] «العنبر رقم ستة» لأنطون تشيخوف: اشتباك الأدب والطب والسياسة - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الثلاثاء 7 أيار (مايو) 2019

«العنبر رقم ستة» لأنطون تشيخوف: اشتباك الأدب والطب والسياسة

الثلاثاء 7 أيار (مايو) 2019

رغم مرور مئة وستة وعشرين عاما على كتابتها، تبقى «العنبر رقم ستة» لأنطون تشيخوف نابضة بالحياة، تستمر كواحدة من الأعمال الخالدة، بما حشد كاتبها فيها من أسئلة تضرب معولها في صميم الحياة الإنسانية. وكأنها تريد اقتلاع الإجابات التي – من دونها – ستبدو الحياة الإنسانية وكأنها ـ وفق سوداوية تشيخوف ـ قد صارت حياة بلا معنى، تتساوى والموت، بل ربما رجحها الموت في أحيان يُرتَجُ فيها على الأمل، بما يدعو ليأس مطلق.
سنرى كيف حدث هذا مع بطل الرواية، الدكتور أندريه إيفيمتش، حين صار الموت أشد وهجا وجذبا لأرواح مُعنَّاة لا تجد لظمئها من ري يدفع عنها هجوعها إلى تلك القرارة السوداء، التي عصفت بتشيخوف وبأبناء جيله، وصدمتهم بقسوة، بدأت باغتيال القيصر ألكسندر الثاني، وذهاب المشروع الإصلاحي، الذي افتتح بتحرير العبيد، أدراج الرياح. لقد بدت البلاد عليلة، تتهاوى أمام ناظري الطبيب الأديب، الذي كتب رائعته هذه وكأنه يود الانعتاق من ثقل هواجس هذا الاشتباك العنيف بين الموت الحياة، المرض والصحة، العقل والجنون، وربما في ما يلوح لنا بين السطور، بين الوجود والعدم، بل اشتباك الإنسان مع السلطة أيضا، أليس نيكيتا، الحارس العنيف الموكل له مهمة النظام في العنبر، يمثل وجها من وجوه السلطة، أليس أسلوبه القمعي يستمد روحه، قوته، عنجهيته، وبلادته أيضا، من فظاظة رجال البوليس السري؟ أليست لكماته العنيفة هي عنف السلطة ذاتها؟ أليس الجهاز الإداري الفاسد لتلك المشفى هو نسخة مصغرة عن الجهاز العام للدولة؟ أليس الجسد الإنساني، بما فيه من أنسجة منهكة، بقصوره واختلال توازنه الحيوي، بما في دماغه من التياث يمثل الدولة ذاتها؟ وأخيرا، أليس تشيخوف يمثل هنا الضمير الثقافي، الرقيب المجتمعي اليقظ، الإنتلجنسيا المرهَقة بجهودها الأكاديمية الهرقلية وبصخرة نتائجها السيزيفية؟ كل هذا تحت مناخ سياسي اجتماعي يهدد بالأسوأ، ووعاء ثقافي مضطرب مترع بالأحلام وبخيباتها المريرة.
