] مصطفى محمود وتكهناته بمنزلق التطبيع - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020

مصطفى محمود وتكهناته بمنزلق التطبيع

نادية هناوي*
السبت 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020

على الرغم من أن مصطفى محمود (1921ـ 2009) اسم مهم في عالم السياسة والفكر والأدب والعقيدة والاجتماع والعلوم؛ فإن أصابع اتهام ليست قليلة وُجهت نحو كتاباته، سواء في حياته أو بعد مماته. منها التناقض في بعض آرائه أو التطرف في أقواله والتحول من الإلحاد المطلق إلى الإيمان المطلق، ومنها شؤون شخصية متعلقة بزواجاته وطلاقاته؛ بيد أن القصد من إثارتها هو التقليل من أهمية الدور الثقافي والتوعوي، الذي سعى الى إشاعته بين مريديه ومتلقيه، حرباً على الصهيونية وتعرية لمآربها الشريرة ومخططاتها الخطيرة في منطقتنا العربية وما جاورها، وبشعارها الذي لم تغيره (It is now or never ).
وبسبب ذلك الدور التنويري حورب مصطفى محمود إعلاميا، فطُمست عطاءاته الفكرية والأدبية ومشاريعه العلمية والخيرية، وتجوهلت آراؤه وتقييماته وحوكم على بعض منها. الأمر الذي انتهى به في أواخر حياته إلى أزمات صحية ونفسية، معتزلا الكتابة والحياة. وليس غريباً بعد ذلك كله ألا يحظى مصطفى محمود بالتقدير الذي يناسب عطاءه، وهو الذي أصدر عشرات المؤلفات في الأدب والفكر والسياسة والنضال ضد الصهيونية والتطبيع معها، موجها أنظار الرأي العام إلى خبث السياسة الإمبريالية عامة والأمريكية خاصة تجاه الشرق الأوسط، والدور الخطير الذي أسندته لربيبتها إسرائيل كي تؤديه في منطقتنا العربية والإسلامية.
وتحفل آراء مصطفى محمود بالجرأة، وهو ينظر بدونية إلى الحكومات العربية المنقادة للمخطط الأمريكي بمكيدة محكمة، مشبها ما يجري بمسرحية تراجيدية ذات فصول ثلاثة، الفصل الأول منها تحقق في حرب الخليج التي فيها اجتمع العرب مع دول العالم لضرب العراق، فاستنزفت الثروات العربية بدون جدوى، ليرفع الستار عن فصل ثان يتمثل في ضغط الدائنين على دول المنطقة، ليقبلوا الأفعى الإسرائيلية في الحضن العربي، ويفسحوا لها مكانا في أرضهم واقتصادهم ولقمة عيشهم، ويوقعوا على سلام إسرائيلي بشروط إسرائيلية، وعندها سيكون الفصل الثالث والختامي من التراجيديا قد تحقق (حينما تفتح إسرائيل نيران ترسانتها العسكرية في مشهد العشاء الأخير، الذي يعود فيه يهوذا الإسخربوطي لينتقم من أولاد العم فيما يسمونه في الكتب القديمة معركة هرمجدون، وهي ليست سوى الصليبية الثانية التي يحلم بها الغرب ليضع بها النهاية الخاتمة للإسلام وأهله. وتلك أحلامهم) (كتابه: «اسرائيل البداية والنهاية»).
المنطقية والعلمية هما السمتان اللتان يتسم بهما فكر مصطفى محمود، راسما صورا صادمة لمستقبلنا العربي، محذرا بأدلة عقلية ونقلية وأرقام وإحصاءات من وخامة ذلك المستقبل، قائلا: (إننا نقف على مشارف منعطف تاريخي خطير. إن الكارثة تهدد الكل، وإن ما من دولة من دول المواجهة إلا وستصاب في أرضها واقتصادها وأبنائها واستقلالها إذا أخطأ أولو الأمر فيها حساباتهم) مؤكدا أن لا مناص من الإيمان بقوة إرادتنا، فالسلاح وحده لا يستطيع أن يصنع نصرا حضاريا، وهل صنع التتار شيئا وهم الذين انتصروا على المسلمين ثم دخلوا في الإسلام رغم انتصارهم؟
وقد يقال إن تكهنات مصطفى محمود تغالي وهي تتبنى نظرية المؤامرة، بيد أن الحقيقة تؤكد هذه المؤامرة التي هي قائمة ومستمرة، وليست موهومة، وها هي تتأكد كل يوم في ما يشهده الواقع العربي المرير من تطبيع واستسلام، لم تشهد الأرض العربية له مثيلا في عقود سابقة، فيها ناضلت الجماهير العربية من أجل استقلالها ونيل حريتها. وأخطر صفحات المؤامرة التي تنبأ بها مصطفى محمود وتحققت نبوءته فيها هي القبول بمبدأ الأرض مقابل السلام، الذي ما نفع في سحب إسرائيل من الجولان، ولا في استعادة القدس الشرقية وما فكك ترسانتها النووية، بل زاد الجلافة والعجرفة والرفض الإسرائيلي، وعزز الاستسلام لا السلام العربي وإسرائيل ستمضي في تكديس السلاح والمستوطنات ما دام معها الظهير الأمريكي والتأييد الغربي.
وبسبب اطلاعه الواسع على آخر الإحصائيات وأهم النشريات الغربية، كشف لنا مصطفى محمود عن حقائق صادمة حول الجيش الجرار والتطبيع من أجل السلام والخواء الإسرائيلي من الداخل وضعفه وانقسامه، عادا أمريكا هي الراعي والحاضن والمرضع للفرخ الإسرائيلي، ومميزا بين اليهود والصهيونية كحركة سياسية عنصرية عدوانية، مؤكدا أنه ليس ضد اليهودية وأن الخطر كله يكمن في العقلية الشخصانية للحكام، وأن هدف إسرائيل هو التوجه إلى الحكام العرب واحتواؤهم قبل شعوبهم ( كتابه «إسرائيل البداية والنهاية»). «هذا إلى جانب غياب المشورة والديمقراطية والتعددية في الرأي، وأن هذه البدائية في العمل السياسي هي السبب والداء والمرض الكامن المزمن في كل الدول العربية».

