] بناء الحيل الفنية وتحبيك السرد في رواية «شمس بيضاء باردة» - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 15 حزيران (يونيو) 2019

بناء الحيل الفنية وتحبيك السرد في رواية «شمس بيضاء باردة»

السبت 15 حزيران (يونيو) 2019

- ابراهيم الحجري/ المغرب

بقدر ما اشتغلت الروائية كفى الزعبي، بوعي فكري وفلسفي على تشييد الأطروحة، ومعانيها المؤسسة، وأفكارها الفرعية، في روايتها «شمس بيضاء باردة» فقد راهنت، بالمستوى نفسه، على تجديد عملية التخطيب الفني، وإخراج المادة الحكائية في قالب يليق برؤيتها الجمالية للعالم والكتابة والذائقة، بدون أن تفرط في تنامي القصة وعوالمها، وبدون أن تفقد العقد المتعددة للنص تلاحمها، وبدون أن تفقد القراءة حلاوة السرد، ومتعة الحكي في أي مفصل من مفاصلها، غير أن عملية القراءة والتأويل، وبناء المتخيل ذهنيا، يحتاج من فعل التلقي، اجتهادا موازيا من أجل ترتيب أجزاء المحكي الروائي وأحداثه، وإعادة صياغته، بالشكل الذي يمنحه معناه، وفق السيولة الأصلية الخام التي ينتظمها واقع القراءة، تبعا لوعي المتلقي بأساليب اشتغال الشكل الفني، وقوالب اللعبة السردية.
وزعت الكاتبة نصها بشكل يشغّل المتلقي، ويدعوه إلى التفكير الموازي، والتأمل في الشكل، بدل التلقي الاستهلاكي الجاهز، إذ عمدت إلى استعارة أسلوب لاعبي «الكارته» في خلط الأوراق، وإرباك ترتيبها الأصلي، لتعمل على خلخلة الترتيب الأصلي للمادة السردية، وفق ما يقتضيه منطق الزمن الفيزيائي، وسيولته الخطية، وترتيبه التصاعدي، معتمدة على تقنيتين سرديتين شهيرتين، الاسترجاع أو الفلاش باك (Flash- Back)، بوصفه عملية تستهدف توقيف السرد، الآني بالنسبة لزمن الحكاية، والعودة إلى أحداث وقعت في الزمن الماضي، ليتم سردها في لحظة لاحقة على زمن حدوثها و(الاستباق)، في بناء العالم التخييلي.
تبدأ حكاية النص (القصة) من نهايتها، حيث يفتح ستار السرد على الشخصية الرئيسة (راعي)، وهو يكتري غرفة بائسة، تعفنت فيها جثة سلفه في استئجارها، الذي كان يعمل بائع أوراق اليانصيب، ولم يتم اكتشافها من قبل الجيران، إلا بعد أن عمت رائحتها الكريهة المكان، وبينما كان يجتهد لإيجاد إيقاع جديد لحياته المضطربة داخلها، بات يلحّ عليه، بشكل كابوسي، شبح ذاك الرجل الميت، حارما إياه من النوم، وموقعا به في سديم جحيم لا يحتمله عاقل أبداً، حيث يبدأ (راعي) سرد يومياته، وذكرياته الماضية، مركزا على اللحظات المعتمة التي خلقت مأساته الشخصية، ومبئرا حديثه عن علاقاته الإنسانية التي أوقدت نار الجحيم الذي ظل، وما يزال، يصطلي بلهيبها.

تعمد الرواية إلى استعمال تقنية الاستباق، فتورد إشارة إلى وقوع أحداث قبل تحققها الزمني، تبعا للسيرورة المنطقية التي تفترضها حكاية النص، أي أن السارد ينقلنا بوثبة زمنية إلى أحداث ستحصل، أو سيتحقق حصولها بعد حين.

