات، الأمر الذي يجب تكريسه في المرحلة المقبلة باعتبار الأصابع على الزناد في قطاع غزة، وباعتبار الانتفاضات والمقاومة «وراء الباب» في القدس والضفة وقطاع غزة ومناطق الـ 48.
كان من المفترض أن تتواصل الانتفاضات بعد أن تضع الحرب أوزارها في قطاع غزة، وذلك لعدم إعطاء الكيان الصهيوني فرصة لإعادة تنظيم صفوفه التي اضطربت في ميدان المواجهة، كما على المستويَين الداخلي والدولي إلى جانب تدهور سمعته أمام الرأي العام العالمي. وكان من المفترض أيضاً، أن تُترجم وحدة الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الخارج، بتشكيل جبهة متّحدة من الفصائل وقيادات من شباب الانتفاضات، تحت استراتيجية مواصلة الانتفاضة الشاملة حتى دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، وبلا قيدٍ أو شرط، في ظلّ استعادة السردية الفلسطينية: «كلّ فلسطين لنا»، وتحريرها من النهر إلى البحر.
طبعاً، هذا الافتراض، أو المفترض، يتهدّده موقف الرئيس الفلسطيني وقيادة «فتح» إذا ذهبا إلى التهدئة واكتفيا بما تحقَّق، وفتحا الباب أمام أوهام التسوية وحلّ الدولتين التصفَوي. وهو ما ستضع أميركا كلّ ثقلها وراءه، وتحشد دعماً دولياً ودعم قيادات عربية لتعزيزه، الأمر الذي سيشكّل طعناً للإنجازات التي حقّقتها «انتفاضة فلسطين»، وتمييعاً للموقف الفلسطيني وعوْداً لانقسامه، وإنقاذاً للكيان الصهيوني من المأزق الذي راح يطبِق عليه من كلّ جانب.

- حصر الأضرار متواصل: غزة على طريق «قيـامة» جديدة / يزن منصور

غيّرت الحرب الإسرائيلية على غزة معالم المدينة كلّها. طال الدمار الشوارع الحيوية والرئيسيّة، كشارع عمر المختار، والوحدة، والرشيد، إلى جانب تدمير شبكات الصرف الصحي والمياه وتصريف الأمطار. تدميرٌ كشف عن الوجه الحقيقي لهذه الحرب؛ فهي ليست محاولة لاستهداف البُنى العسكرية للمقاومة فحسب، بل وأيضاً البنية الأساسية للقطاع كالمباني الحكومية والسكانية ذات القيمة المرتفعة (الأبراج)، والتي كانت الأكثر تضرُّراً.

عبّرت إسرائيل صراحةً عن إرادتها استهداف الأنفاق الأرضية والبنى التحتية للمقاومة الفلسطينية. وقد كان من الممكن أن يُفهم ذلك في إطار سلسلة الاستهدافات للمناطق الحدودية، غير أن استهداف المفترقات والشوارع الرئيسيّة داخل محافظات القطاع الخمس، يضع علامات استفهام كبيرة حول هذا العدوان وغاياته. تشير التقديرات الحكومية إلى أن حجم الأضرار يتجاوز خسائر الحروب الثلاث السابقة، وخصوصاً أن التدمير شمل المنشآت الحكومية والمدنية والبنى التحتية، وضاعف أزمة الكهرباء. وفي هذا الإطار، قال مصدر في وزارة الأشغال العامة والإسكان في قطاع غزة، لـ»الأخبار»، إن «عملية حصر الأضرار لا تزال مستمرّة وتحتاج إلى بعض الوقت، لكن التكلفة التقديرية لإعادة إعمار ما دمَّره الاحتلال، لن تقلّ عن 500 مليون دولار كحدٍّ أدنى». وأضاف المصدر: «نحن ما زلنا نعالج دمار الحرب السابقة (2014). وعلى رغم ذلك، جاءت هذه الحرب لتُلحِق خسائر مضاعفة بالوحدات السكنية والبنية التحتية والمنشآت الصناعية بشكل يصعب تصوّره، بما يعطي دلالة واضحةً على أن الاحتلال يحاول إبقاء الحياة في غزة تسير بالحدّ الأدنى ومحلَّ احتياج دائم ومستمرّ». وعبّر المصدر عن مخاوفه إزاء عرقلة إسرائيل محاولات إعادة إعمار القطاع، وإعاقة وصول التبرّعات من قِبَل الدول والمؤسسات المانحة إلى غزة، من خلال وضع آليات رقابية مشدّدة وشروط معقّدة لإدخال مواد البناء أو الآلات.

جاءت هذه الحرب لتُلحِق خسائر مضاعفة بالوحدات السكنية والبنية التحتية والمنشآت الصناعية في غزة

ولا يخفي العدو سعيه إلى استنزاف القطاع على المستوى الاقتصادي لمدّة طويلة في عملية إعادة الإعمار، وذلك لدواعي إشغال المقاومة عن استكمال مشروع تطوير قدراتها العسكرية، واستنزاف الطاقات لأمد بعيد من خلال خلق المزيد من الأزمات الداخلية وإنهاك البنى التحتية. وطبقاً لما قاله وكيل وزارة الحكم المحلي في غزة، أحمد أبو راس، في تصريحات صحافية، فإن أكثر القطاعات تضرُّراً على صعيد البنية التحتية، هي الشوارع والطرق والأرصفة، ومن ثمّ شبكات الصرف الصحي ومضخّات الصرف الصحي الخاصة بالأحياء والمدن، ثمّ آبار المياه الجوفية وشبكات تصريف مياه الأمطار الموجودة في مختلف مناطق القطاع. وأوضح أبو راس أن مدينة غزة كانت الأكثر تضرُّراً جرّاء العدوان، باعتبارها المركز التجاري والرئيسي للقطاع، إذ كان هدف الاحتلال واضحاً بتقطيع أوصال الأحياء ومحاولة التركيز على وسط المدينة، وتحديداً حيّ الرمال الشمالي والجنوبي، وهدم البيوت والمحال التجارية والأبراج.
وقبل ساعات من إعلان التهدئة التي دخلت حيّز التنفيذ فجر الجمعة، أكد رئيس سلطة المياه، مازن غنيم، أن الاحتلال باستهدافه البنية التحتية، سيفاقم الوضع الإنساني الصعب، وسيعيد الكارثة التي كانت تتهدَّد حياة الغزّيين. وقال غنيم، خلال مؤتمر صحافي عقده في رام الله، إن العدوان على غزة تسبّب في نقص ما نسبته 50% من كمّيات المياه الصالحة للاستخدام المنزلي المزوَّدة للمواطنين، نتيجةَ تضرُّر البنى التحتية ومصادر المياه والخطوط الناقلة والشبكات والمضخّات والخزّانات، إمّا بشكل مباشر أو غير مباشر.
ولمس المواطنون، منذ اليوم الأوّل للحرب، سرعةَ تدخُّل المجالس البلدية المحلية في قطاع غزة، لإعادة إصلاح الطرق المتضرّرة من خلال طمر الحفر وإزالة الركام، إلى جانب بعض الحلول السريعة للطرق الرئيسيّة الأكثر تضرُّراً. وفي منشور لها عبر موقع «فايسبوك»، قالت الكاتبة هبة الآغا، مُعقّبةً على قيام بلدية غزة بإعادة فتح الطرق الرئيسيّة باستخدام إمكاناتها المتواضعة: «شكراً بلدية غزة هاشم على هذا الجهد... هذا هو الصمود الحقيقي». ولا توجد تقديرات واضحة حول المدّة الزمنية التي يمكن أن تستغرقها عملية إعادة إعمار البنية التحتية المتضرّرة وإيواء النازحين، غير أن المسألة مناطة بمدى توفُّر الأموال والمواد الخام. لذا، يتطلّع المسؤولون الحكوميون إلى ضرورة أن تضمن الجهات السياسية المخوّلة بحثَ التهدئة، إقرار نصوص واضحة متعلّقة بإعادة الإعمار وتوفير ضمانات حقيقية لذلك، إلى جانب رفض آليات الرقابة على برنامج إعادة الإعمار والتي كانت تحدّ في السابق من إكماله.

