] أغاني العاشقين من سجن عكّا إلى دولة رام الله - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الثلاثاء 22 تشرين الأول (أكتوبر) 2019

أغاني العاشقين من سجن عكّا إلى دولة رام الله

الثلاثاء 22 تشرين الأول (أكتوبر) 2019

🔸 أشرف دبّاح | متراس

من السبعينيّات وصولاً إلى اتفاقيّة أوسلو في التسعينيّات، شهدت القضيّةُ الفلسطينيّةُ تحوّلاتٍ جذريّةً على مستوى البُنى السياسيّة والاقتصاديّة والمعرفيّة. كان من الطبيعيّ أن تنعكس هذه التحوّلات في الثقافة والموسيقى والأغنية الفلسطينيّة السياسيّة، تلك التي رافقت المقاومة بكافّة أشكالها، إلى أن وصلت حدّ هيمنة بعض التنظيمات السياسيّة على إنتاج الأغاني ونوعيتها. بهذا المعنى، كانت الأغنيةُ السياسيّةُ الفلسطينيّة على توازٍ مع الحدث السّياسيّ، ومواكبةً له في آن، ومُساهِمَةً في تشكيلهِ وبناء الوعي حوله. وفي هذا الإطار، برزت تجارب هامّة، وسيحاول هذا المقال استعراض تجربةٍ مركزيّةٍ في الأغنية السياسيّة، هي فرقة العاشقين.

تأسستْ فرقةُ أغاني العاشقين في دمشق عام 1977 في كنف منظمة التّحرير الفلسطينيّة ورعايتها. لم تقم الفرقة بنسخِ التراث الفلسطينيّ، وإنّما قامت بتوظيفه، وإعادة إنتاجه، أيّ أنها كانت تقوم بإعادة صياغة موسيقيّة وفنيّة وبصريّة للألحان الفلكلوريّة، حسب متطلبات العرض والجمهور. وهو ما يؤكده حسين نازك، الملحّن الرئيس للفرقة في مقابلة أجراها معه المؤلف الموسيقيّ والباحث عيسى بولص.(1)

يُشير نازك إلى اختيار تحويرات للإيقاعات والمقامات بما يتناسب مع الحس والذوق الجماعيّ، حتى يكون اللحن مستساغًا لآذان المستمعين. ويقدّم عيسى بولص مثالاً على ذلك أغنية «والله لزرعك بالدار»، والتي اعتمدت في أصولها على لحنٍ فلكلوريٍّ من مقام البيّات، لكنّ الفرقة غيّرته ليُصبح من مقام الحجاز الذي يحمل نفحةَ حزنٍ، مما يخدم الفكرة دراميًّا. كما يعتمد اللحن الأصليّ للأغنية على ميزان إيقاع معقّد بعض الشيء يتركّب من خمسة أرباع (4/5)، فغيّرته الفرقة ليصبح أربعة أرباعٍ (4/4) مما يخفّف من تعقيده، ويُسَهِّل على الأذن العادية استساغتَه واستيعابه، ومقاربته بالإيقاعات المنتشرة جماهيريًّا.

بمعنى آخر، ليست المادة التراثيّة هنا إلا مخيالاً جمعيًّا من الممكن أن يُوظّف سياسيًّا عبر الفن. ويبدو في ذلك تأكيدٌ على منبع الهوية الفلسطينيّة ووجودها المستمد من تراث القرية الفلسطينيّة، وهو تصوّر تبنته وجذّرته القيادة التاريخيّة للشعب الفلسطينيّ. بالتوازي مع ذلك، لم تتوقف الفرقة عن البحث عن أفق تعبيرٍ أرحب في موسيقاها، لا يقتصر على المادّة الفلكلوريّة.

▪️ لغة رماح المقاومة

من الممكن اعتبار أغاني الفرقة تأريخًا لمراحل وتطور النضال الفلسطينيّ، ومعبّرةً عن المواقف والأحداث التي اتخذتها القيادة السياسيّة وحركة التّحرر في بعض المراحل. منذ البدايات في دمشق، أنتجت الفرقة الأعمالَ المركزيّة في صوتيّات الثورة الفلسطينيّة. كانت تلك حقبة العمل الفدائيّ، وبالتالي غلبت على أعمال العاشقين أغاني البندقيّة والوعد بالتّحرير والثورة.(2)

وقد جابت الفرقة عدة مدن في العالم العربيّ وأوروبا من أجل تقديم هذه الأغنيات في حفلات ومهرجانات، كحفلة عدن الشّهيرة عام 1982 التي نُظِّمت في ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينيّة، وبحضور قيادة منظمة التّحرير.

استلهمت العاشقين في أعمالها التاريخَ عبر استعادتها لثورة عام 1936 ضدّ الاستعمار البريطانيّ، ففي ألبوم «سرحان والماسورة» عام 1978، وهي مغنّاة من كلمات الشّاعر توفيق زياد، وقد لحّنها مُلحن الفرقة حسين نازك، استلهمت «العاشقين» قصة سرحان العلي من عرب الصقر، الذي قام بتفجير أنبوبٍ للبترول في ثورة عام 1936، في تل الحارثية في منطقة جنين.

