] الموت يغيب الكاتب الفسطيني جمال بنورة - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الخميس 17 كانون الأول (ديسمبر) 2020

الموت يغيب الكاتب الفسطيني جمال بنورة

ابراهيم خليل*
الخميس 17 كانون الأول (ديسمبر) 2020

غيب الموت الكاتب الفلسطيني جمال بنورة (1938- 2020) عن عمر تجاوز الثمانين بسنتين. وهو كاتب قصصي تفتح عطاؤه الإبداعي في ستينيات القرن الماضي. فقد صدرت له مجموعات منها «العودة» دار القدس 1976 و»الصديق القديم» دار التقدم في القدس 1980 ومجموعة الحصار «القدس» 1980 و»حكاية جدي» دار الكاتب الفلسطيني، «القدس» 1981 و»الشيء المفقود» (1982) و»الموت الفلسطيني» (1986) ومن هذه الأخيرة صدرت طبعة ثانية عن دار الكرمل في عمان (1987) وصدرت له روايتان الأولى بعنوان «أيام لا تنسى» 1990 والثانية بعنوان «انتفاضة» وله مسرحيتان أولاهما بعنوان «الموت ونحن على ميعاد» والثانية بعنوان «السجين».
يقول القاص الروائي محمود شقير مقيّما تجارب الراحل القصصية التي يغلب عليها إبراز القيم الإيجابية التي تشكل واقعا فلسطينيا مهمومًا بالنضال والكفاح، والتضحية والصمود، والتعلق بالأرض والارتباط بالوطن، في مواجهة الاحتلال الفاشي، مؤكدا على أن جمال بنورة لا يعبر عن هذه المضامين تعبيرا مباشرا؛ لأن التعبير المباشر عنها يفرغ العمل الأدبي القصصي من قيمته وجمالياته، من حيث هو فنٌ لا شعارات. وهذا واضح وضوح الشمس في قصته «الشيء المفقود» وهي القصة الرئيسة في مجموعته الموسومة بهذا العنوان (1982). فالراوي في هذه القصة يروي حكايته المكثفة في سرد يلقي الضوء على معاناة مناضل سجن مدة غير قصيرة، عذب فيها تعذيبًا شديدًا، وحين أطلق سراحه وجد نفسه لا يستطيع متابعة حياته اليومية كغيره من الناس. واكتشف أن التعذيب أضر بفحولته، وجعل منه رجلا بلا رجولة، إذا ساغ التعبير، فهو يعاني من قصور جنسي يجعله حرجًا مع زوجته ذات الجمال الباذخ والجسد المثير، وهذا ما يقلقه، ويبعد عن مقلتيه لذيذ المنام، ويحرمهُ رؤية الأحلام. فينهض في آخر الليل من فراشه أرقا يفكر بما قاله له الجلاد: «سأحرمك معاشرة النساء»، ظل يظن ذلك تهديدًا، وغايته انتزاع الاعترافات، ولكن الأمر تجاوز التهديد، والوعيد، وها هو ذا في حمأة القلق يتذكر قول السجان: «سوف نمنعكم من التكاثر حتى تكفوا عن الإنجاب». ويتذكر آخر يقول له «سأخصيك يا ابن الزانية»، ويسترجع ما جرى «بيده سترينج فيه سائل أزرق. غرز الإبرة في خصيتي . لم أعرف ما كان فيها، كان شيئا حارقا جعل جسدي كله ينتفض ألماً، كأنما وصلوه بتيارٍ كهربائي». فالراوي يستذكر- ها هنا – ماضيه في السجن، وما تداوله من كلام مع رفاقه في المعتقل، وإصراره على عدم الإدلاء بأي اعترافات. وهذ يشعرنا بشعور منْ ناضل ودفع ثمن مواقفه، وهذا الثمن أضرَّ بكيانه بصفته رجلا لزوجته عليه حق العِشرة، وهذا سبب كاف للتفريق بينه وبين من يحب. لاسيما وأن الشكوك بدأت تساورهُ، وتداهمه، الخشية من أن زوجته الحسناء ربما كانت تخونه مع آخرين، ولذا تبدو صابرة على الحرمان صبرًا لا يصدق. فهي كالأرملة، مع أنها ليست كذلك. يقول المؤلف على لسان الراوي العليم هذه المرة: «عاد ينظر إلى زوجته التي ترقد في سكون. رأى ساقها المكشوفة فوق اللحاف كأنما تعَيّرُه بعجزه». وفي بعض المشاهد يقول على لسان الراوي نفسه بطل القصة: «حاولت أن أعمل فكري بسرعة، لا يمكن أن يكونوا جادين. هززتُ رأسي. طردتُ الفكرةَ من دماغي».

