] تجليات الحرب بين الرمزية والتأويل في رواية «نافذة العنكبوت» - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الجمعة 10 أيار (مايو) 2019

تجليات الحرب بين الرمزية والتأويل في رواية «نافذة العنكبوت»

الجمعة 10 أيار (مايو) 2019

- احمد عواد الخزاعي

عرف جيرالد برنس الحدث الروائي بأنه «مجموعة من الوقائع المتصلة والمتسلسلة، تقسم بالدلالة وتتلاحق من خلال بداية وعقدة وحل».. هذا التعريف لا يخرج عن حيز الثوابت الأرسطية لأي نص سردي يتبع منحى كلاسيكيا في صناعة الأنساق الحكائية، التي تتخذ شكلا هرميا متناميا، مع توفر السببية المنطقية لنشوء الحدث، بما يتلائم مع البيئة العامة الحاضنة لذلك النص.. في رواية «نافذة العنكبوت» للروائي شاكر نوري الصادرة سنة 2000 عن دار الفارس، نلاحظ وجود تعالق مشيمي بين سببية الحدث المركزي والوقائع التأويلية المترتبة عليه، التي أخذت منحى تصاعدي في تفاعلها مع هذا الحدث، تحولت هذه السببية إلى مبرر لسلوك البطل السارد، والبطل المحوري عبد الرحمن، الذي تميزت شخصية الأخير بكونها مرجعية ( مؤدلجة) حسب تصنيف فيليب هاملتون، أي إنها أخذت معنى واحداَ ثابتاَ فرضته ثقافة ما.
كانت السببية التي تعكز عليها النص هي (الحرب) وتجلياتها وانزياحاتها النفسية والاجتماعية، لذا تعد «نافذة العنكبوت» جزءا من أدب الحرب، الذي عده النقاد أولى الفنون الأدبية التي عرفها الإنسان، كما في الرسوم الموجودة على جدران الكهوف، التي تمثل مهد الإنسان الأول، والتي كانت تشير إلى هذا المعنى، فأدب الحرب أخذ حيزا كبيرا في العقل الجمعي الإنساني منذ مهد البشرية، فهو عملية جلد للذات تمارسها الشعوب كي لا تتكرر مأساة الحروب .. تناولت الرواية الحرب من جانبها الآخر غير المباشر وغير المرئي للعيان، ووقعها النفسي والاعتباري على الفرد والمجتمع، حتى في أكثر الأمور خصوصية، فشكّل العجز الجنسي هاجسا حرك مفاصل النص وتحول إلى قطب رحى دارت عليه وحوله الأحداث، هذا العجز الذي سببته الحرب لعبد الرحمن، وشح النص بسوداوية قاتمة غاب عنها الأمل، بعد أن عجز عن فض بكارة عروسه شيرين، ليدور النص في هذا الفلك بدون تشظ أو محاولة تضمين قصصية تخرجه عن مساره الوئيد والحزين، لتأخذ الرواية المنحى الجنسي في التعبير عن أصل المشكلة، وتحدث عملية تلاقح متناغمة بين الحرب والجنس، أضفى الأخير على النص بعداَ غرائزياَ بعد أن احتل مساحة كبيرة منه ، لكن شاكر نوري وفق في إدارة النص بطريقة مكنته الخوض في الجنس والتحدث عنه بطريقة فلسفية تأويلية، أشعرتنا بحضوره وفعاليته، بدون الحديث فيه بطريق مباشرة وتفصيلية.
عبد الرحمن الشاب النحيل الجسد والأخ الأصغر للبطل السارد، حُرم من ذكورته بشظية أصيب بها في إحدى الحروب التي خاضها العراق، ليشكل هذا العوق سرا من أسراره الدفينة، فضحه زواجه من شيرين، التي مثلت رمزية غاية في التعقيد، استخدمها الروائي لجعلها أيقونة لجميع المتناقضات والإرهاصات التي تنتجها الحروب، ليحل بيته البسيط الكائن في إحدى قرى العراق مسرحا بديلا عن ساحة الحرب، وتدور الأحداث فيه وفق نسق حكائي متدرج (الأمل، الشك، الترقب، اليأس، الانتحار والموت)..هذه التراتبية خضعت لمتوالية اجتماعية بسيطة في إطارها العام، لكنها معقدة ومتشابكة في وسائل التعبير عنها والتعاطي معها، فبعد أن شكت الأم في عجز ولدها عبد الرحمن، أخذت تراقبه هو وعروسه من ثقب في جدار غرفتها، ليقوم البطل السارد والأخ الأكبر بالفعل نفسه، لكن مع اختلاف الغايات والنوايا بين الاثنين، في عملية تناص مع رواية «الجحيم» للروائي الفرنسي هنري باربوس الصادرة سنة 1918 كون بواعث الفعل هذه كان يقف وراءها الجنس.
يستمر النص في هذا التداعي الحر لمجمل الإحداث وحركة الشخوص فيه، حتى ينتهي بطريقة دراماتيكية، حين يقوم عبد الرحمن بقتل شيرين والانتحار، أو هذا ما يمكن فهمه، كون النص تميز برمزيته العالية التي وصلت إلى السيريالية في بعض محطاته، وكان يحتاج إلى هريمونطيقية (تأويلية) لفك شيفرته، على الرغم من إن شاكر نوري حاول لملمة نصه في الثلث الأخير منه، عن طريق وصية عبد الرحمن التي أنزلت النص إلى أرض الواقع، وأفشت بعض أسراره.

