] عن هارون هاشم رشيد: شاعر التغريبة الفلسطينية - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الثلاثاء 4 آب (أغسطس) 2020

عن هارون هاشم رشيد: شاعر التغريبة الفلسطينية

الثلاثاء 4 آب (أغسطس) 2020

- سمير حاج

رحل هارون هاشم رشيد، زَيْتونَةُ الشعرِ الفلسطيني المُعَمرة وشاعر الخَيْمَة والبيارة والعَوْدة. رحل شاعر مزامير الغربة الفلسطينية وعاشقُ يافا.. يافا التي حَمَلَها عُرْبونَ مَحَبةٍ، في قَلْبِهِ الكَسيرِ المُتْعَبِ، وَقَمَرًا مُضيئًا وَنَسيمًا بَليلًا، يُخَففُ لَفْحاءِ غُرْبَتِهِ الحارقة. يافا التي زارها عام 1996 وكحل عيْنيْه ببحرها ومينائها وبيت رفيقة دربه، الباقي في حي العجمي، بعد أن «خلت من أهلها الدار». رحَلَ شاعرُ الغرباء، بعد غُرْبَتَيْن قَسْرِيَتَيْنِ في مصر وكندا، وليلى الطفلة اليافية ما زالت تنوب في حلمها الطفولي حول يافا، تَسْألُ وَتُسائِلُ في مَزْمورِهِ «مع الغُرَباءِ» 1951، المَسفوعِ باللحن الرحباني الحزين، والمُنْسابِ من حُنجرة المطربة فيروز: أبي… / قُلْ لي بحق الله / هَلْ نَأتي إلى يافا ؟ فإن خيالَها المَحْبوبَ/ في عَيْنَي قَدْ طافا/ أنَدْخُلُها أعزاءَ/ برغمِ الدَهْرِ…أشْرافا؟ / أَأدْخُلُ غُرْفَتي، قُلْ لي/ أأدْخُلُها، بِأحلامي؟ وَألْقاها، وتَلْقاني/ وَتَسْمَعُ وَقْعَ أقْدامي/ أأدْخُلُها بهذا القَلْب؟/ هذا المُدْنَفِ الظامي».
ومن الصدف أن الكاتبة مروة جبر، زوجة الشاعر في ما بعد و»شريكة المعاناة « كما لقبها، كانت في الصف الخامس في مدرسة مخيمات اللاجئين في خان يونس، بعد الاقتلاع والتهجير من يافا، حين درست هذه القصيدة، كما سردت في سيرتها «نداء السنونو « 2004:
« كنا في الصف الخامس، عندما أحضرت المعلمة بيدها كتابًا من الشعر، وأخذت تكتب على السبورة قصيدةً لنحفظها، وأخذنا نكتب في دفاترنا ما تكتبه المعلمة: أتَتْ لَيْلى لوالدِها/ وفي أحداقِها ألَمُ /وفي أحشائها نارٌ/ مِنَ الأشواقِ تضْطَرِمُ…» وقد استعارت مَرْوة الكتاب من صديقتها، بحْثًا عن اسمها في الشعر، حيث كانت لها زميلات وردت أسماؤهن في القصيدة مثل ليلى، سلوى، نجوى، بُشْرى، وتسرد «لكنني للأسف لم أجد لاسمي أثرًا، فأصبت بالإحباط، ولم أكن أدري حينها أن القدر رسم خطته لارتباطي بكاتب هذه الأبيات، بعد خمسة عشر عامًا من ذلك التاريخ، وكنت كلما سمعت فيروز تغني تلك القصيدة، تعاودني ذكريات الطفولة».