- «حماس» تبدأ خطوات العودة إلى سوريا

بعد سنوات من القطيعة بين حركة «حماس» والجمهورية العربية السورية، تستعدّ الحركة لاستثمار الإشارات الإيجابية الصادرة عن الرئيس بشار الأسد، في شأن السماح لـ«الحمساويين» بالعودة إلى الأراضي السورية بعد سنوات من مغادرتها، وذلك في أعقاب سلسلة مشاورات تنوي عقدها مع أطراف في محور المقاومة خلال الفترة القريبة.

وبحسب مصدر قيادي في «حماس» تحدّث إلى «الأخبار»، فإن لدى الحركة قراراً مسبقاً ببحث عودتها إلى الأراضي السورية عندما تحين الفرصة المناسبة، «وفي ضوء الرسائل الإيجابية التي نقلها لنا عدد من قادة فصائل المقاومة في سوريا عقب لقائهم الأخير بالرئيس بشار الأسد، وترحيبه بجميع الفصائل بدون استثناء، وتوجيهه التحية للحركة»، فإن هذا القرار سيتعزّز. وأشار المصدر إلى أن الحركة ستبدأ مشاورات مع حزب الله والجمهورية الإسلامية الإيرانية خلال الفترة القريبة، لجسّ نبض السوريين حول عودة علاقة الحركة معهم، متوقّعاً أن تكون الردود السورية إيجابية، ومن دون شروط مسبقة، الأمر الذي سيفتح الباب لعودة العلاقات، كخطوة أولى تتبعها عودة قيادات من الحركة إلى الأراضي السورية في وقت لاحق. ولم يُخفِ المصدر وجود محاولات سابقة من قِبَل أطراف في محور المقاومة لترميم العلاقة بين الحركة والسوريين، غير أن تلك المحاولات اعتراها عدد من العقبات، آملاً أن يكون الانتصار الذي حقّقته المقاومة في غزة خلال معركة «سيف القدس» بوّابة لإزالة العقبات المذكورة، في ظلّ الاتفاق على برنامج المقاومة ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وتمسّك الحركة بمبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول العربية، وتعزيز العلاقات معها بهدف تجميع طاقات الأمة لدعم المقاومة.
وكان نائب الأمين العام لـ»الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، أبو أحمد فؤاد، قد كشف، أوّل من أمس، عن تطوّر في الموقف السوري جلّاه لقاء الرئيس الأسد بفصائل المقاومة الفلسطينية، عندما قال: «أبواب سوريا مفتوحة لكلّ فصائل المقاومة بغضّ النظر عن تسمياتها»، مُوجّهاً التحية إلى مقاومي «حماس» و»الجهاد الإسلامي» وكلّ الفصائل. وعلى الفور، جاء ردّ أسامة حمدان، القيادي في «حماس»، إيجابياً، بالقول: «هذا الموقف ليس غريباً وليس مفاجئاً، والمقاومة تعرف هذا الموقف، ومن يردّ علينا بتحية نردّ عليه بمثلها بل وخير منها، ونأمل أن تظلّ دمشق كما كانت عاصمة للمقاومة وداعمة للحق الفلسطيني».

- مصر تستعدّ لإعادة الإعمار

عتزم مصر لعب دور محوري في عملية إعادة إعمار غزة، بما يتّسق مع الأولوية التي يعطيها الرئيس عبد الفتاح السيسي للملفّ الفلسطيني بشكل استثنائي خلال الفترة الحالية، من خلال جهاز المخابرات العامّة، اللاعب الأكبر في الملفّ، والمحرّك الرئيسيّ والوسيط في عمليات التفاوض مع الأطراف في تل أبيب وغزة والضفة.

وبعد نجاح جهود تثبيت الهدنة على المدى القصير، تُركّز المخابرات، الآن، على ملفّ إعادة الإعمار، الذي ستضطلع فيه بجهود استثنائية، ليس عبر تمرير مستلزمات البناء من معبر رفح فقط، بل وأيضاً من خلال تحديد آلية تدفّق الأموال وطرق المحاسبة، فضلاً عن تنسيق التبرّعات والمستلزمات التي سيتمّ إدخالها.
وتعتزم المخابرات إسناد الملفّ بشكل رئيسيّ إلى الشركات التابعة للجيش، مع تقليص النفوذ الخاص بالشركات التركية، وتعزيز التعاون مع الأطراف الخليجية التي ستقوم بإرسال مساعدات إلى غزة خلال الأسابيع المقبلة، ولا سيما الكويت والسعودية. ومن بين ما تعتزم المخابرات التنسيق في شأنه، إعادة هيكلة أجزاء من القطاع، و»ضبط الشريط الحدودي من الجانب الفلسطيني بشكل أكثر جدّية» وفق التوصيفات الرسمية، وخاصة مع الاستعداد لافتتاح مدينة رفح الجديدة التي قام الجيش ببنائها، في وقت سيتمّ فيه الدفع بشركات مدنية، مع إسناد دور إلى الهيئة الهندسية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
وبحسب مصادر تحدّثت إلى «الأخبار»، فإن ثمّة رغبة مصرية في عودة العلاقات مع حركة «حماس» وباقي الفصائل الفلسطينية، بما يحمي مصالح القاهرة، التي تسعى أيضاً إلى ضمان استمرار الهدنة. وعلى رغم وجود مخاوف مصرية في هذا الإطار، ولا سيما بسبب استمرار إسرائيل في التلويح بتفعيل سياسة الاغتيالات، إلا أن مصر قرّرت الاستمرار في جهودها في الفترة المقبلة من أجل تثبيت هدنة طويلة الأمد، والدفع نحو عقد مؤتمر يضمّ أطرافاً دولية معنيّة بالملفّ الفلسطيني، مع دعوة أمير قطر، تميم بن حمد، إلى حضوره، أو عقد مفاوضات لـ»السلام» بمشاركة مصرية ــــ أردنية.

- صنعاء تحتفي بالنصر الفلسطيني / رشيد الحداد

صنعاء | انتصرت فلسطين للقدس والمقدسيين ولكلّ العرب والمسلمين. نصرٌ احتفت به العاصمة اليمنية، صنعاء، يوم أمس، إذ اعتبرت وقف إطلاق النار من جانب الكيان الإسرائيلي اعترافاً منه بهزيمته النكراء، أمام ضربات فصائل المقاومة الفلسطينية الصاروخية التي غيّرت الموازين، لتحقّق معركة “سيف القدس” أولى الانتصارات العسكرية على طريق التحرير، ولتعيد إيقاع الصراع العربي - الإسرائيلي إلى سابق عهده، بأسقاطها وهمَ تقسيم فلسطين، وإيقاف جرائم التهجير في حقّ أصحاب الأرض.

وفي هذه المناسبة، أكدت حركة “أنصار الله”، عبر مكتبها السياسي في صنعاء، أن معركة “سيف القدس قضت على ما حِيك لسنوات من مخطّطات خبيثة لتصفية القضية الفلسطينية من قِبَل أميركا وإسرائيل والمطبّعين الخونة، ورغماً عن أنفهم، ها هي تعود إلى الواجهة قضيةً مشرقةً بانبلاج فجر جديد لهذه الأمة”. وبارك المكتب السياسي، في بيان تلقّت “الأخبار” نسخة منه، للشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة “الانتصار التاريخي في معركة سيف القدس”، معتبراً أن “هذا الانتصار يليق بتضحيات جسام دفعها ويدفعها الشعب الفلسطيني في سبيل حقّه المشروع، ومن خلفه الأمّة في التحرير والاستقلال ودحر الاحتلال الإسرائيلي عن كل فلسطين”. ورأى أن “معركة القدس صنعت تحوّلاً تاريخياً لمصلحة فلسطين والقدس والأقصى، ووضعت كيان العدو الإسرائيلي على حافة الهاوية، وحسبها معركة القدس أنها من أوّل ضربة كانت المقاومةُ ممسكةً بزمام المبادرة وظلّت كذلك حتى ألجمت العدوّ وألجأته إلى وقف عدوانه الغاشم على غزة دون أن يحقّق أيّ هدف”. من جهته، بارك الناطق الرسمي باسم الحركة، رئيس وفدها التفاوضي محمد عبد السلام، للشعب الفلسطيني ومقاومته إحراز النصر في معركة “سيف القدس”، قائلاً إن “جولة من المعركة انتهت بكثير من العِبَر التي على الأمّة الأخذ بها تحضيراً لما هو أكبر وأعظم”. وأضاف: “الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة، ومِن موقع القوّة والاقتدار وبفضل الله، يُرغم كيان العدوّ على وقف إطلاق النار، ويفرض عليه هروباً من جحيم ما ينتظره إنْ استمرّ في عدوانه الغاشم على غزة. معركة سيف القدس زلزلت كيان حارس الأسوار، وصنعت تحوّلاً كبيراً لمصلحة القدس والأقصى، وفي ذلك نصر له ما بعده”. وتابع: “بعدما أدار العالم ظهره لفلسطين ردحاً من الزمن، جاءت معركة سيف القدس لتذكِّر بقضيّة شعب كان ردّه صاعقاً بانتفاضته الصاروخية التي ضيّقت الخناق على كيان العدوّ، وصفعت المطبّعين وأسقطت أوهامهم. وتَجدَّد للأمّة وشعوب المنطقة ما تعتقده في فلسطين قضيّة مكتوب لها أن تنتصر، وأن الاحتلال إلى زوال بإذن الله”.

