] خلفيات الحداثة في قصة الستينيات - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الخميس 20 حزيران (يونيو) 2019

خلفيات الحداثة في قصة الستينيات

صالح الرزوق
الخميس 20 حزيران (يونيو) 2019

من المتعارف عليه أن نقول عن قصة الستينيات إنها قصة حديثة، ولدينا قائمة طويلة من الأسماء التي ارتبطت فعليا بتاريخ الحداثة عند العرب، أمثال غادة السمان وكوليت خوري وأحمد إبراهيم الفقيه الذي واريناه الثرى مؤخرا. هذا غير زكريا تامر وهاني الراهب ووليد إخلاصي وسواهم. لقد عكسوا أجندة القصة المكتوبة بلغة عربية من اليسار إلى اليمين، بمعنى من المعاني نقلوا نظرة الكاتب من الموضوع إلى الذات. وبتقليب صفحة النتاج الستيني سنكون على موعد مع ثلاث نقاط أساسية.
الأولى هي استعمال ضمير المتكلم. فالقاص هو بطل قصته، وهذا لا يعبّر عن إفراط في الجــــانب الذاتي، بقدر ما يحمل دلائل نرجسية فنية.
فكل قاص من أبناء حزام الستينيات يعتقد أنه الحقيقة المطلقة، وأن تجربته الشخصية هي محور تجربة عقد الستينيات كله.
النقطة الثانية هي تكرار موضوع الضعف والسقوط. ونادرا ما يكون أبطال هذه القصص غير مأزومين. ومن المتعارف عليه أن يسقطوا في فخ أوهامهم، على افتراض أنها رؤية باطنية لواقع أفقي، ولذلك تغلب على نهاياتهم العدمية والانتحار. ومثل هذا الحدس بالفشل لم يكن ليأتي من فراغ، لكنه تعبير سابق للأوان عن أقسى هزيمة تلقيناها وهي هزيمة يونيو/حزيران. ولا أعتقد أن أحدا بكى أو رثى نفسه مثل جيل الستينيات، باستثناء من كتب حول جلاء العرب المسلمين عن الأندلس. وفي ذهني نموذجان من هذه الحالة. الأول «حسرات مور الأخيرة ـ 1995» لسلمان رشدي، والثاني «ثلاثية غرناطة ـ 1994» لرضوى عاشور. لكن نماذج البكاء على الأندلس كانت تتكلم عن جلاء عسكري وتطورات حربية محزنة. لقد كانت مغلفة بغبار المعارك. إنما أدباء الستينيات باءوا بهزيمة وجودية وفراغ نفسي وخطأ في مجرى الأحداث، ولم تكن لديهم قراءة تاريخية، ولكن مجرد إدانة يسبقها التباكي على الظلم الفادح، بالإضافة للخوف الممزوج بالنفور من قوة ظالمة يصعب تحديها أو تسميتها. وللمقارنة كان مور في رواية «رشدي» يتخبط بأخطائه ونزواته، فقد عاد للأندلس محمولا بتابوت من الموبقات والآثام، وأولها تجارة البغاء والمخدرات. وهذا في رأيي تفسير اجتماعي معاصر لهزيمة المسلمين الحضارية. فشبكة بيوت الميسر التي أحسن مور الإعداد لها هي في رأي رشدي صورة من صور الفساد والدعة التي انحدر لها ابن زيدون وولادة وابن عباد. غير أن أبطال قصص وليد إخلاصي في «الطين» (1971) وجورج سالم في «الرحيل» (1970) يجدون أنفسهم وسط متاهة، وفي حالة حصار وإظلام. ويعبرون عن ذلك بمونولوج داخلي يغلب عليه الإبهام والتشاؤم. ومهما حاولت أن تفتـــــش عن مبرر لن تجد.
لقد كانت الحساسية نفسية وجمالــــية، وبلا أي داعم اجتماعي أو تاريخي، حتى أنه يمكن أن تعتقد أن هذه الشخصيات تعيــش وحدها في عالم بدون هوية اجتماعية، وبدون أي تاريخ سابق.
النقطة الثالثة، وهي الأهم، استبدال الحبكة بالوحدة الموضوعية، وفي أغلب الظن أن هذا الشرط الفني لم ينتقل إلينا من منابع القصة الحديثة، ولكن من العقل الكلاسيكي للقصيدة العربية. فغني عن القول إن الشعر العربي يعنى باستقلالية كل بيت شعر على حدة، وترابط القصيدة يأتي من تطور دراما الشاعر، ومن قواعد صوتية أو قوانين يتحكم فيها السمع والإلقاء. وأوضح مثال على هذه الحقيقة ما تجده عند زكريا تامر ابتداء من مجموعته «الرعد» (1964) وحتى مجموعة «دمشق الحرائق» (1973). فكل قصة مجزأة لوحدات مستقلة، ولكنها تتجاور بنقل معنى المأساة وأجواء الرعب والدمار والموت، بحيث يكون عمود القصة هو دراما الخراب أو مكان ومنبع هذا الرعب، كالمقبرة والزنزانة والمخفر، أو أحيانا الصحراء الجافة التي تهدد الشخصيات باليأس والقنوط، كما هو حال أطول قصتين في ملفات تامر وهما «البدوي» و«الرحيل إلى البحر».