كما أعادت الفرقةُ إنتاجَ وتوزيعَ أغنية «من سجن عكا» المبنية على لحنٍ فلكلوريٍّ فلسطينيّ، وذلك في ذكرى إعدام الشّهداء محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير، والتي صدرت مع مجموعة من الأغاني عام 1981 حول ثورة القسّام، منها «أبو إبراهيم ودّع عز الدين»، وغيرها من الأغاني. كما رافقت الدبكةُ الشعبيّةُ الفلسطينيّةُ أيضًا كافة عروض الفرقة تقريبًا، ولهذا دوره أيضًا في التأكيد على الهوية الثقافيّة الفلسطينيّة المُستلهَمَة من تراث القرية الفلسطينيّة، والمُتَمحورة حول العلاقة مع الأرض.

قدّمت فرقةُ العاشقين الأغنيةَ السياسيّةَ التي ارتبطت بالحدث السياسيّ، والتي عكست وجهةَ نظر المنظمة في عدة مراحل سياسيّة كأغنيةِ «اشهد يا عالم علينا وعبيروت»، التي أُنتِجت عقب خروج منظمة التحرير الفلسطينيّة من بيروت عام 1982. وقد وثّقت فرقة العاشقين عبر أغانيها لمحطات أساسية مرّت في تاريخ الثورة الفلسطينيّة المعاصرة. ففي ألبوم «الكلام المباح» عام 1982 كانت الأغاني تتناقل المواقف السياسيّة، وتُشير إلى المعارك التي كان يخوضها الفلسطينيون أثناء الحرب الأهليّة اللبنانية، والعمل الفدائيّ، وكانت أغنية «قامت القيامة بصور» تنقل ما يقوم به الفدائيون الفلسطينيّون في المدينة، وأغنية «صبرا وشاتيلا» و«شوارع المخيّم» تنقل وتوّثق أحداث هذه المجزرة.

أما في مرحلة الانتفاضة الأولى فقد انحسر العمل الفدائيّ وتغيّر خطابُ الأغنية، فبدأت أغاني العاشقين بمحاكاة انتفاضة الحجارة واستخدام لغةٍ يوميّةٍ مثل الحجر والسّكين. وقد أصدرت الفرقةُ ألبوم «أطفال الحجارة» عام 1988 (وهو عنوان أغنيّة من كلمات نزار قبّاني)، وألبوم «مغناة الانتفاضة» عام 1989، وغنّت لشهداء الانتفاضة في «سبّل عيونه»، واستخدمت رموز الانتفاضة كالكوفيّة والمقلاع.

▪️ خطوات قليلة خارج التقاليد الموسيقيّة

أتاحت دمشق، المدينة التي نشأت فيها الفرقة، مناخًا أكبر من الانفتاح الثقافيّ على العالم العربيّ وإنتاجاته الفنيّة، فتعرضت بذلك الفرقةُ لتيارات العرب الغنائيّة، وخاصّة تلك القادمة من مصر، كتجربة سيد درويش، والثنائي الشّيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، إضافة إلى مجموعة تجارب مهمة، مثل مارسيل خليفة، وفرقة الطريق، وناس الغيوان من المغرب.

كان ذلك التأثر في مرحلةٍ تاريخيّةٍ ذات خصوصيّة عربيّة ودوليّة، حيث كان للمدّ اليساريّ حضورٌ سياسيٌّ، ومساهماتٌ فنيّةٌ وفكريّةٌ مؤثرة. ساهم هذا كلّه في أن تُقدِّم الفرقة تجربةً محافظةً على التقاليد الموسيقيّة السّائدة في تلك المرحلة، وفي نفس الوقت أن تحذو وراء تجارب تجديدٍ كانت حاضرة.

اعتمدت موسيقى العاشقين من ناحية الشكل الغنائيّ على صوت حسين منذر المنفرد، وهو صوتٌ قويٌّ وذو فخامة «جبليّة» كما يُقال. إضافة إلى «الكورَس» أو الغناء الجماعيّ من الجنسين، والذي يتمحور دوره في إعادة اللحن الرئيس أو ما يعرف موسيقيًّا باللازمة. أما ألحان العاشقين فهي ذات طابع مونوفونيّ، أي أنّها ألحان ذات خطٍّ لحنيٍّ وحيد يُميّز الموسيقى العربيّة الكلاسيكيّة، بعكس الموسيقى الغربيّة البولوفونيّة التي تتناغم فيها عدّة جمل لحنيّة بموازاة بعضها.