- العصيّ الثابت في القضيّة الفلسطينيّة، اليوم وغداً، وبعد غد / اسعد ابو خليل

القضيّة الفلسطينيّة منذ نشوئها كانت حجر عثرة: حجر عثرة أمام المشروع الصهيوني المتوسّع والمتكبّر، وأمام الأنظمة العربيّة التي أرادت منذ الثلاثينيّات إخماد غضب الشعب الفلسطيني. وتلاقت مصالح الأنظمة العربيّة مع مصالح دول الغرب والصهيونيّة لتسكين الشعب الفلسطيني وإطفاء جذوة ثورته. حيل وخطط ومؤامرات تلاقت في السعي للإجهاز على العمل الفلسطيني المسلّح. في انتفاضة ١٩٣٦ - ٣٩، توسّط زعماء العرب الموالون للاستعمار البريطاني (من لبنان إلى السعوديّة) لتهدئة الشعب وإقناعه بضرورة إعطاء الفرصة للمستعمر البريطاني من أجل أن يحدّ من اندفاعة ثورة الفلاحين على أرض فلسطين (وهذا المُستعمر هو نفسه الذي استعمر فلسطين ومنح «وعد بلفور» لأقليّة صغيرة من السكان اليهود).

والقضيّة الفلسطينيّة تقف حجر عثرة أمام النظام الاحتلالي (بالواسطة) الذي أقامته أميركا وإسرائيل في مسيرة أوسلو. سلطة السرقة والنصب والتنسيق الأمني في رام الله تستطيع أن تستمرّ ما دام هناك قمع للقضيّة الفلسطينيّة وحركات المقاومة. لهذا، فإنّ سلطة الاحتلال والراعي الأميركي سمحا بخلق جهاز شرطة فلسطيني وتسليحه بما يساهم في قتل الشعب الفلسطيني لو حاول الانقلاب على أوسلو أو أن يقاوم الاحتلال - وهذه عقليّة أميركا نفسها في تسليح الجيوش العربيّة في الدول المجاورة لفلسطين: المسموح هو قمع الشعب وليس إطلاق رصاصة واحدة ضد إسرائيل. تسمح الإدارة الأميركيّة لجوزيف عون في لبنان باستعمال السلاح والتجهيز الأميركي لمطاردة شوالات البطاطا وأكياس مساحيق الغسيل «برسيل» والتنباك المُعسّل على الحدود الشرقية، على أن يمتنع عن إطلاق رمية حجر على العدو الإسرائيلي، ولو اخترق الحدود اللبنانيّة.
أولاً، وحدة الشعب الفلسطيني. استطاع الشعب الفلسطيني في يوم ١٨ أيّار، بعد ثلاثة أيّام من ذكرى النكبة، أن يعلن يوم الإضراب العام ضد وحشيّة الاحتلال. ويوم الاحتجاج هذا كان فعل توكيد على وحدة الشعب الفلسطيني بعد أكثر من قرن من محاولات التهجير والتفتيت والتقسيم وزرع الشقاق. إنّ مشاركة الشعب الفلسطيني في أراضي ١٩٤٨ في الاحتجاج في فلسطين، دحض إلى غير رجعة كلّ المؤامرات لتقسيم الشعب الفلسطيني. ووحدة الشعب الفلسطيني ليست حالة عاطفيّة، بل هل تنسف أسس كل منطق ما يُسمّى بـ»حلّ الدولتيْن». وكان جارد كوشنر قبل أشهر فقط، عندما أطلق «اتفاقيّات إبراهيم»، يعلن أنّ عهد إيلاء القضيّة الفلسطينيّة قد ولّى، وأنه يمكن حلّ الصراع العربي - الإسرائيلي من دون التطرّق إلى القضيّة الفلسطينيّة. وقد وافقه على نظرته هذه طغاة السعوديّة والإمارات والبحرين والمغرب. و»حل الدولتيْن» (والذي بات ركناً في مؤامرة السلام العربي) يفترض أنّ الوضع في إسرائيل حسنٌ وأنّ هناك ديمقراطيّة إسرائيليّة يتمتّع فيها المواطنون بالحقوق والواجبات، ويحق لعربي (صهيوني صفيق) حتى أن يصل إلى المحكمة العليا، وأنه لم يتبقَّ من حلّ للقضيّة إلا إقامة دويلة بسلطات بلديّة في الضفة والقطاع (الطريف أنه قبل أيّام فقط من اندلاع المواجهات في اللد وفي غيرها من مدن فلسطين ١٩٤٨ أنّ الكاتب اللبناني في صحيفة الأمير محمد بن سلمان، «الشرق الأوسط»، حازم صاغية، كتب أنه من حق بنيامين نتنياهو أن يزهو بوضع الفلسطينيين في أراضي ١٩٤٨). كانت كلّ إيديولوجيّة «الدولتيْن» تحتاج إلى فرضيّة تبنّي الشعب الفلسطيني في أراضي ١٩٤٨ العقيدة الصهيونيّة والمواطنة الإسرائيليّة. لكن المشروع الصهيوني نفسه لا يعترف بذلك ولا بالمواطنة، ولا يستطيع. إنّ قانون القوميّة في عام ٢٠١٨ اعترف بكثير من الصراحة بأنّ حق تقرير المصير هو حق حصري باليهود - هذا كان في أساس وعد بلفور طبعاً، والذي لم يمنح الفلسطينيّين إلا حقوقاً بلديّة في جمع القمامة وحراسة الشوارع. لم تكن الدولة الليبراليّة ذات الملامح التكافليّة (المزيّفة) في عام ١٩٤٨، تقلّ عنصريّة وعدوانيّة عن دولة نتنياهو. لكن الدولة الصهيونيّة الحديثة لم تعد تكترث لمخاطبة الغرب بلغة تلطّف من عنفيّة وعنصريّة المشروع الصهيوني. إنّ مروحة الأحزاب السياسيّة الصهيونيّة مالت كثيراً نحو اليمين ومتوجّبات المنافسة الانتخابية تقتضي منافسة في العنصرية والعدوانيّة. «حزب العمل»، الذي كانت «منظمّة التحرير» تعوّل على فوزه في الانتخابات لم يعد يحصل على مقاعد تفوق عدد أصابع اليد الواحدة. «حزب العمل» كان أفضل جهاز دعاية لتقديم المشروع الصهيوني في الغرب، والترويج له بحجاب ليبرالي. و»حزب العمل» ليس إلا حزب نتنياهو لكن بخطاب موجّه إلى الغرب.
ووحدة الشعب الفلسطيني في الاحتجاجات الدائرة ستفرض على أجندة أيّ نقاش في الحلول المقترحة للقضيّة الفلسطينيّة مواجهة حقيقة نفور الشعب العربي (بعد كل هذه العقود) من الدولة اليهوديّة. ليس في مؤامرة «مشروع السلام العربي» أي نقطة تخاطب وضع الشعب العربي في داخل الخط الأخضر. النظام السعودي قدّم للدولة الصهيونيّة خدمة في إسباغ الشرعيّة على ديمقراطيّتها وعلى مزاعم الدولة الباطلة عن المساواة تحت الصهيونيّة. مشروع الدولتيْن اتضح زيفه أمام أنظار العالم: للمرّة الأولى باتت أصوات صهيونيّة في الغرب تلفت النظر إلى عدم رضى العرب عن وضعهم في داخل فلسطين ١٩٤٨. والمشاركة العربيّة في الانتخابات عبر السنوات كانت خير معين للدعاية الصهيونيّة لأنّها صوّرت النظام السياسي على غير حقيقته، تماماً كما أنّ المجالس التشريعيّة كانت تضمّ سوداً في جنوب أفريقيا تحت حكم الأبرثايد.
إنّ الفصل بين أفراد الشعب الفلسطيني وبين أهل فلسطين والعرب كان من عمل ياسر عرفات. والتقدّم في تحرير فلسطين يستدعي مراجعة للتاريخ الفلسطيني المعاصر ودور عرفات في نكبة أوسلو التي - بالنيابة عن الاحتلال - قضت على الثورة الفلسطينيّة المسلّحة التي انطلقت في الستينيّات من القرن الماضي. وتسوية أوسلو تطلّبت ليس فصل وضع فلسطين ١٩٤٨ عن الضفة والقطاع فقط، لكن هي تضمّنت أيضاً فصل الضفة عن القطاع (لا تلحظ أوسلو ربطاً سياسياً وكيانيّاً بين القطاعيْن) وفصل الشعب الفلسطيني عن الشعب العربي. يروي الياس الشوفاني في مذكّراته كيف أنّ العمل الطالبي العربي في العالم كان هو قائد النشاطات الفلسطينية. لكنّ أوامر أتت من ياسر عرفات (وبتنفيذ من السيّئ الذكر نفسه، محمود عبّاس) لقطع الصلة بين اتحادات طلبة فلسطين وبين اتحاد الطلبة العرب. كان هذا ضروريّاً في السبعينيّات كي يستطيع ياسر عرفات تمرير سياساته التنازليّة والتسوويّة. إنّ المحنة الحاليّة هي من صنع ياسر عرفات: لم يترك في داخل فلسطين مؤسّسة فلسطينيّة واحدة باستثناء جهاز الشرطة والاستخبارات الذي أعدّه ودرّبه الجنرال الأميركي، دايتون، من أجل أن يتخصّص في التجسّس على الشعب الفلسطيني ورصد حركات المقاومة لوأدها. وينسى البعض أنه في زمن عرفات كان يتمّ التنكيل بالمقاومين كي تكسب القيادة السياسيّة رضى الراعي الأميركي والشريك الإسرائيلي. لم يعد الشعب الفلسطيني يتحمّل ثمن التغطية على ياسر عرفات. إنّ تقويض تلك الأسطورة ضروري للتقدّم نحو الأمام وابتكار وسائل مقاومة جديدة - تماماً كما أنّ تقويض النظام اللبناني يتطلّب تقويض أسطورة رفيق الحريري.