يمكن وصف «العنبر رقم ستة» بأنها رواية صغيرة، نوفيلا، تبدأ بوصف موحش للعنبر على أنه جزء من مشفى عمومي في منطقة ريفية، هذا العنبر القذر، الذي لا يصلح ربما أن يكون حظيرة حيوانات وفق وصف تشيخوف، مخصص لعلاج الجنون، ولكن لِمَ الجنون تحديدا؟ لِمَ لمْ يجعل تشيخوف العنبر مخصصا لعلاج أمراض الجسد؟ لعله تعمد هذا لأن الجنون كمرض نفسي أكثر تحديا للطب من المرض العضوي، بل إن الأزمة العاصفة التي ولدت الرواية في خلد مبدعها كانت تتحدى قدراته الجوانية لا الجسدية، أزمة تحاصر مثلث العقل والقلب والروح، لذا فالعنبر رقم ستة مخصص للجنون، يحرسه نيكيتا، ويضمن بقاء النزلاء فيه منضبطين بأسلوبه العنيف. وتبدأ الحكاية بوصول طبيب نبيل المحتد، رقيق النفس، أندريه إيفيمتش، يبدو هنا وكأنه ظل تشيخوف نفسه على الورق، سرعان ما يصطدم بقسوة الواقع في هذا المشفى المهمل والمتروك، ليسير وفق قانون فساده الداخلي، لم يطل الوقت حتى سجل الطبيب الملاحظة التالية، التي تبدو حتى اليوم صالحة للاستخدام: «ولكن بمرور الزمن سئم العمل بشكل ملحوظ، لرتابته وعدم جدواه الواضح، فاليوم تستقبل ثلاثين مريضا، وغدا خمسا وثلاثين، وبعد غد أربعين، وهكذا يوم بعد يوم، وعاما بعد عام، وبينما نسبة الوفيات في المدينة لا تقل، ولا يكف المرضى عن المجيء، وليس هناك من إمكانية بدنية لمساعدة أربعين مريضا مساعدة جدية من الصباح وحتى الظهر، إذن فالنتيجة محض خداع، رغما عنك، ويكتب في التقرير السنوي، أنه تم الكشف على اثني عشر ألف مريض خارجي، أي ببساطة، تم خداع اثني عشر ألف شخص، وكذلك فمن المستحيل وضع المرضى الخطرين في العنابر ومعالجتهم حسب القواعد العلمية، لأن القواعد موجودة، أما العلم فغير موجود، وإذا ما تركنا الفلسفة جانبا، واتبعنا القواعد بدقة، كما يفعل أطباء آخرون، فلا بد أولا من توفر النظافة والتهوية لا القذارة، والغذاء السليم لا حساء الكرنب الحامض والكريه الرائحة، والمعاونين الجيدين لا اللصوص».