كان عنصر المكان معادياَ في أغلب مشاهد الرواية، فقد خيمت عليه الظلمة والرائحة العفنة والسكون، وكان مصدرا للخوف والترقب، وشكل هاجسيا ماديا وحسيا فعالا في حركة الأبطال، وتأثيره في سير الأحداث، على الرغم من محدوديته كونه لم يتجاوز حدود منزل العائلة الصغير.

أهم مرتكزات الرواية:

1 ـ العنوان: يعد العنوان العتبة الأولى للنص، والنافذة الاستشرافية لمعرفة بعض الشيء عن قصديته، وقد يتحول في بعض الأحيان إلى نص مواز للمتن الرئيسي، وقد أشار الروائي إلى قصدية العنوان «نافذة العنكبوت» في نهاية الرواية كمحصلة نهائية لما آلت إليه الأحداث، وجاء ذلك على لسان البطل السارد «لقد أصبحت أنظر إلى العالم عبر نافذة العنكبوت، لأن المنافذ كلها على ما يبدو قد انغلقت أمامي بإحكام في تلك البقعة النائية، مدينتي». تميزت الرواية باحتوائها على عناوين ثانوية داخلية لفصولها أخذت اتجاهين تعريفيين:
الأول: يشير إلى سير الأحداث بنسقيها الأفقي والعمودي، وهو تسلسل زمني لم يتجاوز التسعة أشهر مدة حمل شيرين في الطفل الخطيئة.
الثاني: يشير إلى طبيعة الأحداث التي ستجري داخل هذا الفصل، ومثل عتبة استهلالية تأويلية.
2 ـ السارد: صنف الناقد سعيد يقطين السارد حسب موقعه من النص، في ما إذا كان غير مشترك فيه (سارد خارجي) وهو سارد عليم يعرف كل شيء عن سير الأحداث، وما كان وما سيكون، والذي غالبا ما يكون الروائي نفسه.. وآخر مشترك في النص (سارد داخلي) وهو سارد ضمني، يعرف عن الأحداث بقدر علم القارئ بها، أو حسب موقعه من النص وتأثيره فيه. في رواية «نافذة العنكبوت» نجد أن الروائي لجأ إلى أسلوب مغاير لهذين التوصيفين، باستعانته بسارد داخلي هو الأخ الأكبر لعبد الرحمن، حيث شكل جزءا مهما من النص وسير الأحداث، لكنه في الوقت نفسه كان يلعب دور السارد العليم في روايته للأحداث وتداعياتها، فكان يعرف كل شيء عما يدور من أحداث وهواجس وأفكار الأبطال، وماذا يفعلون في خلواتهم، فكان الأخ السارد يمثل (الأنا الشاهد) على الأحداث و(الأنا المشارك) فيها، وهذا الأسلوب يمثل حضورا متواريا للروائي داخل نصه.
3 ـ الواقعية السحرية: طغت على الرواية واقعية سحرية أضفت عليها طابعا تشويقياَ، كونها خرجت عن المألوف في التعاطي مع أصل المشكلة.. فقد وظف الروائي مدرستين مهمتين في الواقعية السحرية هما: المدرسة اللاتينية والمدرسة الألمانية.. فقد استخدم المدرسة اللاتينية في تصوير الأحداث ورسم المشاهد، وتأثيث مكان الحدث السردي، وهذه المدرسة منبثقة من الواقع الاجتماعي ومعبرة عنه بعفوية، كونها جزءا من بنائه التكويني، وصورة أخرى له تشكلت تحت وطأة التراث (الدين والعادات والأعراف الاجتماعية) كما في مشاهد غرفة العناكب، ومشهد محاولة الأم معرفة سبب عجز عبد الرحمن والبحث في شجرة العائلة عن قرين له أورثه هذا العجز الجنسي، وذكر الغجر بكل دلالاتهم الميثولوجية والغرائزية.. وأما المدرسة الألمانية التي تنزع إلى الرؤى الفلسفية في تفسيرها للواقع وتفاعلها معه، فنجدها حاضرة وبقوة في اللغة وطريقة التعبير عن الواقع المعاش.
4 ـ اللغة: شكلت اللغة عنصرا مهما في إدارة النص الروائي والتعبير عنه، فكانت لغة فلسفية في معظم محطاتها، تلجأ إلى إثارة التساؤلات الجدلية، لكنها كانت مرنة سلسة في مفرداتها، مع ندرة الحوارات التي ارتقت إلى مستويات نخبوية متقدمة واعية، لم تراع المستوى الثقافي والمعرفي لبعض المتكلمين، كما في هذا النص الذي يمثل حديثا للأم مع ابنها السارد: (شيرين حبلى برياح الخريف).