الإطاحة بنظام أوسلو لوحده لا تنفع وعلى المقاومة الفلسطينية الجديدة أن تعود إلى الصفر

إنّ وضع الشعب الفلسطيني في داخل فلسطين ١٩٤٨، لم يعد شأناً إسرائيليّاً كما أرادته مسيرة أوسلو. من فضائح ياسر عرفات أنه كان أول زعيم فلسطيني يقبل بتشتيت الشعب الفلسطيني في القانون الدولي، والتخلّي عنه لمصلحة دولة العدو. إنّ تتبّع مسيرة ياسر عرفات في كتاب الشجاع، محمد دلبح، «ستون عاماً من الخداع»، يفصّل مراحل دفن الثورة الفلسطينيّة بقرار من عرفات بالتشارك مع أنظمة الخليج التي تقود التطبيع اليوم. حتى في ما يُسمّى بمسيرة «السلام»، لم يعد ممكناً اليوم تجاهل وضع الشعب الفلسطيني في داخل الخط الأخضر. استفزّ الصعود الصهيوني العنصري المُجاهِر حساسيات الشعب الفلسطيني المكبوت وأطلق هبّة لم تشهدها تلك المناطق منذ سنوات. قد ينظّر أحدهم أنّ ديمقراطيّة وصهيونيّة الدولة وقعتا في تناقض متزايد، لكن هذا التناقض كان في فلسفة التأسيس. إنّ الوثائق الجديدة من أوراق بن غوريون تكشف أنّ الزعماء الصهاينة المؤسّسين كانوا على علم بطبيعة النظام المُنشأ وأنه يحتاج إلى العنف المؤسّسي لفرضه على العرب - السكّان الأصليّين. لا يمكن على أجندة العمل الوطني الفلسطيني بعد اليوم أن تفصل بين مواقع تواجد الشعب الفلسطيني. لا ياسر عرفات ولا غيره يستطيعون أن يبيعوا حقوق الشعب الفلسطيني بعد اليوم، خصوصاً أنّ ثمار البيع لم تكن إلا المزيد من القتل والضم والقمع.
ثانياً، دفن «اتفاقيّات إبراهيم». إنّ «اتفاقيّات إبراهيم» كانت طموحة للغاية. هي افترضت أنّ الوظائف والرفاهية هي كلّ ما يشغل الهم الفلسطيني والعربي الشبابي العام. الافتراض أوكل إلى دولة الإمارات - التي تشكّل عند كثيرين في الجيل العربي الجديد - مكان عمل مفضّلاً بسبب رفاهية نمط العيش فقط للميسورين، وليس للعمّال الأجانب. يعلم الذي يعمل في دبيّ أنّه بتواجده هناك يدخل في صكّ اجتماعي - سياسي مع الدولة، ومفاد هذا الصكّ: أنّ العربي يسلّم للدولة كرامته وحريّته ولسانه مقابل وظيفة عمل - وهي تختلف من حيث المرتّب بين شخص وآخر. لكن حتى الذي يدير شركة في دبي: له من انعدام الحقوق السياسيّة وحريّة التعبير والكرامة ما لدى العامل الآسيوي هناك. والدولة الإماراتيّة نموذج متطوّر وحديث للدولة البوليسيّة الجديدة التي ستكون محتذاة في كل الدول العربيّة عندما تكون لها قدرات ماليّة تسمح لها بإنشاء أجهزة المراقبة والتجسّس الإلكتروني التي تمدّه إسرائيل وأميركا لبعض الدول العربيّة. وفلسفة جاريد كوشنر اعتمدت مبدأ دفن القضيّة الفلسطينية: إنه يمكن تجاهل القضيّة الفلسطينيّة وهي تزول، لوحدها، عبر تقادم الزمن. والإفراط في الحديث عن مليارات في المعونات المالية لدول الطوق العربيّة لم يكن إلا محاولة لتخدير وشراء الجيل العربي الجديد.
الأنظمة العربيّة، المتمثّلة بجيل محمد بن سلمان ومحمد بن زايد ومحمد بن راشد، فاوضت دولة العدوّ وإدارة دونالد ترامب بالنيابة عن الجيل العربي الجديد. هؤلاء، لا يعرفون من الجيل العربي الجديد إلا هؤلاء اللبنانيّين المتذلّلين على أعتابهم والذين يعملون في الإعلام والأعمال والطاعة في دبي والرياض. اقتنع هؤلاء بأنّ القضيّة الفلسطينيّة قد ماتت. وردّد هذه المقولة صهاينة الغرب، بمن فيهم الكاتب في صحيفة «نيويورك تايمز»، توماس فريدمان. فريدمان نفسه كان قد طبّل لـ»اتفاقات إبراهيم» واعتبرها إنجازاً لاستقرار المنطقة. لكنّ الرجل معروف بأنه يستطيع أن يأخذ الموقف ونقيضه: هو أيّد الحرب الأميركيّة ضدّ العراق، وعندما ثبتَ فشلها وتحوّل الرأي العالم الأميركي ضدّها، عاد وانتقدها وكتب في ضرورة إنهائها (مع ضرورة الحفاظ على قوّات احتلال أميركيّة لتدريب القوات العراقيّة - لا يسأل أحد عن فائدة التدريب الأميركي للجيوش العربيّة: الجيش اللبناني لم يقوَ على مواجهة «داعش» و»النصرة» في عرسال، والجيش العراقي تراجع أمام تقدّم عصابات «داعش» فيما الجيش الأفغاني الذي أنفقت عليه أميركا المليارات ينهار أمام تقدّم «طالبان»). وفريدمان بعد أحداث الأيام الماضية عاد وكتب - متناسياً أننا نذكر ما كتبه من قبل - أن الذين افترضوا أنّ القضيّة الفلسطينيّة قد ماتت هم مخطئون. ستعود القضيّة الفلسطينيّة إلى الواجهة، عن جديد. وليس هناك ما يرفض القضيّة الفلسطينيّة على الأجندة الدوليّة إلّا العنف السياسي: كانت انطلاقة الثورة الفلسطينيّة في الستينيّات العنصر الأساس في ترسيخ كلمة فلسطيني في الذهن الغربي والعالمي. ومع كل المراجعات والإدانات للسلاح الفلسطيني، فإنه هو - وليست الخطابة أو الشعر أو قرع الطناجر، وقرع الطناجر وسيلة تغيير ثوري مُحبّذة في لبنان - الذي أوصل عرفات إلى الأمم المتحدة. تستطيع أنظمة التطبيع أن تطبّع، لكن نتائج التطبيع باتت واضحة. مضى النظام الإماراتي بعيداً (أكثر من أي نظام تطبيعي عربي آخر) لكنه لم يحصد، عربيّاً، إلّا نتائج سياسيّة سلبيّة، كما أن دول الغرب باتت تدرك أنه لا يمكن لهذا النظام - خصوصاً بعد التطبيع - أن يبيع القضيّة الفلسطينيّة للغرب. أما محمد بن سلمان، فقد أدّت أحداث الأيام الماضية إلى تأجيل مشروعه للتطبيع مع إسرائيل. ومع حاجة محمد بن سلمان إلى رعاية من جو بايدن كي يصل إلى العرش، فإن قدرته على التطبيع باتت محفوفة بمخاطر داخليّة. وقد أظهرت صفحات مواقع التواصل في السعوديّة والإمارات، خصوصاً في تراتبيات الهاشتاغات في الأيام الأولى، أنّ القضيّة الفلسطينيّة ما زالت أولويّة في الشعوب الخاضعة لحكم الطغاة التطبيعيّين. لكنّ النظاميْن استدركا الأمر بسرعة وأوكلا مهمّة تغيير تراتبيات الهاشتاغات كي تصبح «فلسطين ليست قضيّتنا» في المرتبة الأولى في البلديْن (لكنّ خبيراً بريطانياً أكّد لي أنّ ذلك كان من عمل حسابات الـ»بوت» وليس من صنع حسابات بشريّة).