ما نعتقد أنه انقلاب حداثي على ذاكرة واقعية، أو صراع بين الأجيال، وبالتحديد بين أدب المحاكاة الشعبي في الخمسينيات وأدب النخبة في الستينيات، هو في حقيقة الأمر تعبير عن فرز داخلي للبورجوازية الناشئة.

وبالعودة لمشكلة هذه البنية مع الحداثة، إنه لا يمكننا أن نجد أي بادرة للتمرد على المفهوم الكلاسيكي للعالم. وبالعكس، لقد كان الشكل الحديث يستعين بأدوات من الشعر الكلاسيكي ليبرر لنفسه وحدة النص وترابط المضمون.
إن تصنيف القصة العربية على أساس الأطوار التي مرت بها القصة في العالم، يبدو لي مجحفا. ولا شك في أن قصة الستينيات مشبعة بالحساسية الحديثة، وهي قصة ذات بنية شعرية تهتم بالباطن لا بمحاكاة الظاهر. وفي أسوأ الأحوال تعبّر عن أثر انعكاس الخارج على الداخل. وهذا لا يعني، بالضرورة، أنها تطورت عن اضمحلال الروح وانسلاخها عن الصورة الطبيعية (حسب مبدأ هيغل في دورة المذاهب). فالقصة العربية بدأت أصلا مع التنوير الذي جاء في أعقاب نهضة استعارية ومجازية، أو تحديث سياسي لتجميل وجه الدولة (والإشارة هنا لمحاولات السلطان عبد الحميد في تبييض وغسل واقع دولته المشرفة على التهاوي). وهذا يعني أننا بدأنا مع الحداثة من رحلة الطهطاوي وانبهاره بباريس (1826)، ثم بكائيات الكواكبي على الديكتاتورية الشرقية، وهو في منفاه في مصر (1899). وحداثة الستينيات لم تكن إلا تحريرا لحداثة بواكير القصة. وإذا كانت البدايات متعجرفة أو مرتبكة، ولا تعرف كيف تتكلم مع خلفياتها، فإن قصة الستينيات حسّنت العلاقة بين تلك الأدوات وذاكرة الحداثة.
ولمزيد من التوضيح، إن ما نعتقد أنه انقلاب حداثي على ذاكرة واقعية، أو صراع بين الأجيال، وبالتحديد بين أدب المحاكاة الشعبي في الخمسينيات وأدب النخبة في الستينيات، هو في حقيقة الأمر تعبير عن فرز داخلي للبورجوازية الناشئة. فنحن حيال حساسية محتقنة بنشوة امتلاك الأرض (مع ديكور مجتمع ريفي أو جمهرة من الفلاحين) مقابل حساسية صناعية مؤمنة بمعنى المدينة، وما تفرضه على الإنسان من عزلة واندماج أو تناقض. ولا ضرورة للتذكير أن خلاف المجموعتين نجمت عنه رؤية أحادية حمل أعباءها نموذج الطلبة، ولاسيما في قصة السبعينيات. فقد ابتكرت حلا لهذا الخلاف، مع الشيء ومثله، بواسطة تصوير شخصية مقتلعة من جذورها، وعائمة في جو من الوعي المعرفي الذي يخترقه الحــــرمان والكبت وأيضا الرغبات. وإذا كانت قصة السبعينيات حافلة بنكهة وآمال الطالب العربي الباحث عن المعــــرفة، فهي نادرا ما تكلمت عن هذا الموضوع بصراحة متناهية.
إنما لا تخلو تجربة روائي معروف من عمل أساسي يتناول مشكلة المدينة الجامعية وصدام المعرفة مع السلطة. وأعتقد أن رواية النصف الثاني من الستينيات وحتى عام 1973 كانت أساسا رواية المدينة الجامعية، والأمثلة لا تعد ولا تحصى.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 41 / 2342227

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

36 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 32

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28