وفي الآن ذاته، تعمد الرواية إلى استعمال تقنية الاستباق، فتورد إشارة إلى وقوع أحداث قبل تحققها الزمني، تبعا للسيرورة المنطقية التي تفترضها حكاية النص، أي أن السارد ينقلنا بوثبة زمنية إلى أحداث ستحصل، أو سيتحقق حصولها بعد حين، وهذا لا يحصل إلا مع الراوي العليم، الذي يهيمن على مقود السرد من أول المحكي إلى نهايته، ونمثل لذلك، بالإيحاء بواقعة انتحار «أحمد» قبل لقائه عمليا من لدن شخصية «راعي»، يقول السار: «كان أحمد متمردا، رفض الاستمرار في الإذعان للذل والألم. أما أنا فجبان. أذعن، على أمل حدوث شيء ما، لأن رغبتي في الحياة تنتصر دوما على رغبتي في الموت. ما الذي يمكن أن يحدث أيضا، غير صفعات أخرى. لماذا لا أنتحر الآن؟» .
وظفت الرواية، طيلة فصولها، السرد بضمير المتكلم، انسجاما مع الأطروحة النصية، والكثافة السيكولوجية للشخصيات، وتنامي صوت الذات في المتن، ما حتم انتقاء الراوي – الشخصية، ضمانا للتطابق بين الراوي والشخصية (العامل الذاتي في النص) حتى يتم الدفع بعملية البوح القصدي إلى منتهاه، علما بأن المسافة بين الشخصية والراوي والكاتبة الفعلية، أو ما يسمى في الأدبيات النقدية بـ»الترهينات السردية» ظلت قائمة على أساس كبير من الوعي الجمالي، والخبرة السردية. الشيء الذي يوهم بكون المحكي برمته، يمر عبر جسر الراوي – الشخصية (راعي)، فإذا كان السرد بضمير المتكلم (أنا) سمح للراوي فنيا، بالحضور القوي الذي منحه القدرة على التحليل والتدخل بشكل يوهم بالصدقية، ويولد الوهم بالإقناع ، فإنه في آخر الرواية، وبينما يوشك السرد على منتهاه، بدا كأن شخصية أخرى غير «راعي» الذي فقد عقله، وظهر كأنه يُنقل بالقوة إلى مشفى صحيّ، أخذت مشعل الحكي، لينفرج التطابق بين الشخصية والراوي، فيستقل كل منهما بذاته.
ومن ناحية أخرى، وتعضيدا للتقنيات المفضية إلى العمق الإنساني، والحس المشترك، استعانت الروائية بتقنية اليوميات، مستعيرة بذلك، شكلا خطابيا يبسط عملية الاستبطان النفسي، ويجسر التوغل الحاد في العوالم المعتمة للفرد، وهو يستذكر منعطفات قاسية من حياته الماضية، حاصرا إياها في أربع عشرة ليلة، وأربعة عشر نهارا، ينهيها بليالي ونهارات غير مسماة، وكأن الرواية بذلك، تفتح المستقبل على الشعور المتكرر بالخيبات التي تكاد لا تنقضي، منتظمة في مسار حلزوني لانهائيّ، انسجاما مع فكرة التداخل العبثي لمنطق التاريخ والزمن في أجندة الشخصية الرئيسة، المعبأة بمتواليات مفتوحة على العدمية، والمنذورة على مطلق النكوص والانتكاس.
وحرصا على أن تكون هناك فجوات بين المفاصل الحكائية، ومنعطفات القصة، وأن تفصل بين المواقف والتوصيفات والوقائع فجوات تريح الراوي، وتجعله يستجمع أنفاسه، ويعيد النظر في خطاطته، وخريطته، وهندسته التخييلية، لجأت الروائية إلى تقطيع المحكي، فتجلّى السرد متكسرا، في بعض فقراته، ومفاصله، غير أن تلك البياضات الفاصلة، سرعان ما يتداركها الحكي في مواقع أخرى، تلميحا، أو تفصيلا، أو لعل القارئ يفطن لتجسير الحدود بين المقاطع والعوالم من تلقاء نفسه، عبر البناء وإعادة البناء التي تعمّدت الرواية توريطه فيها.
تنتمي رواية «شمس بيضاء باردة» إلى فئة الروايات ذات البعد السيكولوجي المطل على عمق الفرد العربي المثقف، المثقل بالخيبات والنكسات، والمعرض بقسوة، في مجتمعات تتعمد إقصاءه، لطاحونة الفقر، والنكران، والطرد الرمزي من الحضور الاعتباري في مجتمعات تساق، بالتدريج، هي الأخرى، عنوة، إلى نسق العولمة الماكرة التي تأخذ ولا تعطي، تمتص اللحم، وتطرح العظم، لتتفاقم عزلته الانفرادية، وتزداد ظلمة سجنه الاختياري، بعيدا عن محيط يتعفن بقيمه المختلة، وأعرافه السمجة، ونظمه الظالمة التي تحرق في الآدمي روح الإبداع والتفكير الحر، والقدرة على المبادرة، جاعلة منه نسخا متشابهة، قابلة للذوبان، والانسلاخ، والانخراط اللاواعي في منظومة الانتهاك البشري اللا محدودة.
وقد سخرت الروائية كل مهاراتها وطاقاتها اللغوية والشعرية والتصويرية والقرائية في سبيل إرساء متن بقوة أطروحته الإنسانية، ورسالته الفكرية التي بقدر ما تجرد الفرد العربي من أقنعته الثقافية، وتصوره في أبشع لحظات ضعفه، فهي أيضا، تروم مراجعة هذا الوضع الذي يزداد تعقيدا مع الهيمنة التكنولوجية، وتنامي القوى الضاربة للعولمة والاقتصاد العالمي، الذي لا يعرف سوى منطق الربح، ومراكمة الرساميل، بدون أي اعتبار لفساد القيم، وتراجع الحسّ الإنسانيّ، بل إنها وظفت حتّى المؤشرات النصية الأولية في سبيل ترسيخ المغزى نفسه؛ إذ تستفتح الرواية متنها بـ»اللعنة تعرف طريقها إليّ» وتنتهي بـ»ورحت أبكي وأنتحب مثل طفل»، جاعلة المسافة بين الشعور بالإحباط، والبكاء لدى الشخصية الرئيسة كافية لتحوله إلى كائن على حافة الجنون واليأس.

