] «ترامواي في القدس» للإسرائيلي عاموس جيتاي: إعادة تكرير لخطاب التعايش المبتذل - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الجمعة 17 أيار (مايو) 2019

«ترامواي في القدس» للإسرائيلي عاموس جيتاي: إعادة تكرير لخطاب التعايش المبتذل

الجمعة 17 أيار (مايو) 2019

- سليم البيك

■ لعاموس جيتاي أفلام عديدة متراوحة بين الوثائقي والروائي، وهي سياسية في عمومها. أتى فيلمه الأخير ليدمج بين الوثائقي والروائي، وكان سياسياً تماماً. أما السياسة فيه فكانت استمراراً لمواقف جيتاي الرمادية المتخللة أفلامَه السابقة، وأما الدمج فكان لخلو الفيلم من حكاية، فكان أشبه بتثبيت كاميرا في عربة ترامواي يقطع القدس بين شرقها وغربها لتوثيق ما يدور فيها، فندخل في أحاديث ركاب العربة «المتنوعين»!
لجيتاي مواقف يمكن اعتبارها، في السطح، متضامنة مع فلسطينيين في حالات معينة، نذكر منها ثلاثيته «الوادي» (1981، 1991، 2001) التي صور فيها زوجاً فلسطينياً وتضييقات الاحتلال على حياتهم، في ثلاثة وثائقيات. قد يتفق أحدنا مع تفصيل ما في فيلم ما لجيتاي، ينحصر ضمن حيز قد لا يستلزم التوسع أكثر في ما يخص المسألة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي، لكنه غالباً أسلوب «يساروي إسرائيلي» لتفادي الإشارة إلى القصة كاملة، إلى الحقوق الجذرية للفلسطينيين في بلدهم، بالإشارة إلى حقوق لحظية عينية وعزلها عن سياقها التاريخي، لكن في فيلمه الأخير الذي شارك في مهرجان فينيسيا السينمائي خارج المسابقة الرسمية، كانت «يساروية» جيتاي استكمالاً لتراث «يساروي» صادرَ حق الفلسطينيين في القول، بعد مصادرة دولة الاحتلال حقهم في البقاء.

في الحديث عن القدس (أو أي مدينة فلسطينية) كمدينة تعايش، لغمٌ مفضوحٌ وقد استُهلك مراراً، تحديداً إن أتى من سينمائي إسرائيلي يريد، من خلال تعايشه، سلاماً مع فلسطينيين، تقمعُهم دولتُه – وله فيها امتيازات- وتحتل بيوتهم (وما تزال تهجرهم منها، في القدس تحديداً). أتى الفيلم خطابا مباشر في ذلك، إنسانيا بمعنى «فلنعش معاً» متخطياً جذر المسألة التي أتت بجميع ركاب الترامواي، من غير الفلسطينيين، إليه.
في الفيلم انتقاد للقمع الإسرائيلي بشكل ترميزي، رجل الأمن في العربة يتحرش بيهودية راغباً فيها، وبالمقابل كلما رأى فلسطينياً يسأله عن هويته. الفلسطيني من لهجته (بالعبرية) يُتهم بالإرهاب، مغن راب فلسطيني يطرح كلمات تطالب الإسرائيليين بالرحيل، فلسطينية تحكي باقتضاب عن معنى أن تحمل جواز سفر هولنديا في القدس. باقي الركاب كانو إما إسرائيليين أو سياح، كفرنسي يحكي لإسرائيليين مؤيدين لجيش الاحتلال عن جمال «بلدهم» فيجيبون متحدثين عن الجيش، في محاولة نقد مستحيَة و(صارت) مبتذلة من المخرج تجاه جيش دولته.

الفيلم الإسرائيلي، كعموم الخطاب التعايشي الإسرائيلي، لا يعود بالمسألة إلى جذرها، إلى النكبة وعام 1948، قد لا يُطلب من فيلم سينمائي الإلمام بمسألة ما متى طرحها، لكن طرح المسائل من منتصفها، مُقتطَعة، فتكون لاتاريخية، خارج السياق.