وفي ما يخص علاج الجنون، فهو بلاشك أدنى رتبة في سلم أولويات السلطة، وقد اعترف أحد وزراء الصحة بهذا علنا ذات يوم أثناء مساءلة مجلس الشعب له حول واقع الخدمات في مشفى المجانين، قال لهم «ليس لديّ ما يكفي لعلاج العقلاء».

هل يبدو أن أحد مفاتيح الحل يكمن في زيادة عدد الأطباء؟ ربما، ولكن زيادتهم يجب أن تكون متناسبة مع العدد السكاني، كيلا يكون الحاصل كسادا يفضي لتنافسية تجارية رديئة ستجعل المريض والمرض سلعة يتجاذبها هواة السمعة والمال، وإن صرف النظر عن نوعية الأطباء الأكاديمية سيوقعنا في فخ فولتير الذي قال ذات يوم «الأطباء هم الذين يصفون أدوية يعرفون عنها القليل، من أجل علاج أمراض يعرفون عنها الأقل، لدى مرضى لا يعرفون عنهم شيئا» حيث تختصر هذه المقالة الساخرة الخطر الكامن في مهنة الطب، ومدى المسؤولية المناطة بالطبيب الذي يجدر به ألا يكون مخادعا، كما كتب تشيخوف، متحولا عن ضميره اليقظ لآلة تطبع بيانات كاذبة مهمتها تبييض وجه السلطة السياسية، وتبيان مدى حرصها المزيف على جماهيرها، تلك السلطة التي طالما نظرت للصحة العامة على أنها (وزارة مستهلِكة أي لا تنتج مالا يصب في الدخل القومي، قدر ما تبتلع حصتها من الموازنة، ما دفعهم ذات يوم لوصفها ـ مع وزارة التربية والتعليم بأنهما بلاليع الموازنة) وفي ما يخص علاج الجنون، فهو بلاشك أدنى رتبة في سلم أولويات السلطة، وقد اعترف أحد وزراء الصحة بهذا علنا ذات يوم أثناء مساءلة مجلس الشعب له حول واقع الخدمات في مشفى المجانين، قال لهم «ليس لديّ ما يكفي لعلاج العقلاء».
ليس هذا بجديد ولا بصادم، بل بات معروفا لا تزيده الكتابة سوى تكرار، إذ لم تعترف السلطة السياسية ذات يوم بإنسانية الإنسان بحالة الصحة، كي تعترف له بمكانه المضمون في حالة المرض، ناهيك عن الجنون الذي يعتبر بنظر الكثيرين تحولا عن سمت الصحة لا رجعة له لقواعد العقلانية سالما، ومصيره الانتباذ بنظرة تشبه كثيرا روح إسبارطة التي لم تكن تتوقف كثيرا – في خضم نفيرها العسكري – أمام الأعطاب الجسدية والروحية، ولا تلقي لها بالا، بل ذكر أنها كانت ترمي بهم في البحر. وهي ـ هذه النظم – ليست تقيم وزنا لما يسمى بثروة الموارد البشرية، التي يضمن العمل على الصحة العامة صيانتها، بل قد اشتهرت بأنها تنزف عقولها المهاجرة إلى بلاد الآخرين، ولا شيء ذا أهمية هنا طالما أنها قادرة على ملء الساحات العامة بالمحتفلين عند اللزوم، وملء مدرجات الملاعب بالراقصين الرياضيين على طريقة تشاوشيسكو، لا شيء ذا أهمية طالما أن هناك آلة إعلامية قادرة على توليد كمية من الكذب كافية لطمر الوطن، وآلة أخرى رديفة كافية لتوليد خوف يكتم الأفواه. ولكن ما هي القواعد التي تحدث عنها تشيخوف؟ إنها ببساطة تكمن كلها ربما في مبدأ أبيقراط الأول: بريموم نو نوسيري، أولا لا تؤذي، أي على الطبيب أن يتوقف عند حدود معرفته فلا يتجاوزها لما يجهله خشية إلحاق الأذى بالمريض، ومقالة نصف العلم لا أدري تعمل هنا على صيانة أرواح الكثيرين، في ما لو طبقت بضمير يقظ. وسيفضي ـ على نحو آخر- ادعاء الخبرة مزيفة لتكريس مقولة أشد خطرا: الأرض تخفي أخطاء الأطباء.

لم تعترف السلطة السياسية ذات يوم بإنسانية الإنسان بحالة الصحة، كي تعترف له بمكانه المضمون في حالة المرض، ناهيك عن الجنون الذي يعتبر بنظر الكثيرين تحولا عن سمت الصحة لا رجعة له لقواعد العقلانية سالما.