ثالثاً، إطاعة محمود عباس. كيف يمكن للشعب الذي صدّر كلمة فدائي إلى كلّ لغات العالم أن يقبل برئيس عصابة أوسلو، محمود عبّاس، رئيساً (غير منتخب) عليه. إنّ الطريق إلى تحرير فلسطين، قبل المرور في العواصم العربيّة، بحسب ما دعا عن حق، جورج حبش، يجب أن تمرّ أولاً في رام الله. إنّ سلطة أوسلو عقبة رئيسة أمام تنظيم عمل فلسطيني مقاوم. وكلّ التنظيمات الفلسطينيّة، بما فيها الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين، متواطئة مع نظام أوسلو. ويعتمد نظام أوسلو على إخضاع وتسكين المعارضة الفلسطينيّة الداخليّة عبر منح كلّ التنظيمات فتات التمويل المشبوه لمنظمة التحرير. وبناءً عليه، ترى قادة للجبهة الشعبيّة يجتمعون تحت إمرة محمود عبّاس (الذي يمثّل في شخصه ومسيرته ودوره، النقيض الأبرز لكل نضالات جورج حبش) وهم يخاطبونه بلقبه المفضّل: «الأخ سيادة الرئيس أبو مازن»). لم يقتل محمود عبّاس جذوة النضال والثورة في الشعب الفلسطيني الذي تستمرّ ثورته على مدى أكثر من قرن، لكن إمكانيّة إطلاق ثورة فلسطينيّة جديدة مستحيلة بوجود سلطة أوسلو. إطاحة سلطة أوسلو تكون كلمة السرّ لإطلاق مقاومة فلسطينيّة جديدة ومتجدّدة تتعلّم من أخطاء الماضي المرّ.
لكنّ الإطاحة بنظام أوسلو لوحده لا ينفع. على المقاومة الفلسطينية الجديدة أن تعود إلى الصفر. هناك حركات مقاومة حاليّة لكنّها تعاني إما من الترهّل أو من الفساد أو من ترسّبات الحكم في السلطة في غزة أو من كل هذه العوامل مجتمعةً. شرطة القمع الفلسطينيّة لا يمكن أن تستمرّ في مهامها إذا ما تصاعدت انتفاضة الشعب الفلسطيني. ونظام أوسلو قائم على الفساد والمحاصصة (بين الشخصيّات والتنظيمات الفلسطينيّة) والقمع المباشر لمنع الشعب الفلسطيني من الثورة على الاحتلال وعلى أدوات الاحتلال. طبعاً، هناك أيضاً نظام من التطويع غير القسري القائم عن انتشار الـ»إن.جي.أوز» التي تستقطب النخب المثقفة والمتعلّمة. هؤلاء عماد أساسي في تسكين وتخدير الشعب الفلسطيني، وتغيير خطابه جذريّاً. تقرأ كلمات أياد السرّاج في مقالة لنيكولاس كريستوف، في الـ»نيويورك تايمز»، فتظنّ أنك تقرأ لمسؤول في وزارة الخارجيّة الأميركيّة وليس لشخص يعيش آلام شعبه في غزة. يقول السرّاج للصحيفة إنّ الصراع يعزّز المتطرّفين في الطرفيْن، وإنّ أحدهما يحتاج إلى الآخر. هذه الفكرة عن التوازي في المعاناة، وحتى في التطرّف، تخدم الدعاية الصهيونيّة في الغرب لأنها في المحصّلة تخفّف في تصوير معاناة شعب فلسطين وتعظّم من المعاناة المفترضة للمحتلّ.
القضيّة الفلسطينية لم تمت، لكنّها تمرّ بمراحل مختلفة. الشعب الفلسطيني أشعل ثورة مسلّحة، في عام ١٩٣٦، وهي استمرت على مدى ثلاثة أعوام وكان الفلاحون عمادها. لكنها تعرّضت للتآمر من قبل الهاشميّين والأنظمة العربيّة الخاضعة للاحتلال، ومن قبل العائلات الفلسطينيّة المتعاونة مع الاحتلال البريطاني، مثل النشاشيبي. لكن الشعب الفلسطيني مرّ في استكانة فظيعة بعد النكبة بالرغم من محاولة النظام الناصري مدّ يد العون لحركة مسلّحة في غزة. ومع كل فصل من تاريخ القضية الفلسطينيّة الطويل، يوهم العدوّ نفسه أنّ هذه الاستكانة التي يمرّ بها شعب فلسطين ستكون الأخيرة، أو الضربة القاضية، لكنّ الشعب الفلسطيني يفاجئ عدوّه مرّة تلو أخرى.
والصراع الأخير مهم استراتيجيّاً في المنظور التاريخي. قدرة المقاومة في غزة على إطلاق الصواريخ، بالرغم من صعوبة الحركة والحصار في غزة، متقدّمة جداً عن وضع المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنيّة في لبنان قبل عام ١٩٨٢. لم تكن قدرة المقاومة في لبنان على إزعاج العدوّ تتعدّى إطلاق صواريخ الـ»كاتيوشا» التي هي ألعاب ناريّة مقارنةً بالصواريخ التي في حوزة مقاومة غزة، حتى لا نتحدّث عن القدرات الهائلة للمقاومة في لبنان. يعلم العدوّ أنّ تقدّمه العسكري وتفوّقه الجوّي يصبحان أقلّ قوّة إذا ما قيسا بتطوّر قدرات المقاومة الفلسطينيّة واللبنانيّة، وبتطوّر المقاتل الشجاع في لبنان وغزة. شبح الخوف من الجيش الإسرائيلي الذي ترسّخ في عام ١٩٤٨ وتعزّز في حرب ١٩٦٧ راحَ إلى غير رجعة. الخوف هو عامل في مصلحة المقاومة العربية، لأنّ الجندي الإسرائيلي الجديد لا يقيس الحرب المقبلة بانتصارات ١٩٦٧ أو ١٩٤٨، وإنّما بهزيمة حرب تمّوز وبفشل الحربيْن الأخيرتيْن في غزة. هذه الحقائق ليست عصيّة على الاستيعاب عند جيش العدوّ، وهي - لا أبراج مراقبة شوالات البطاطا وأكياس «برسيل» على الحدود الشرقيّة - التي تمنع العدوّ من الاعتداء على لبنان، مع أن الاعتداء على لبنان كان ركناً ثابتاً في سياسته نحو لبنان منذ ١٩٤٨. المقاومة التي هزمت إسرائيل هي التي تردع إسرائيل، وليس - بحسب ما قال الخبير اللبناني، محمد رمّال، لصحيفة الصهيونيّة العربيّة، «الشرق الأوسط» - انتشار الجيش اللبناني في الجنوب.