ولا تقتصر تكهنات مصطفى محمود حول التطبيع على صعيد الاستراتيجيات السياسية والأجندات الفكرية وإنما تتعداها إلى ميادين حياتية شملتها المؤامرة كالزراعة والصناعة والثروات القومية، فكشف مثلا عن الدور الخبيث للأيدي الإسرائيلية في إفساد المحاصيل المصرية، بحجة الخبرة والهندسة الوراثية ودلل بالأرقام على الكيفية التي بها يتم تخريب الشباب العربي، بالدولارات والمخدرات، متوقعا موجات من التحلل والتهتك مقبلة، غايتها الإبادة، متسائلا كيف بعد ذلك ينبغي علينا أن نأتمن للتطبيع؟ وفي كثير من تكنهات مصطفى محمود نلمس خطر المؤامرة الكبرى وحلقاتها المتواصلة، بينما نحن مخدوعون بالأسماء التي بها تسمي الصهيونية نهب الأرض تصحيحا للأوضاع، والاستعمار استيطانا، وقتل الجار الفلسطيني عدالة، وتعذيب السجناء شرعيا وقانونيا، وترينا التجسس بعثات إعلامية.
ولا يتوانى مصطفى محمود وهو يتكهن بمستقبل الصراع العربي الإسرائيلي من أن يضع الحلول ويرسم الخيارات التي ستمكن العرب من تجنب الكارثة، مبينا أهمية الوحدة العربية بوصفها السلاح الذي به نردع الحلم الغربي ـ الإسرائيلي في التوسع وندلل على أننا لسنا أصفارا ولا صغارا لتقوم بخداعنا، قارعا أجراس الإنذار على مؤامرة مدبرة، إذا لم ننتبه إليها فسننتهي في يوم من الأيام إلى أن يكون حال العرب والمسلمين اليوم مثل حال اليهود بالأمس ويكون الشتات مصيرا لهم.
وفي كتابه (المؤامرة الكبرى) تنبأ مصطفى محمود بما سيكون للصين في المستقبل، قائلا: (نسينا ورقة اسمها الصين لم يحسب حسابها أحد، ولكنها ستقلب جميع الموازين وقد سجلت الصين أعلى المعدلات للنمو الاقتصادي وفي سنة ألفين تصل إلى الذروة) وبالفعل صارت الصين كما توقع لها مصطفى محمود. وجزء من توقعاته تقوده إليها تساؤلاته المستفزة والجريئة، وفي مقدمتها سؤاله: ماذا يجري وراء الستار؟ وهو سؤال ينبغي أن يطرحه على نفسه كل عربي، بل كل إنسان حر أو ينشد الحرية. وكثيرا ما يدعم مصطفى محمود تكهناته بالأمثلة التي هي وسيلة مهمة في الإقناع والتأثير كتمثيله بصدام حسين على الدور البيدقي الذي يلعبه الحاكم العميل (وقد رأيناه ـ ويقصد الغرب ـ يأخذ في حضانته صدام حسين ويسلحه ويربيه ويدفعه على الكويت، ليصنع حربا بين الأخوة يستفيد بها لصالحه ويشغلنا بها عن العدو الحقيقي الذي يتربص بنا، ونحن نسير كالدواب المعصوبة الأعين إلى مصيرنا كل مرة لا نحاول أن نرفع عن عيوننا تلك العصابة ونتبصر طريقنا ولا نحاول أن نميز بين أصدقائنا وأعدائنا).