إن السلامة أولا مبدأ طبي أساسي. وتعمل اليوم ـ وهي كذلك منذ زمن طويل – كل أنظمة التقييم العالمية للمشافي على جعل هذا المبدأ مفتاحا لنيل الاعتراف العالمي بالجودة. لقد فات هذا الأمر الأنظمة السياسية لدينا، فاتها أن العمل الطبي ليس مبذرا فيما لو نظر له من هذه الزاوية التي تعكس ربما كل الحقيقة، فسلامة المريض وأمنه، كرامته وصيانة حقوقه، لا تكلف مالا بل تستدعي احترما ووعيا ليس إلا. وهذا ما لن يجد له هناك من أثر، إنه أحد التابوهات المرتج عليها، فالحديث عنها سيتشعب للحديث عن الحقوق العامة، ومثل هذا يشكل أثر فراشة تعمل النظم على الوقاية منه وكأنه مرض وبيل. يمكننا لو جمعنا شهادات من عاشوا تجربة طبية في أحد المشافي العامة، أن نملأ عنابر كثيرة بما هو أشد سوادا من عنبر تشيخوف، لكن عنبر تشيخوف كان له قصب السبق في وضع معلم على الطريق، كتب بشير العظمة في سيرته الذاتية «جيل الهزيمة» شهادته على واقع العمل الطبي كمسؤول سابق برتبة وزير للصحة. تطلب الأمر وقتا لأشفى من مرارة ما قرأت، وليس من المفارقة أن واقع الحال لم يتحسن عن زمن الشهادة الذي يعود لفترة الستينيات من القرن المنصرم، بل لعله ازداد سوءا. رغم أن الطب قطع في البلاد الغربية أشواطا كبيرة وحقق فتوحات مذهلة غير أنه بقي في ظل السلطة السياسية يراوح مكانه، أو يزحف ببطء بتأثير تضافر جهود بعض المخلصين مع قوة اندفاع مقيمي المشافي من طلاب التخصص في الدراسات العليا الباحثين بلهفة عن فرصة التعلم، هؤلاء هم الجنود المجهولون الذين حملوا ـ ولو لفترة وجيزة قبل رحيلهم للغرب – مهمة تقديم الخدمات الصحية في أشد الظروف صعوبة، وأشد العنابر قذارة متحملين مشقة الحياة، وافتقاد حدها الأدنى.
ولكن لماذا يلجأ الحاكم العربي أو أحد مسؤوليه الكبار للمستشفيات الغربية حين حاجته للعون الصحي؟ لِمَ لا يستطب في بلاده التي نفخها بالوطنية وعد العادون منجزاته الكبرى فيها؟ لم يعد أحد يكترث لما يتضمنه هذا السؤال من إهانة، لم يعد مجديا التلويح بهذا السؤال في زمن البطش العسكري، لأن هذا السؤال يخاطب شعورا ساميا بالخجل من التقصير، بالعار من الشلل عن بلوغ تقدم صحي نحو نظام ذي كفاءة مقنعة، من فقدان الثقة بالمنتج الصحي الوطني لصالح المنتج الامبريالي. فمثل هذه النواميس لم تعد موجودة في أدمغة من ينادون بالمزيد من القنابل، يعابون على السلطة تقصيرها بالقصف الكيميائي. لن تستطيع أدمغة كهذه تفكيك هذا السؤال إلى عوامله الأولى. وإن استطاعت فسوف تخرج من هذا بأن سلامة الحاكم وصحته فوق كل سلامة وصحة. لقد تحركت المعادلة اليوم قليلا إلى الأمام، ولكن ليس بدافع التطور أبدا، بل بدافع فريد من نوعه، حين تعمل النظم الصحية الفاسدة على تدوير مسنناتها خشية وقوع الوزير كبشا للفداء، هنا، تعمل جميع الآليات الوزارية بالقوة ذاتها، خشية لحظة الاصطياد اللعينة تلك، فمقولة أن الحاكم جيد ولكن البطانة فاسدة تبدو هنا تحمل دفعا يمشي بالنظم السائدة بما يكفيها كفاف يومها.

يقول تشيخوف في أحد مقاطع “العنبر رقم ستة”: ” إننا نمرض ونعاني الفقر لأننا لا نصلي للرب الرحيم جيدا” ولن تعدم هذه المقولة من يضع تحتها خطا ويلوح بها على أنها مفتاح الخلاص، لاسيما أن المرء مفطور ربما على تفسير الكوارث بالعاقبة الأخلاقية للخاطئين، كمشهد من يصلون للرب في رواية “الطاعون” لألبير كامو حين أُغلقت المدينة وسُدت أمامهم منافذ النجاة. هو ديدن عميق في قاع النفس يستهيب قوة القدير المتجلي باسمه المنتقم.

“لا يزال المستشفى كما كان مؤسسة لاأخلاقية وضارة للغاية بصحة النزلاء، وهو يعلم أن نيكيتا يضرب المرضى في العنبر رقم ستة خلف القضبان، وأن مويسيكا يطوف بالمدينة ليجمع الصدقات”.