- مئة عام من المعاناة والصمود والمقاومة / سعد الله مزرعاني

الفصل الراهن من حرب الإبادة ومن الإرهاب اللذين يتعرّض لهما الشعب الفلسطيني، ومن ثمّ، الكفاح المرير الذي يخوضه، لم يبدآ، فقط، منذ تأسيس الكيان الصهيوني (بالاغتصاب والقهر والمجازر والطرد...) على أرض فلسطين، قبل أكثر من سبعة عقود. الواقع أنّ معاناة وكفاح هذا الشعب قد بدآ قبل أكثر من مئة عام. على سبيل المثال، فإنّ المؤتمر الرابع الذي عقدته الحركة القومية العربية الفلسطينية في مدينة القدس، في 25 آب 1921، قد قرّر إرسال وفد إلى بريطانيا (الدولة المنتدبة) للبحث في تشكيل «حكومة وطنية» في فلسطين لمواجهة «وعد بلفور» وحملة الهجرة ونشاط العصابات التي كانت تنظمها الحركة الصهيونية. قبل ذلك بحوالى سنة كان قد وقع صدام دامٍ بين فلسطينيين ويهود صهاينة بمناسبة عيد الأول من أيار سقط فيه 95 قتيلاً من الطرفين. وزير المستعمرات آنذاك، ونستون تشرشل الذي استقبل الوفد، رفض تشكيل حكومة وطنية «لأنها تعرقل صك الانتداب وإقامة الوطن القومي اليهودي في فلسطين» (إميل توما: «ستون عاماً على الحركة القومية الفلسطينية»).

قبل شرعنة الكيان الصهيوني عام 1947، لم تهدأ الصدامات بين الشعب الفلسطيني والصهاينة ومحتضني مشروعهم المنتدبين البريطانيين. شهدت العقود الثلاثة المنصرمة أشكالاً من الإضرابات والانتفاضات، كان أبرزها عام 1925 ضدّ زيارة الوزير البريطاني بلفور صاحب الوعد المشؤوم الشهير. تمرُّد العمّال الفلسطينيين حصل عام 1929. أمّا الإضراب الشهير عام 1936 فحصل في نطاق حركة نضالية واسعة ضد الخطر الصهيوني المتنامي في استقدام مئات آلاف المهاجرين وفي الاستيلاء على مزيد من الأراضي من خلال الشراء والضغوط والإغراءات، ودائماً، برعاية نشيطة من سلطة الانتداب.
في مجرى كفاحه المرير والمديد، كانت الانتفاضات المتلاحقة هي أحد أبرز الأساليب التي عبَّر من خلالها الشعب الفلسطيني ولا يزال عن استشعاره تنامي خطر الصهاينة وداعميهم على وجوده وحقوقه ومصيره. هذا ما حصل منذ حوالى أسبوعين عندما استأنفت السلطات الرسمية الإسرائيلية خطة طرد الفلسطينيين من بيوتهم وتأجيج وحماية عدوانية قطعان المستوطنين في استفزازاتهم الخطيرة ضد المسجد الأقصى. اندرج هذا التصعيد، أيضاً، في نطاق جهد ونهج بنيامين نتنياهو لتعزيز فرص عودته إلى رئاسة الحكومة من خلال استمالة القطاعات الأكثر تطرفاً بين الناخبين الإسرائيليين. هو بذلك حاول، أيضاً، تجاوز نكسته بعدم انتخاب حليفه دونالد ترامب لولاية جديدة، كذلك لدفع الإدارة الأميركية الجديدة لدعم مشروعه وسياساته، وبالتالي، عودته إلى رئاسة الحكومة ما يؤجل محاكمته بتهم الفساد حتى إشعار آخر!
مرةً جديدة، استشعر المقدسيون، على وجه الخصوص، الخطر فبادروا إلى مواجهة السلطة وقطعان المستوطنين في حي «الشيخ جراح» كما في باحات ومحيط المسجد الأقصى. هكذا اندلعت شرارة انتفاضة جديدة ما لبثت أن شملت، تقريباً، وبشكل مدهش، كل فلسطين وكل الفلسطينيين.
فاجأت الهبة الفلسطينية الشعبية (الأنضج حتى الآن)، والتي هي ثمرة احتقان ورفض متعاظميْن بالمخاطر والاستفزازات والانتهاكات والجرائم والتطبيع والخيانة... قادة العدو. فاجأتهم، خصوصاً، بجرأتها وشموليتها وتنوّع أساليب النضال فيها. فاجأتهم غزّة بالصواريخ البعيدة المدى والكثيفة والمحمية بإتقان وتنسيق بين الفصائل، ما أدى إلى شلل الحياة في معظم المرافق الحيوية للكيان الصهيوني. فاجأت الانتفاضة، أيضاً، الشريك العربي (الخليجي خصوصاً) في «صفقة القرن». حلفاء الصهاينة من العرب الذين هرولوا مسرعين لتطبيع علاقاتهم مع العدو ونسج حلف معه يتوخون من ورائه الحماية. خسرت تجارتهم مجدداً بعدما «طحّلوا» وفشل غزوهم لليمن بالحديد والنار. هؤلاء يبحثون الآن عن «تطبيع» من نوع آخر مع كل من إيران وسوريا، الدولتين الأساسيتين في محور «الممانعة»، سعياً لتفادي هزيمة صافية!
ليس الأمر على هذا النحو في الضفةِ الأخرى من الصراع. لقد تبيّن أنّ وراء صمود ومقاومة وتطور قدرات غزّة القتالية، مثلاً، دعماً لا يمكن إخفاؤه من قبل معارضي المشاريع الأميركية الصهيونية الرجعية. وهو جزء من علاقة متنامية بين القطاع المحاصر وهؤلاء أثمرت تعاوناً بالخبرات والمعدات والمساعدات المتنوعة التي تؤشر إلى وجود نهج وليس مجرد علاقات تكتيكية تمليها مصالح آنية متحوّلة ومؤقتة. في مجرى ذلك، تمَّ تجاوز الخلافات السابقة التي برزت في بداية «الربيع العربي» خصوصاً مع حركة «حماس» ليحل مكان ذلك نهج ثابت في العلاقة وفي التوجهات بشأن المعركة مع العدو الصهيوني على وجه الخصوص.
لا شك في أنّ إزاحة ترامب من البيت الأبيض قد ألقت بظلالها على مجمل المشهد في المنطقة عموماً وفي الساحة الفلسطينية خصوصاً. إدارة جو بايدن المنحازة مبدئياً للعدو الصهيوني، ككل الإدارات الأميركية، لم تبلور بعد سياساتها في المنطقة إلا ما تعلَّق بالتخلي عن مشروع «صفقة القرن» الذي تيتَّم بعد خسارة صاحبه موقعه الرئاسي في واشنطن. لكن في واقع الأمر، النفوذ الأميركي قبل ترامب وبعده، يتراجع بشكل مطّرد في المنطقة. الانسحابات هي أحد المؤشرات وليست الوحيدة أو حتى الأهم. ذلك يعني توفر مزيد من فرص التقدم لمصلحة شعوب المنطقة عموماً والشعب الفلسطيني، في الأساس. الانتفاضة الفلسطينية عزّزت هذه الحقيقة أكثر من السابق. هذا يُملي على الجانب الفلسطيني تجاوز الانقسام الذي تخطّته الانتفاضة بشموليتها وعفويتها وتصميمها، إلى وضع تتقدم فيه أسباب التعاون، وهي كثيرة، على مشاكل الخلاف وهي أقل أهمية. إن رأب الصدع بين القيادة السورية و«حماس» هو مثال على إمكانية التجاوز رغم أن خلافهما في شقٍّ منه عقائدي، وفي شق أكبر، سياسي على المستويين السوري الداخلي وعلى مستوى المنطقة. هذا ينطبق، أيضاً، على كل القوى المعادية للمشاريع الاستعمارية الصهيونية الممعنة تدميراً وتفتيتاً للمنطقة بهدف إخضاعها والهيمنة عليها. هذه القوى مطالَبة بالتشكّل في مشروع تحرري شامل وجامع ومتحرّر من الفئويات والعصبيات الطائفية والمذهبية.
إن برنامجاً كفاحياً، يجمع بين كل أساليب النضال ضمن أولويات وإطار، هو المطلوب. وهو، فقط ما يليق بانتفاضة وتضحيات وبطولات شعب فلسطين.
* كاتب وسياسي لبناني