ما يمكن اعتباره في الفيلم نقداً، لم يغادر السطح، أحاديث شبه فارغة، مواقف مباشرة قد تكون أفضل من غيرها في أفلام إسرائيلية أخرى، إنما تبقى سطحية، كأن «المشاكل» في فلسطين ودولة إسرائيل هي ممارسات يومية، أو سياسات حكومية طارئة على السياق التاريخي للوجود الإسرائيلي في القدس وباقي البلد.
الفيلم المتواضع فنياً، أتى بخطاب إنسانوي خطف القول من الفلسطينيين، مُخرج في دولة له فيها امتيازاته كمواطن يهودي، يعارضها، يَخرج بفيلم عن التعايش في «مدينة الأديان الثلاثة»، بخطاب مُعاد تكريره، بدون الخوض في فيلمه في كيف وصل كل هؤلاء إلى هنا. وما على الفلسطيني سوى القبول بالتعايش السلمي لأنها مدينة الجميع كما هو الترامواي بركابه. الخطاب «الإنساني» هنا خُطف من الضحية، ليُنَزل عليها من فوق، ضمن قولٍ تضامني لا بد للفلسطيني، كي يكون جيداً ولطيفاً، أن يقبله، وإلا كان إقصائياً آخر يريد «ترحيل» اليهود من «مكانهم».
الفيلم الإسرائيلي، كعموم الخطاب التعايشي الإسرائيلي، لا يعود بالمسألة إلى جذرها، إلى النكبة وعام 1948، قد لا يُطلب من فيلم سينمائي الإلمام بمسألة ما متى طرحها، لكن طرح المسائل من منتصفها، مُقتطَعة، فتكون لاتاريخية، خارج السياق، ويكون ذلك نهجاً، هو نقل ناقص يقصد نفي الحقيقة، حقيقة إن كان للعربَة ركاب فلسطينيون طردهم الاحتلالُ منها ليركب جيتاي وغيره محلهم، ثم ينادون ببعض حقوق مطلبية لمن تبقى. ذلك أشد خبثاً من الكذب المتقصد الصريح، هو ادعاء بنقل كامل الحكاية من خلال فصل صغير متأخر (بغض النظر عن مدى صدقه ضمن حدوده المكانية والزمانية).
الفيلم يقدم، ضمن ما يقدمه، فلسطينياً يُسأل عن هويته لأنه فلسطيني، راكبٌ في عربة واحدة مع فئات متعددة من المجتمع الإسرائيلي، يغنون ويتحادثون، ضمن ما أراد جيتاي تصويره بأنها مدينة التعايش للجميع، بما في ذلك الجندي الشاب الذي يرقص في المحطة مغازلاً فتاة تنظر إليه بإعجاب. السؤال الذي يجعل بالإجابة عنه، الحقيقة أكمَل، هو: لمَ كل هؤلاء هنا وهل يحتلون أمكنة آخرين في العربة؟ لا يمكن التضامن مع مُضطَهدٍ بالقبول بوجود مضطهِده، إلى جواره في أحسن الأحوال، وفي أسوئها على مقعده، وفي بيته وقد هجره منه.
الخطاب التلقيني الفوقي الذي يمارسه «دعاة التعايش» من السينمائيين الإسرائيليين، وعموم المثقفين، يبقى خطاباً بمنطق استشراقي «أبيضَ» في لاوعيه، وخطاباً صهيونياً استعمارياً في وعيه، ويطرب له بعض المتفرجين العرب. الجيد، من بين كل ذلك، أن الفيلم كان رديئاً (بخلاف أفلام إسرائيلية أُنتجت مؤخراً وكانت جيدة فنياً). إن الشكل الذي أُوصلت به تلك الرسالة الخبيثة كان أقل من العادي، وإن الخطاب الإنسانوي التعايشي كان سطحياً ومُستهلكاً، وإن النقد للجيش الإسرائيلي كان ثقيل الظل ومُفتعَلاً، ولكل ذلك غاية واحدة هي خطف القول الإنساني من الضحية.

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 743 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 7

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28