فالكاتب الذي يراوح بين الراوي العليم والراوي المشارك، لا يفتأ يتكئ على الحوار بين البطل والآخرين من معتقلين ومن سجَّانين، وهو حوار جرت استعادته على طريقة المونولوج الداخلي. فالكاتبُ يتصرفُ بالحوار تصرفا يجعله حوار مباشرًا حينًا، وحينا غير مباشر. وهو حوار يضيف للحكاية وقائع ومتواليات، تعمق الإحساس بمعاناة هذا الزوج الذي يشعر شعورا مذلا لتقصيره عن القيام بواجبه الزوجي تجاه شريكة حياته، لهذا يفكر بالانفصال والطلاق، وذلك في رأيها ليس حلا بقدر ما هو مشكلة أخرى.
ويحتل حنين الإنسان الفلسطيني لبلدته حيزا كبيرا في مضامين قصص الكاتب، ففي قصة «الموت الفلسطيني» يتعلق البطل بإحدى النجوم تعلقا شديدا لاعتقاده بأنها دليله الهادي إلى موقع قريته التي لم يعرفها بسبب ولادته خارج فلسطين، تلك القرية التي قام المحتلون بمحوها من الخرائط. وعلى نحو مفاجئ تتحول القصة إلى ما يشبه المسرحية القصيرة التي تتألف من مشاهد، فإذا بهذا البطل عضو في مجموعة فدائية دخلت شمال فلسطين قادمة من الجنوب اللبناني في مهمة (فدائية) وقد وقعت في حصار، ومضى على ذلك خمسة أيام، لم يذق أي منهم فيها طعم الرقاد.. وأيديهم جميعها على الزناد بانتظار أن ينكسر الحصار، ويعودوا للقاعدة.. وفي الأثناء تداهمهم نوباتٌ من الحنين، فهذا سميح يحن لزوجته، وآخر يتمنى لو أنه لم يتزوج، فما ذنب المرأة لكي تعاني من غياب الزوج في مهمات قتالية ينتهي العمر وهي لا تنتهي؟ وآخر يتذكر أمه في مخيم الدهيشة وإصرارها على زواجه، على الرغم من أنه لم يبلغ السادسة عشرة، لترى أولاده قبل أن تفارق الحياة.. ويقول أحدهم : «لا أريد لابني أن يحمل سلاحًا. ولا أن يعيش متنقلا من حرب إلى حرب. أتمنى أن يحيا طفولته يحمل اللعَبَ ويلهو بدلا من السِلاح». ولا يفتأ الكاتب بنورة، يتنقل بنا مع هذه الوحدة من مشهد لآخر، فإذا هدأ القصف، وتراجعت أعداد القذائف، جلسوا جميعًا للعشاء. وهات يا ذكريات. ذكريات المخيم .. وذكريات الجبهة.. وذكريات أخرى في معسكر التدريب.. وتلك التي خُطبت وهي موظفة في مركز الأبحاث في بيروت. ولا تعرف خطيبها الآن في أي الشعاب محاصر، وأي القذائف هي التي يتعرض لها هو والرفاق. ذكريات يسترجع فيها كل واحد من أفراد الوحدة حكايته مع التنظيم، وما يسببونه من إزعاج للعالم، على الرغم من أنهم لم يحرروا شبرا من فلسطين. هذه المشاهد تتوالى في القصة كشريط فيديو، لكن المفاجأة المنتظرة سرعان ما تبدأ: «هيا ليتخذ كل منكم موقعه. بدأت المعركة الأخيرة».
توحي القصة من البداية بأن أفراد الوحدة على قيد شبر واحد من الشهادة. فقد انتهت بمصرع الأربعة، ودخول القوة الإسرائيلية الغاشمة مكان الكمين حيث الجثث الأربع، فقال قائدهم المتغطرس: وأين الباقون؟ لا أصدق نفسي، لقد قاوموا وكأنهم أضعاف هذا العدد. إرادة الموت عندهم من إرادة الحياة». ويحاول جمال بنوره في قصصه هذه استخدام، أو توظيف ـ بكلمة أدق ـ تقنيات سردية متعدده في بناء القصة. فقد لاحظنا في قصة «الشيء المفقود» مراوحته بين السارد العليم والسارد المشارك، واعتماد المونولوج الداخلي، وتيار الشعور وسيلة لاستعادة ما مضى من وقائع، قبل بدء الحكاية التي هي موضع اهتمام الراوي زمن حكايته للقصة. واتسع لديه نطاق الحوار، وفضاء الملفوظات لأشخاص عدة، الزوجة، والمعتقلين، والجلادين، وآخرين ممن كانوا يحثونه على الزواج، أو يعارضون اختياره. وفي هذه القصة «الموت الفلسطيني» نجد نموذجا آخر يغلب عليه الحوار، فتغدو القصة قريبة من المسرحية التي تتألف من مشاهد بعضها يجري في الحاضر، وبعضها جرى في السابق، بل مضى عليه زمن طويل أو قصير. وقد جرت استعادة هذه اللحظات في الوقت الذي يكون فيه القصف على المحاصرين قد خفت حدته، وتراجعت فيه أعداد القذائف. ويمنح المقاتلون استراحة أوما يشبه الاستراحة، إذا جاز التعبير، فينطلقون على سجاياهم في أحاديث هي جزء من الذكريات، وهذه الذكريات، على الرغم من أنها وقائع إلا أنها تتخذ – ها هنا – هيئة الحوار أو السيناريو. وهذا التنوع، في الواقع، يجعل من قصص جمال بنورة قصصًا لا تخلو من تشويق، على الرغم من أنها قصص تقليدية تذكرنا بالرواد من كتاب القصة، من أمثال: محمود تيمور، ويوسف الشاروني، ويحيى حقي، وعبد السلام العجيلي، وتوفيق يوسف عواد، ومحمود سيف الدين الإيراني، والعراقي محمود أحمد السيد.

*ناقد من الأردن


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

41 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 41

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28