- غزة تحتفي بنصرها: إن عُدتم عُدنا / رجب المدهون

غزة | على عجل، أرسلت القاهرة، أمس، وفدها الأمني إلى غزة وتل أبيب، ليُجري لقاءات مكّوكية تستهدف تثبيت التهدئة بين المقاومة الفلسطينية ودولة الاحتلال، وتلافي كسر حالة الهدوء الهشّ، في وقت تواصلت فيه الاحتفالات في مختلف المناطق الفلسطينية، تزامناً مع ارتفاع وتيرة الاتهامات البينية والاعتراف بالفشل على ضفّة الاحتلال. وبحسب مصدر في حركة «حماس»، تحدّث إلى «الأخبار»، فقد وصل الوفد الأمني المصري إلى مدينة غزة، والتقى قيادة الحركة، وتباحث معها في تنفيذ وقف إطلاق النار بشكل كامل، بالإضافة إلى الملفّات التي ترى المقاومة الفلسطينية أنها ستعيد تفجير الأوضاع، وستدفعها للعودة إلى المواجهة، وخاصة في ما يتعلّق بمدينة القدس وحيّ الشيخ جراح. وضمّ الوفد المصري، لأوّل مرّة، مسؤولاً من رئاسة الجمهورية، بتكليف من الرئيس عبد الفتاح السيسي، إلى جانب أحمد عبد الخالق، مسؤول ملفّ فلسطين في جهاز المخابرات العامّة، وهو ما ترى فيه الفصائل إشارة إلى جدّية كبيرة من قِبَل المصريين، بالإضافة إلى الموقف الإيجابي الذي تبدي فيه القاهرة دعمها لشروط المقاومة المتعلّقة بإيجاد ضمانات حول مدينة القدس وعدم تغيير الواقع فيها.

وحسبما نقل المصريون إلى الفصائل الفلسطينية، فإن القاهرة معنيّة، وبشكل سريع، بالتوصّل إلى تفاهمات بخصوص استمرار التهدئة وتثبيت وقف إطلاق النار، وذلك بعد حصولها على تفويض وطلب أميركيَّين بهذا الخصوص. كما أَبلغ المصريون، الفلسطينيين أن عملية إعادة إعمار قطاع غزة لن تتخلّلها مماطلة وستكون سريعة، إذ سيتمّ تسهيل إدخال المواد اللازمة عبر شركات مصرية، من خلال معبر رفح البرّي. ومساء أمس، أرسلت الفصائل الفلسطينية رسالة احتجاج إلى الوفد المصري لوقف الاستفزازات التي تقوم بها شرطة الاحتلال في الحرم القدسي واقتحامه والاعتداء على المصلّين فيه، مُحذّرة من أن مِثل هذه الأفعال كفيلة بتفجير الأوضاع مرّة أخرى. وبالتزامن مع وصول الوفد المصري إلى غزة، وصلت، أمس، 80 شاحنة مساعدات مصرية إلى القطاع عبر معبر رفح، مُقدَّمة من أحزاب سياسية مصرية، يرافقها أعضاء أحزاب من تلك الأحزاب على متن 75 حافلة.

أَبلغ المصريون الفلسطينيين أن عملية إعادة إعمار قطاع غزة لن تتخلّلها مماطلة

من ناحية أخرى، عمّت الاحتفالات قطاع غزة والأراضي الفلسطينية بعد التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النار مع دولة الاحتلال، في صورة نصر واضحة على أقوى «دولة» في المنطقة، مع استمرار إشادة الفلسطينيين بهذا الإنجاز. وبالتوازي مع ذلك، عادت الحياة إلى شوارع المدينة، إذ رجع النازحون إلى منازلهم قرب الحدود، فيما بدا لافتاً تجديد الفلسطينيين طقوس عيد الفطر بلبس الثياب الجديدة وزيارة الأهل وتفقّد أهالي الشهداء. أيضاً، واصلت طواقم وزارة الأشغال والبلديات والدفاع المدني جهودها في رفع جزء من ركام القصف، بينما أُعلن عن انتشال جثامين 9 شهداء من المقاومة استشهدوا في أول أيّام الحرب داخل أحد الأنفاق، ليُشيِّع جثامينهم آلاف الفلسطينيين.
في غضون ذلك، أكدت الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية، في مؤتمر صحافي، أنها فرضت معادلات جديدة على الاحتلال سيكون لها ما بعدها، جازمة أنها لن تقبل بعد اليوم التغوّل على أبناء الشعب الفلسطيني والمقدّسات، من دون ردّ. ووجّه الناطق باسم الغرفة المشتركة، «أبو أحمد»، رسالة إلى الاحتلال مفادها: «نقول لك بكلّ وضوح، إن عُدتم عُدنا، أيادينا على الزناد ولمعركتنا فصول لم تُكتب بعد، وإن منطق العربدة والعنجهية لن يواجَه إلّا بالصمود والردّ والتحدّي بعون الله، وإن المقاومة بخير، ولم تتمكّن آلة الدمار من الوصول إلى مقدّراتها وتدمير إمكاناتها كما روّج العدو لتبرير عدوانه والتغطية على فشله».
إلى ذلك، أعلن وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، أنه سيصل إلى الشرق الأوسط في الأيام المقبلة، وسيزور «إسرائيل» وأراضي السلطة الفلسطينية، ومصر، والأردن، في جولة هي الأولى له في المنطقة منذ تولّيه منصبه. وسيلتقي بلينكن، في زيارته، رئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو، ووزير خارجيته غابي أشكنازي، ووزير أمنه بيني غانتس، ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، فيما من المتوقّع أن تُركّز زيارته على تثبيت وقف إطلاق النار، وبحْث آلية تقديم المساعدة الإنسانية لسكّان غزة، وإعادة إعمار القطاع.

- ثأر الضفة باقٍ: المارد خرج ولن يعود

رام الله | ما إنْ دخل وقف إطلاق النار بين المقاومة الفلسطينية والعدوّ حيّز التنفيذ، حتّى زحفت حشود غفيرة من الفلسطينيين إلى كلّ شوارع فلسطين، وتجدَّدت المواجهات في المسجد الأقصى لساعات بعد احتفالات عارمة بانتصار المقاومة، انتهت إلى أكثر من 25 إصابة في صفوف الفلسطينيين وانسحاب شرطة العدوّ، فيما استمرّت المواجهات المشتعلة في ميادين الضفة الغربية، حيث يبدو أن الفعل المقاوم سيظلّ حاضراً مستقبلاً بعدما أضحت الضفة أكثر قابلية للانفجار في وجه الانتهاكات الإسرائيلية.