شيء كهذا يعجب الأنظمة لدرجة أنها عممت عبر الصوفية الدينية ـ وعبر سنوات طويلة كانت فيها الصوفية الدينية ولا تزال شمولية رديفة للشمولية السياسية ـ خطابا مفاده أن الخطايا مفتاح كل هلاك، وأن صراع المرء ليس مع السلطة السياسية، بل مع شيطانه الشخصي، كونوا صالحين يولي المولى عليكم خياركم، وبما أنكم لستم كذلك فلا تلوموا سوى أنفسكم. هكذا يصير الفساد السياسي جريرة فساد قلبي يقع تحديدا في قلوب الشعب، والطغمة الحاكمة تصير حاصل جمع الخطايا في بنك الرب، ولا مشكلة لدى الطغمة أن يقال عنها هذا، كثيرا ما سمعنا حكاما يتغنون بأنهم سيف الله المسلط على الرقاب. هكذا يتم اختصار العافية كلها في التوبة النصوح، في الإنابة التي ستفتح أبوابا الخير، بل بالزهد الهندي من هذه الحياة كلها، قد يكون هذا صحيحا على مستوى القناعة بالتدين الفردي، ولكنه لا يفضي لنسج قوة مجتمعية تبلور نظاما صحيا أو تعليميا، لا يفضي إلا لدعم السلطة بالمزيد من المطلق فوق مطلقها، بل هو في حقيقته مستحضر أفيوني من صيدلية التصوف تستخدمه أشد الأنظمة ماركسية ـ لتدعيم قبضتها الحديدية والترويج لصوابيتها المطلقة.

تصل القصة في المقطع التالي إلى ذروة من ذراها المرعبة، حين يسأل تشيخوف على لسان بطله: “لم لا يكون الإنسان خالدا؟ وما الداعي لمراكز المخ وتجاعيده، وما الداعي للبصر والكلام والإحساس والعبقرية، إذا كان مقدرا لكل هذا أن يواريه التراب؟”، ليس ما هو أقسى من وصول الإنسان وهو بكامل عافيته لمثل هذا السؤال الذي يبدو في ظاهره سؤالا عن الخلود، ولكنه في حقيقته سؤال عن جدوى الحياة ذاتها، فكيف إذا كان نزيل عنبر كالعنبر رقم ستة! يفتقد لأدنى شروط الصحة. إن العمل على سلامة المرضى يستدعي العمل على هذا الجانب المغفل من الممارسة اليومية، يقع هذا في مجال الدعم الروحي والنفسي، هو الأقنوم الخفي الذي يقدح شراراته في الداخل غير المرئي سريريا غالبا، ضاغطا المريض بمشاعر سوداء عدمية قد تفضي – في ما لو أهملت إلى الانتحار يأسا. إن قيمة الإنسان الكلية قد تكفلت السلطة السياسية بجعلها صفرا مكعبا، فمن هو القديس الذي سوف يتوقف في تلك العنابر التشيخوفية عند كل سرير ليملأ القلوب بالأمل.

“لا يزال المستشفى كما كان مؤسسة لاأخلاقية وضارة للغاية بصحة النزلاء، وهو يعلم أن نيكيتا يضرب المرضى في العنبر رقم ستة خلف القضبان، وأن مويسيكا يطوف بالمدينة ليجمع الصدقات”.