وللتنويه والأمانة الأدبية، بسبب ريادة الأخويْن رحباني عاصي ومنصور وإبداعهما في كتابة شعر يعبر بصدق وحرارة عن النكبة الفلسطينية، ولأن المطربة فيروز غنت للشاعر هارون مقاطع من قصيدة «مع الغرباء» من تلحين الأخوين رحباني، فقد وقع التباس لدى كثيرين من الكتاب والدارسين في نسب قصيدة «سنرجع يومًا إلى حينا» التي تغنيها المطربة فيروز، إلى الشاعر هارون هاشم رشيد، وهي في الحقيقة من تأليف الأخوين رحباني عاصي ومنصور، وقد وقعت في الخطأ نفسه حين نشرت مقابلة معه العام 2008 في موقع «إيلاف «، وبعد الفحص تبين لي أن القصيدة للأخوين رحباني، وهي لم ترد أصلًا في ديوان الشاعر هارون أو مؤلفاته.
رحل شاعر المدائن الفلسطينية، رحل يولسيس الشعر الفلسطيني بعيدًا في صقيع كندا. رحل متَيم يافا مُلْهِمَتُهُ ومؤلِمَتُهُ، مدينته الأثيرة بين مدن العالم التي بقي ينوب حولها في أشعاره، والتي قصمت ظهره حسرةً ووَجَعًا، بفعل النكبة واقتلاع وتشريد أهلها في فيافي الغُربة، وقد حَبَاها بديوان خاص «المُبْحِرون إلى يافا» (2004 ) حملهُ خَمْسَ عَشْرَةَ قَصيدةً، وزينَتِ الغلافَ لَوْحَةٌ للفنانة تمام الأكحل، وختم الديوان بقصيدة «بيت حبيبتي المأسور» إشارة إلى بيت رفيقة دربه وشريكة حياته، الكاتبة مروة جبر، وقد كتب هذه القصيدة عام 1996، حين أتى مدينة يافا، ووقف في حي العجمي، أمام بيت حماه أديب جبر وفاءً لطلبها، ويقول فيها:
وَقَفْتُ، هناكَ فَوْقَ التل / أسأل سيدي العجمي/ وفي عيني نهرُ الحُزْن / والأشْواقِ والألَمِ /أمامي دارُها البَيْضاءُ/ دارُ حبيبتي حُلْمي/ تكادُ تهبُ، تحْضُنُني/ بِفَيْضِ الود والشمَمِ/ تقول: حبيبتي وُلِدَتْ / هُنا في منزل الكرم/ هُنا في بيتها المزروع / مثل النجم والعلم/ هُنا في مَنْزل الأشواق/ والأحلام والنعم/ هُنا حَيْثُ « أديبُ الجبر» / جابر كل مُحْترم».