وعلى رغم إعلان وقف إطلاق النار، إلّا أن الضفة أصرّت على قول كلمتها في الميدان، ليس فقط على شكل احتفالات ما بين مسيرات راجلة وبالمركبات منذ ما بعد منتصف ليل الخميس وحتّى بعد صلاة الجمعة، بل إن المواجهات تجدّدت مع جيش العدوّ على نقاط التماس وعند الحواجز الإسرائيلية، في مشهد معاكس لِمَا توقّعه بعض المحلّلين من أن هدوء جبهة غزة سيؤدي إلى فتور المواجهات في الضفة والقدس وعلى باقي الجبهات. وتفيد إحصائية صادرة عن الهلال الأحمر بأن المواجهات في الضفة والقدس خلّفت، أمس، 82 إصابة في صفوف الفلسطينيين، فيما قالت وسائل إعلام إسرائيلية إن ثلاثة من جنود الاحتلال أصيبوا خلال مواجهات قرب بلدة بيتا جنوب نابلس.
وفي المسجد الأقصى، كانت الاحتفالات أكثر صخباً وحشداً، إذ بدأت بدخول المصلّين بتكبيرات العيد مع صلاة الفجر، ثم تجدَّدت بمشاركة عشرات آلاف المصلين بعد صلاة الجمعة، الأمر الذي أثار حَنق العدوّ، فدفع بقواته إلى باحات الأقصى، حيث دارت مواجهات عنيفة لساعات قبيل انسحاب شرطة الاحتلال. وتعكس الجموع المحتفلة الحاشدة تعطُّش الفلسطينيين إلى خيار المقاومة كممثّل لهم، وثقتهم به كنهج استراتيجي. وبدا لافتاً هتاف المحتفلين في كلّ مكان لغزة، ولمقاومتها، ولمحمد الضيف باعتباره قائداً بارزاً استجاب لنداء القدس، حتّى إن رايات حركة «الجهاد الإسلامي» و»حماس» و»الجبهة الشعبية»، وباقي فصائل المقاومة، تعانقت في غالبية المسيرات والفعاليات الاحتفالية. وتحوّل عدد من المسيرات الاحتفالية إلى مواجهات عفوية، بعد محاولة العدوّ الاعتداء على المشاركين في عدّة مناطق، كالمسجد الأقصى وبلدة جبل المكبر في القدس، فيما توجّهت كلّ المسيرات، بعد صلاة الجمعة، إلى أقرب نقطة مواجهة مع العدوّ.
شكّلت معركة «سيف القدس» علامة فارقة ومحطّة مهمّة في الضفة الغربية، حيث التحمت الأخيرة باكراً مع غزة، وتنوّعت أشكال مشاركتها في المعركة ما بين مسيرات جماهيرية ومواجهات شعبية وعمليات إطلاق نار. إذ بلغ عدد نقاط المواجهة في هذه الجولة أربعة أضعاف نظيرتها في حرب عام 2014 (بلغ متوسّط عدد نقاط المواجهات اليومية ما بين 80 و100 نقطة، فيما لم يزد عدد نقاط المواجهة عن 27 في الحرب الأخيرة). أمّا شكل المواجهة الأبرز في الضفة، فكان عمليات إطلاق النار في اتّجاه جنود العدوّ وأهدافه، إذ بلغت هذه العمليات نحو 38 في 11 يوماً، بينما وصل عددها إلى47 خلال 51 يوماً من حرب عام 2014. وتشي الإحصائيات المذكورة بتطوّر ملحوظ في معدّل الاشتباك مع العدوّ في الضفة الغربية خلال السنوات السبع الأخيرة، على صعيد زيادة الفلسطينيين المشتبكين وتوسّع نطاق المواجهات، إضافة إلى عودة المقاومة المسلّحة بشكل متدرّج، على رغم عدم وجود أجنحة عسكرية رسمية ومنظَّمة للفصائل الفلسطينية.

لأوّل مرّة تخوض المقاومة حرباً من غزة يكون فتيلها المباشر الاعتداءات الإسرائيلية على القدس

لقد حطّم الفلسطينيون في الضفة الغربية في معركة «سيف القدس» كلّ المعادلات الإسرائيلية، بما فيها مشاريع «التدجين» التي تهدف إلى منع أكبر عدد ممكن من الانخراط في مختلف أشكال الاشتباك مع العدوّ. اشتعال جبهة الداخل المحتلّ عام 48، شكّل، من جهته، ضربة قاسية للمنظومة الإسرائيلية برمّتها، وأربك كلّ تقديرات العدوّ. هكذا، عادت القضية الفلسطينية إلى أصولها الأولى وطبيعتها الحقيقية، حيث تغلّبت الهوية الوطنية الأصلية لفلسطينيي الداخل. وعليه، أدرك العدو، أخيراً، أن كلّ منطقة على امتداد خريطة فلسطين التاريخية تسبح تحت «برميل بارود» قد ينفجر في أيّ لحظة، بفعل استمرار عدوانه في أيّ مكان، وليس في قطاع غزة وحده. وشكّل دخول جبهة لبنان على خطّ المواجهة بإطلاق عدّة صواريخ والتظاهر عند الحدود، هو الآخر، إرباكاً للعدو. فأرغمت كلّ هذه الجبهات المفتوحة رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، صاغراً على إعلان وقف إطلاق النار من طرف واحد، لأوّل مرّة منذ سنوات طويلة.
ويرى مراقبون أن المعركة الأخيرة فرضت على العدو إعادة حساباته، كونها ستنقل له تداعيات كثيرة، أهمّها ضرورة التفكير جيداً قبل بدء اعتداءاته على الفلسطينيين في أيّ مكان، في ظلّ غياب «خاصرة رخوة أو مكشوفة» يمكن أن يدميها الإسرائيلي وقت ما يشاء. ولأوّل مرّة، تخوض المقاومة الفلسطينية حرباً من قطاع غزة يكون فتيلها المباشر هو الاعتداءات الإسرائيلية على القدس ومحاولة تهجير أهالي حيّ الشيخ جراح هناك، حيث تركّزت الحروب والجولات السابقة في أذهان الرأي العام الفلسطيني والإسرائيلي، وحتى العالمي، على أن المقاومة في غزة تعمل ككيان مستقلّ، ورافقت ذلك دعاية استغلّها خصومها تقوم على أن المقاومة «تسعى إلى إقامة دولة أو إمارة في غزة»، بعيداً عن باقي فلسطين. وجاءت معركة «سيف القدس» لتثبت أن المقاومة ذخر لكلّ فلسطين، بل امتدَّ بُعدها إلى العالمَين العربي والإسلامي بخوضها المعركة من أجل انتهاكات العدوّ في القدس والمسجد الأقصى.
البعد الأخير حول أسباب المعركة، رفَع رصيد المقاومة من الحاضنة الشعبية، وأهّلها لتكون أكثر تمثيلاً للفلسطينيين في كلّ مكان. فالتظاهرات اجتاحت عشرات الدول العالمية، وليس فقط العربية أو الإسلامية خلال المعركة الأخيرة، الأمر الذي أعاد مركزية القضيّة الفلسطينية إلى أجندات العالم، وما يسمّى «المجتمع الدولي» وهيئاته المتشعّبة. ومن المهمّ القول هنا، إن المقاومة والتفاعل الكبير معها على مختلف الجبهات أجبر الإدارة الأميركية على مهاتفة نتنياهو، أكثر من مرّة، لطلب وقف إطلاق النار، بينما لم يكترث العدوّ في الحروب السابقة للرأي العام العالمي، وواصل هجومه الوحشي غير آبه بكّل الوساطات.
الأكيد أن المدّ الجماهيري المنطلق في الضفة الغربية أعاد ثقة الشباب الثائر بنفسه. فَمِن الآن، أضحى لأيّ اعتداء إسرائيلي ثمن. وفي حالة التمادي، يُحتمل أن يثور بركان في الضفة، وتتجدّد المسيرات عند معظم نقاط التماس من دون الحاجة إلى وجود فصائل. والأخطر في شكل مشاركة الضفة الغربية بالنسبة إلى العدو، سيكون ظهور قيادات ميدانية محلية للعمل الجماهيري. وعلى رغم أن الأسابيع المقبلة يُحتمل أن تشهد أوسع حملات اعتقال إسرائيلية في الضفة للمشاركين الفاعلين في الهبّة الأخيرة، إلّا أن الهبّة ذاتها أثبتت قدرة الشباب على خوض المواجهة وإشعالها في أيّ وقت، على رغم كلّ التحديات والظروف، وعدم الحاجة إلى قيادات ميدانية قد يتعمّد العدوّ تغييبها في سجونه.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 12 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ميديا  متابعة نشاط الموقع تقارير اعلامية   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

29 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 29

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28