عملت لسنوات في عنابر تشيخوفية، في مشاف تشبه هذا الذي كتب عنه تشيخوف مخاطبا السلطة على لسان أحد أبطاله “لقد تشرفت منذ عشر سنوات برفع تقرير بأن المشفى بحالته الراهنة يعتبر بالنسبة للمدينة ترفا أكبر من إمكانياتها”. تذكر بأن الكثيرين راضون بواقع الحال، تعجبهم العنابر ذات الرقم ستة، بل ربما يرون فيها كرما زائدا، هي ذاتها العقدة، عقدة الدونية التي كرستها الطغمة في الناس حتى إنهم يسألون هل يستحقون غير هذا! في أحد الأصباح التي بدت لي وقتها وكأنها حلم سيريالي لم تصدقه عيناي، رغم أن الضجيج والفوضى وخليط الروائح كان كافيا لإيقاظ مسبوت، رأيت عمال المشفى يلقون بفرش المرضى من النوافذ نحو الحديقة، كان قرار نقل المشفى قد اتخذ على عجل، ارتجل لدرجة أننا لم نجد ـ في المشفى الجديد الواقع خارج المدينة ـ أنا وزميلي الذي اختفى في غياهب أمريكا – من مكان لقضاء الحاجة، وحين سألنا نيكيتا ذلك المكان، أشار بيده إلى البساتين القريبة! وأما عن الماء فقد كانت خادمة عجوز تملأ للمرضى قواريهم من صنبور الحديقة مقابل المال. هناك أحسست بمرارة من المحال وصفها، مرارة مدفونة في مرارة، بلورة سوداء من الشجن. قدمت استقالتي كيلا أقع في فخ جملة تشيخوف “إنني أخدم قضية مضرة، وأتقاضى أجرا من الناس الذين أخدعهم، أنا غير شريف، ولكنني في حد ذاتي لست شيئا، أنا مجرد جزء صغير من الشر الاجتماعي المطلوب، جميع موظفي الأقاليم مضرون ويتقاضون أجورهم عبثا، إذن فلست المذنب في عدم شرفي، بل الزمن… لو أنني ولدت بعد مئتي عام لكنت شخصا آخر”. لا تخلو هذه المقولة من مغالطة منطقية، كتعميم صفة الضرر على جميع الموظفين، وتبرير انعدام الشرف بجعله دينا عاما، وبأن المرء صحيح ولكنه ولد في غير زمنه، ثمة أشياء كانت تتعلق بسلامة المرضى وكرامتهم، لم يكن بمقدوري المساومة عليها، أو القبول بها مجزَّأة أو مجتزأة. فكيف قبولي غيابها بالمطلق! ولا أدعي بطولة هنا، ولا تفوقا أخلاقيا، هي مسألة قناعات شخصية تشيخوفية، بل كثيرون من وصفوا قراري بالجبن والانسحاب والسلبية، وليس هذا بغريب على من قرأ “العنبر رقم ستة” بشهية نخاعية.

“ويسأل أندريه يفيميتش نفسه وهو يفتح عينيه: ثم ماذا؟ ما الذي تمخض عن هذا؟ حقا هناك مضادات تقيح وكوخ وباستور، ولكن جوهر الأمر لم يتغير أبدا، فالمرض والموت ظلا كما هما”.

لا شك في أنها سوداوية تشيخوف ونزعته العدمية التي طغت فكتبت هذا السؤال القاسي. غير أنه حقيقي في أحد وجوهه التي تقول: أحقا خطت البشرية عبر الفتوحات الطبية المذهلة ـ التي وصلت اليوم لدرجة أن الباحثين بدأوا يكشفون شيفرات أشد الأمراض فتكا ـ خطوات نحو المستقبل الذي بشّر به تشيخوف على لسان بطله! أحقا يمهد الباحثون الطريق للبشرية كي ترقى لحياة أفضل؟ واهم من يعتقد بأن الأمر وردي لهذه الدرجة.

طغت هنا عدمية تشيخوف على احتكامه لقواعد الطب، فمهمة الطب الأولى ليست منع الناس من الموت، بل هي حفظ الحياة بما في يدي الطبيب من أسباب تصل أو لا تصل لهذه النتيجة.