ورغم استخدامها لآلات التخت الشرقيّ الكلاسيكيّ، أيّ العود والقانون، وآلات الإيقاع والناي، ثم «الكيبورد» لاحقًا وآلة الفلوت الغربية، إلا أنّها جميعها وُظِّفت لهذا الخطّ اللحنيّ الوحيد، ولم توُظّف لعزف خطوطٍ لحنيّةٍ متعددةٍ تُقابل أو تحاور اللحن الرئيس والمحمول عبر الكلمات. وصيغت ألحان الأغاني في غالبها من مقامات الموسيقى(3) العربيّة الكلاسيكيّة في بلاد الشّام ومصر؛ كالحجاز، والرَّست، والعجم، والبيات، والهزام.(4) واستخدمت الإيقاعات العربيّة؛ كالمصمودي والمقسوم والوحدة(5)، وهي الإيقاعات التي درجت الأذن العربيّة على سماعها ورافقت الطقطوقة والأغنية الشعبيّة. من هذا الجانب، فقد بقيت أغاني العاشقين محافظةً من حيث تقاليد الموسيقى العربيّة.

رغم ذلك، فإن بعض أغاني الفرقة حملت عناصر موسيقية مُلفِتَة، وتُعدُّ جديدة نسبيًا حتى فيما يخصّ إرث الموسيقى العربيّة. نلاحظ مثلاً بأنّ الشكل الغنائيّ الذي تُقدمه في «سرحان والماسورة» من الممكن تصنيفه على أنّه «مسرحية غنائيّة» أو ما يعرف بمسمّى «أوبريت» غنائيّ. فعلى الرغم من وجود خطٍّ لحنيٍّ وحيدٍ تقوم الجوقةُ الغنائيّةُ بأدائه إلا أنه يأخذ أبعادًا دراميّة وسرديّة في مواجهة الكلمة، وهي من شعر توفيق زيّاد في هذه الحالة. فقد درجت الموسيقى العربية عمومًا على كونها رافعة للكلمة، وساندة لها وليس في كونها نصًّا موسيقيًّا يقابل الكلمة وعلى ذات الأهمية.

إضافةً إلى أن «سرحان والماسورة» لا تعتمد على أي عنصر من عناصر التطريب المتعارف عليها في الموسيقى العربيّة، وليس في ذلك ما يعيب أو يقتنص بالضرورة من الموسيقى العربيّة، وإنما في ذلك تأكيد على أن الموسيقى في «سرحان والماسورة» قد حاولت البحث والاعتماد على عناصر موسيقيّة وأفق تعبيري آخر يُقدِّم للمستمع تجربةً جماليّةً مختلفة. إلا أن هذه التجربة ظلّت ضمن اللحن الصوتيّ الواحد، فقد كان من الممكن أن تدخل عناصر هارمونيّة، أو تعددية صوتيّة – ولا يحمل ذلك بالضرورة تغريبًا للموسيقى - من أجل إغناء وتلوين بعض الأفكار اللحنيّة المركزيّة.

▪️ حين تكسّرت الرماح

بعد مسيرة طويلة من الإنتاج الغنائيّ الثوريّ، انقطعت عروض وإنتاجات فرقة العاشقين حوالي 17 عامًا. إلا أنّها عادت وظهرت عام 2010، إذ أُعلن حينها عن تحويل الفرقة إلى مؤسسة وطنيّة تقوم على «حماية» إرثها، وباحتضان السّلطة الفلسطينيّة لها. حدث ذلك في فلسطين بعد أن دخلت فرقة العاشقين إليها للمرة الأولى ذلك العام، وقامت بإحياء حفلات لها ولأول مرة في مدينة رام الله، وبلدة أبو ديس شرق القدس.

بعد هذا «التحوّل»، أصدرت الفرقةُ أغانٍ جديدة مثل «اعلنها يا شعبي»، التي جاءت لتؤيّد توجّه الرئيس محمود عبّاس إلى الأمم المتّحدة لإعلان «دولة فلسطين»، ثمّ أغنية «غزّة والضفّة» التي تدعو للمصالحة الفلسطينيّة، ثم أغنية «ابن الشمس» التي تندد بما يُعرف بصفقة القرن. وهي في كلّ أغانيها تتبنّى مواقف السلطة.

تعطينا هذه الأغاني الإنطباع بأنّ «النسخة الجديدة» من فرقة أغاني العاشقين قد اختارت وجهتين؛ تتمثّل الأولى في ارتضائها بأن تلعبَ أغانيها دورَ البروباغندا السّياسية للسُلطة الفلسطينيّة وبرنامجها. والوجهة الثانيّة هي ارتضاء الفرقة بأن تظلّ فنيًّا في خانة النوستالجيا الوطنيّة لحقبةٍ زمنيّةٍ محددة. فما أعطى أهميّةً كبيرةً للفرقة في الماضي، هو انهماكها وقدرتها على تقديم أغانٍ تمسّ الوجدان والحس الجماعيّ آنذاك، وهو وجدان متحفز ومتأهب، فكان يكفي أن تتم مداعبته على طريقة العاشقين من أجل اعتبار تلك الأغاني أيقوناتٍ مشعّة، وهي قدرة تبدو غير قائمة اليوم، في ظلّ المشروع السياسيّ الذي تخدمه أغانيها الجديدة.

🔻 المصدر: متراس


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 76 / 2342227

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

34 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 34

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28