هذا الغزي المَوْلِد، ابن حارة الزيتون التي غادرها عام 1967، والذي ظنه الكثيرون يافيا، لكثرة ما حمل يافا في أشعاره، التقيته في بيته في القاهرة بتاريخ 2008/1/27 قبل أن يهاجر إلى كندا، بحضور شطره الثاني شريكة حياته، وأجريت معه حوارًا حول مسيرته الشعرية، وأهديته كتابي «يافا بيارة العطر والشعر»، ولفت انتباهي، ما حبّر لي في الإهداء على مؤلفين أهداني إياهما، «إلى شريكي في حب يافا..» و «إلى الأخ العزيز شقيق الوطن..» قاموسه هذا منحوت من طبيعة فلسطين التي شكلت أضلاع قصائده.
في جلستنا المعطرة بزنابق المودة والشعر، والضيافة الفلسطينية، باح لي أن قصة ليلى في قصيدته «مع الغرباء» التي غنتها المطربة فيروز هي «فعلاً حقيقية، من إحدى الأسر اليافية التي لجأت إلى معسكر البريج إبان النكبة، لقد شاءت الظروف أن أكون أحد المتطوعين في مساعدة اللاجئين.. الناس النازحين الذين يأتون عبر المراكب.. وكانت المدارس والمساجد أماكن اللجوء الأولى، ومن ثم المخيمات. لقد رأيت المأساة بأم عيني، فبعد أن كان هؤلاء الناس يعيشون في بيوتهم وبياراتهم وكرومهم ومدارسهم.. أصبحوا لاجئين في خيام. وكنت من أوائل من دقوا أوتاد هذه الخيام، وكانت أول قصيدة كتبتها بعد عام 1948 تدور حول الخيمة. حين استقر النازحون في المخيمات والمعسكرات نشأت بيننا زيارات.. وحدث في أحد الأيام أن كان البرد شديدًا، فسمعت طفلة من إحدى الأسر اليافية، التي تعيش في مخيم البريج، تنطق بعد أن شعرت بالبرد والغربة ( ليش يابا أحنا غربا هونا؟)، التقطت هذه الكلمة وأوحت لي بالقصيدة. كان يومًا ماطرًا، وقفت كثيرًا على الشارع العام، وكانت القصيدة تعيش معي.. خففت من ملابسي وبدأت أكتب، وكانت «مع الغرباء». وفي صبيحة اليوم التالي، أرسلتها الى ألبير أديب محرر»الأديب» البيروتية، وقد نشرها على صفحتين في وسط العدد، ثم قرئت في إذاعة القدس، من قبل المذيع إبراهيم السمان، بعد ذلك لحنها الأخوان رحباني وغنتها فيروز».
وحين أتى يافا عام 1996 (قالت حبيبتي رفيقة عمري، عندما تأتي (يافا) وتقف على التل، حيث هدير البحر، وحيث السيد (العجمي) فإذا أمامك، بيت أبيض..ذلك هو البيت الذي ولدت فيه). وأخبرني أنه حين اهتدى إلى بيت زوجته برفقة سائق مقدسي، قرع الباب فخرج أصحابه العرب، طرح عليهم السلام وطلب رؤية البيت تلبيةً لوصية زوجته، وقد ذهلوا حين قال لهم، إن هذا البيت كان لأهل زوجته، فسألوه هل أتيت لتأخذ البيت؟ أجابهم بلطف «يسلم البيت لكم، وأنا سعيدٌ أنكم أنتم عربٌ سكانه».
بعد النكبة وتغريبة قسم من أهالي يافا إلى غزة، كما تحدث في لقائنا، كانت أول قصيدة كتبها عن الخيمة، حتى قبل أن ينقل لاجئين إلى الخيام، ونشرها في جرائد غزة، ومما جاء فيها: «أخي مهما ادلهم الليل/ سوف نطالع الفجرا / ومهما هدنا الفقر/ غدا سنحطم الفقرا/ أخي والخيمة السوداء/ قد أمست لنا قبرا/ غدا سنحيلها روضا/ ونبني فوقها قصرا/ غدا يوم انطلاق الشعب/ يوم الوثبة الكبرى/ فلسطين التي ذهبت/ سترجع مرة أخرى»، وقد غناها ولحنها المطرب المصري محمد فوزي.
حمل شعره الوجع الفلسطيني اللاحدودي وحنظل النكبة، فالحبيبة حزينة والطفل «يَحْلُمُ بالدفْتَرِ، بالكتاب»، كما أنهُ تفاعل مع كل حدث مرّ على شعبه المصلوب، وقد عانى كثيرًا بسبب جيناته الفلسطينية، كما جاء في قصيدته «فلسطيني»: «حروف اسمي تلاحقُني / تُعايِشُني..تُغْذيني / تبثُ النارَ في روحي/ وتَنْبِضُ في شراييني/ هو اسمي..إنني أدري/ يُعَذبُني..وَيُشْقيني/ تُطاردُني عُيونُهُمُ /لإن اسمي فلسطيني/ تُطاردُني.. تُلاحقني /تُتابعني وتُؤذيني /لأن اسمي فلسطيني / كما شاءوا أضاعوني».
أصدر أكثر من 20 عملا شعريا، وكتب الرواية والمسرحية والدراسة الأدبية. من أبرز أعماله الشعرية: «مع الغرباء» (القاهرة 1954)، «عودة الغرباء» (بيروت 1956)، وفي جانب الدراسة «الشعر المقاتل في الأرض المحتلة» و»مدينة وشاعر: حيفا والبحيري».

*كاتب فلسطيني


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 11 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 5

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28