ومعلوم – في البداية – بأن النظم الصحية الغربية قد صُممت لتكون سندا للرفاهية الغربية، بل تطبيقا للروح الديمقراطية التي تجعل المريض سيدا. وقد قطف العاملون فيها جوائز نوبل، وانعكس هذا على حياة المرضى بشكل إيجابي، لدرجة أنه من الممكن أن ترى مريضا تعافى من سرطانين، ثم هو يعاني اليوم من داء الزهايمر. ولكن الطب اليوم وقع أسير مزدوجة قاتلة، العبقرية الفذة في الاكتشاف والرأسمالية الجشعة لتكديس الأرباح، ليصير ثمن الجرعة الواحدة من الأدوية الجديدة آلاف الدولارات، إنه ثمن الاكتشاف، هكذا يبررون، فهو ليس فتحا صوفيا بل هو عمل دؤوب لسنوات طويلة.

إنه دواء سحري، هكذا يصل صدى الاكتشاف إلينا، فيروج له المتحمسون للحداثة – أو للثرثرة- عبر وسائل التواصل، بل عبر الصحافة التي تبحث عن مغناطيس يجذب القارئ، يستغلون شغف صحافيين عديمي المهنية للظهور بالسبق الصحافي، متحدثين في ما يجهلون، مروجين لأمل كاذب، كاذب من حيث استخدامه بلاغات اللغة ورطانات الشعر مكان اللغة المنضبطة والمبرهن عليها بالدليل الطبي، كاذب من حيث تقديمه العلاج الجديد على أنه علاج شاف في ما هو ليس كذلك، بل ربما لم تصادق عليه أكثر النظم الطبية عراقة بسبب عدم التكافؤ بين ثمنه وما يقدمه للمريض من بقية حياة، هنا ينشأ تحالف جديد يضم إلى جانب الشركات المصنعة شركات التأمين التي تقدم للمرء مروحة من الخيارات، ولا أحد يسأل الفقراء عما يكابدونه جريرة مغامرة كلامية يخوضها صحافي متهور أو يلهو بنشرها ميدياوي يبتغي بها الأجر من الله. هكذا يبدو العالم كله ديستوبيا أكثر من “العنبر رقم ستة” في قبضة نيكيتا ومن وراءه. “وعموما فلماذا نمنع الناس من أن يموتوا طالما أن الموت هو النهاية الطبيعية المشروعة لكل إنسان؟ ما جدوى أن يعيش تاجر أو موظف خمس أو عشر سنوات زيادة؟ وإذا اعتبرنا أن هدف الطب هو تخفيف الأدوية للآلام فإن السؤال الذي يثور لا إراديا هو: وما الداعي لتخفيفها؟ فأولا يقال بأن الآلام تفضي بالإنسان إلى الكمال”.

طغت هنا عدمية تشيخوف على احتكامه لقواعد الطب، فمهمة الطب الأولى ليست منع الناس من الموت، بل هي حفظ الحياة بما في يدي الطبيب من أسباب تصل أو لا تصل لهذه النتيجة. فلا ضمانة مطلقة في الطب بأن الأمور ستجري دوما وفق نسق شفائي، فلا أحد يضمن تفاعل الحياة مع الدواء، ومدى نجاعته في تصحيح زوغانها عن سمت الصحة، لذا فالطبيب يعمل هنا وفق نسق افتراضي، على حفظ الحياة وليس منع الموت، ثمة فرق جلي بين الأمرين. إذ لا يملك الطبيب قوة منع حدوث الموت، ولا أحد يملكها طبعا، فقد يحدث الموت رغم اتخاذ كل حيطة طبية، ولكن المقصد هنا هو اتخاذ الحيطة والأسباب العلاجية لحفظ الحياة ما أمكن هذا، وتعاقب عموم الأنظمة الطبية من يعين على الموت، أو يسهله ولو كان هذا رغبة شخصية من المريض البالغ والواعي. وأما عن تخفيف الآلام فهو لا يتم عادة ما لم يطلب المريض من طبيبه تخفيف ألمه، عندها لا يملك الطبيب حق التفلسف بقوة الألم الطهرانية التي تفضي لدرجات عالية من الكمال، بل من واجبه تقديم ما يخفف الألم ويضمن نوعية حياة جيدة ما أمكنه ذلك.

- بلال اللبابيدي


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 51 / 2342873

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

45 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 46

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28