مهما اجتهدت الشخصيات الروائية في حفر قبرها بأيديها، مساهمة في صنع مآسيها الفردية، فإنها لم تفرط في ممارسة حقها في نقد واقع الحال.

فإذا كان العنوان يشير إلى الصّورة الرمادية القاتمة للواقع، مُتكئا، في ذلك، على الربط بين مقولات دلالية مفارقة، تفقد فيها (الشمس) حرارتها، ولونها الأصفر المشع، فتصير بيضاء مثلجة، باردة، فاقدة لمعناها الرمزيّ في إحالة صارخة على وضع سوداوي مخيف، تنضاف إلى ذلك، صورة الغلاف المتخللة بإطار يحضن شخصا باهت الملامح، يعطي ظهره للعالم في غير ما حماس، وفراشة جميلة تتربص بهذا الإطار، كما لو كانت روحا غامضة مقبلة من الملكوت لتبلغ إشارتها المرعبة، قبل أن تختفي، وللتأكيد على تجانس المدخلات النصية، فإن المتن يشير، في فقرات كثيرة، إلى ما يحيل على هذه العتبات، ويرسخ مدلولاتها في ارتباط وثيق بالمضامين، ونذكر على سبيل التمثيل: «رأيت، عند آخر الليل، فراشة عملاقة تحلق مقبلة من بعيد. كانت تقترب مني، وكنت أرى مكان عينيها فراغين مهولين، جعلاني أرتجف رعبا. خيمت فوقي بجناحيها اللامتناهيين، فانطفأ شحوب النهار، وأظلم»، الشيء الذي يوحي بكون هذه العتبات البرانية قراءة محددة للمتن، وليست موضوعة عبثا.
ومهما اجتهدت الشخصيات الروائية في حفر قبرها بأيديها، مساهمة في صنع مآسيها الفردية، فإنها لم تفرط في ممارسة حقها في نقد واقع الحال، مبينة سخطها العارم على العالم من حولها، صابّة جام حنقها على النظم والممارسات الحاضنة لفلول التخلف، والرداءة، والتفاهة، مسخرة، في بعض الأحيان، قدراتها البليغة في التهكم المرّ، والسخرية السوداء مما يعتمر المحيط الاجتماعي من صنوف الهشاشة الفكرية، والاقتصادية، والاجتماعية، يقول الراوي – الشخصية؛ متهكما من العالم: «حدثت مازنا، في أثناء انتظاره، عن الأفكار التي تراودني بتأليف كتاب، وأن هذه الفكرة تلح عليّ، كلما دخلت المرحاض، فمعظم الأفكار المهمة تأتيني في أثناء تعصري فيه، كأن الأفكار في معدتي. واسترسلت أحدثه، وهو يضحك: كتاب، سأسميه «تغوط»، إذ يبدو لي اننا نعيش في بطن عالم تافه، ونتعفن فيه، وخصوصا نحن الفقراء، الذين أغوانا العقل بأوهامه».
تكرس الصورة الرمزية التي بدت عليها شخصيات الرواية؛ هشاشة الفرد المثقف إزاء ما يعتمل في واقعه، ومحيطه المجتمعي، وعدم قدرته على الصمود في وجه العواصف العاتية، في الوقت الذي كان يحتم عليه المنطق السعي الدؤوب للفعل الإيجابي في المنظومة المجتمعية، بهدف تعديلها نحو الأفضل، والرقيّ بها في الاتجاه الصحيح الذي يتمثله، ويؤمن به، إذ اختار الهروب بدل المواجهة، تاركا العالم في مهبّ المحرقة القيمية السالبة، ولا شك في أن ما أحدثه الربيع العربي، وتجلى في العديد من محطاته في صور وأشكال شتّى، منبئا «عن أزمة ثقافية وجودية ضاربة، تجلت بصورة مثقف يعيش حالة خواء قيميّ وأخلاقيّ، سقط في أول نقطة اختبار حقيقية لإيمانه بما يدّعي ويرفع من شعارات لم تكن إلّا مضللة، لتسويق ذاته المشوهة من الداخل بتناقضاته التي لا حصر لها» ، على أساس أنّ الرواية إدانة للواقع، وصرخة مدوّية ضدّ التحقير الذي يطول الثقافة والمثقفين في عالمنا العربي، ونقد لاذع لإسناد التخلف الفكري، والاجتماعي التي تعشش في المتخيل الجمعي، حاجبة عنه رؤية النور، ومطوقة إياه في سراديب موحشة من الظلام.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 75 / 2342227

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

34 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 35

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28