وعمق ثقافة مصطفى محمود تجعله يغوص في مناقشة مختلف النصوص مقدسة ووضعية حتى لا يكاد الاستشهاد بآيات الذكر الحكيم يغيب عن تحليلاته واستقراءاته، فضلا عن معارف أخرى لها صلة بمسائل الفلك والأحياء والطب والكون يفسرها في ضوء الدين والمنطق العقلاني. ليكون بحق المفكر الأديب والأديب المفكر الذي تنبأ قبل أي أحد آخر أن الإسلام السياسي كصناعة رأي عام مستنير يجمع الأمة ولا يفرقها سيكون هو المعركة المقبلة… وها نحن اليوم نعيش أوارها بكل التفاصيل الدامية والاليمة. وحدد محمود أعداءنا في ثلاثة يتربصون بنا: 1 ـ الانفجار السكاني. 2 ـ الادارة المترهلة والبيرقراطية. 3 ـ التعليم الحالي المتخلف، واقفا بمرارة عند فتن الإرهاب التي عصفت بالمسلمين فكانت مجازر البوسنة والهرسك واللاجئين الفارين من المذابح في الصومال ناظرا إلى المشاريع الامبريالية بأنها جاءت لضرب العرب والمسلمين لا لنصرة العلم. وهو ما تأكد اليوم بالدليل القاطع في كثير من الدول العربية التي لم تقدها الديمقراطية المزعومة ولا العلمانية الصورية إلى العلم بل اتجهت بها نحو التجهيل. وما كان لكثير من تكهنات مصطفى محمود المستقبلية وتنبؤاته بالمؤامرة الكبرى أن تصيب كبد الحقيقة، لولا أنها بنيت على المنطق والاحتجاج العقليين، واستندت إلى مرجعيات وخلفيات نظرية وعلمية جعلته يرى المقبل، لا بالضرب في الودع، وإنما بالتحليل والاستقراء قائلا: (ما دامت هناك حرب في السنوات العشر المقبلة فلابد أننا ستكون في طليعة من يخوضها .. هل هي نبوءة؟ أم احتمال أم ضرب من الخيال؟ أم رؤية تصيب وتخيب؟ أنا لست ضارب رمل ولا صاحب نبؤات، إنما هي قراءة لأوراق الواقع ونظرة في ملف الأحوال ووقفة مع القرآن معجزة الأجيال).
والأهم من كل ما تقدم ما وضعه مصطفى محمود من ثقة بالمثقف العربي والدور الكبير الذي عليه أن يؤديه (نحن نعيش في عصر التآمر الكبير، وتلك أدواته ولا يملك المثقف إلا أن يقف من تلك الأحداث وقفة المرابطين وحراس الثغور، يرصد الظواهر كما يرصد الفلكي جنبات السماء، ليعلم متى يظهر القمر الوليد ومتى تكسف الشمس)… فهل حقق المثقفون العرب أمل مصطفى محمود فيهم، مؤكدين صدق توقعاته؟ ذلك ما نرجوه قريبا كان التحقق أو بعيدا.

٭ كاتبة عراقية


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 22 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

37 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 37

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28