5 ـ المكان: كان عنصر المكان معادياَ في أغلب مشاهد الرواية، فقد خيمت عليه الظلمة والرائحة العفنة والسكون، وكان مصدرا للخوف والترقب، وشكل هاجسيا ماديا وحسيا فعالا في حركة الأبطال، وتأثيره في سير الأحداث، على الرغم من محدوديته كونه لم يتجاوز حدود منزل العائلة الصغير، لكن الروائي عمد إلى إعطاء خصوصية لكل جزء منه وفق دلالته القصدية:
(غرفة الأم) كانت ملاذا لها، باعثا على الأمل المفقود في شفاء عبد الرحمن من عجزه الجنسي، فهي محطة للصلاة والدعاء ومراقبة سير الأحداث من خلال ثقب الجدار، (غرفة الأخ السارد) كانت محطة استراحة فكرية للملمة شتات أفكاره وتصوراته وتحليله للأحداث ونتائجها، (غرفة عبد الرحمن) مثلت حلما جميلا لم يكتمل، (غرفة العناكب) التي لجأت إليها العروس شيرين بسبب عجز زوجها عبد الرحمن، هي على الأغلب كانت مكاناَ افتراضيا حسيا وليس ماديا، في مقاربة مع (الواقع البديل) لقصص محمد خضير.
6 ـ الزمن: كان زمن السرد مقيداً بفترة حَمل شيرين، وكان موازياً لسير الأحداث، أي إن السارد الضمني الذي انتحل دور السارد العليم، كان يسرد الوقائع لحظة حدوثها، في عملية تزامن آني مع البناء الهرمي للنص، لذا تعد «نافذة العنكبوت» رواية متزامنة، حسب تصنيف جيرار جينيه، وذلك لتطابق زمن الأحداث مع زمن كتابتها، كما في هذا النص «خُيل لأمي رعاها الله ….». وهناك إشارة أخرى تبين إن ما يحدث هو قراءة لنص كتبه الأخ السارد، كما جاء في وصية عبد الرحمن «ليست مهمتي أن أفند آراءه أو أن أعطي حكما قاطعا على ما كتبه عني في نمط الرواية التي أجهل أصولها».
7- الرمزية: لجأ الروائي إلى الرمزية كتقنية للتعبير عن الواقع المعقد والمأزوم في ظروف الحرب، لقدرتها على تصوير الواقع المعاش بطريقة أكثر نضجاَ وشمولا.. فقد مثلت شيرين رمزية عالية لمتناقضين: الأول الحرب بكل تجلياتها ومآسيها وتأثيراتها على الفرد والمجتمع، لذا كان عجز عبد الرحمن اتجاهها ما هو إلا موقفه من هذه الحرب، وعدم قدرته على التعايش والتعاطي معها، والطفل الخطيئة الذي أشار البطل السارد على أنه من صلبه، وأشار عبد الرحمن في وصيته على أنه نتيجة لعلاقة غير شرعية، بين شيرين ومقاتل فُقد في جبهات القتال، مثل هذا الطفل رمزية لكل إفرازات الحروب ونتائجها السلبية، والقرين السيئ الذي رافق العراقيين بعد انتهاء تلك الحروب، «وهكذا تهيأت شيرين وتأهبت لقذف الجنين من عرشه الأمومي إلى حضيض أرضي، أفقه حروب لا أهداف لها سوى إغراق بيادق البشر الهائمين في عجز جنسي لا حدود له». وفي جانب آخر مثلت شيرين رمزا للمرأة العراقية التي عانت من ويلات الحروب ونتائجها، أما غرفة العناكب فقد مثلت أرض الوطن، الذي أغرقته الحروب بطوفان من الدماء والأيتام والأرامل والمعاقين:
هذه البقعة الملعونة من الأرض: غرفة العناكب.
ورددت الجدران فجأة صدى العبارة:
– هذه البقعة الملعونة من الأرض
وتجرأت أن ارفع صوتي وأكابر:
– كيف تصبح أرض الأنبياء ملعونة؟


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 34 / 2342227

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

31 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 31

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28