] نقد ما بعد الحداثة والمنهج السوسيولوجي - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 13 نيسان (أبريل) 2019

نقد ما بعد الحداثة والمنهج السوسيولوجي

السبت 13 نيسان (أبريل) 2019

لمّا كان العنوانُ في النص الأدبي عتبة أولى إلى ما وراءها من اللقى الثمينة التي تختلفُ كثافات وجودها من نص أدبيٍّ إلى نص آخر، ومن ناقد أدبي إلى آخر غيره من نقاد الأدب، فإن الناقد خالد علي ياس في كتابه الفائز بجائزة كتارا عام 2017 «النقد الروائي العربي الحديث ـ رصد سوسيولوجي لتجارب ما بعد الحداثة»، يحملنا للتحليق معه والذهاب في رحلة ممتعة، يقدم لنا خلالها رصداً سوسيولوجياً لتجارب ما بعد الحداثة في النقد العربي ـ نقد الرواية.
وعندما يشير العنوان إلى ما سيقوم الناقد به في كتابه، الذي هو مهمة ذات طابع سوسيولوجي، فمعنى هذا انحياز الناقد هنا إلى المنهج السوسيولوجي أكثر من غيره من بقية المناهج، لأنه المنهج الذي يمكن في اعتقاده، أن يعبِّرَ في أسلوبه وأدواته ورؤاه عن التحولات المعرفية والثقافية الكبرى، التي يمرُّ بها الوجود البشري، الذي يتمثل هنا بالوجود العربي وما طرأ عليه من التحولات.
وهنا نكاد نجزم أن خالد علي ياس بالنماذج النقدية الإجرائية التي اختارها للوقوف أمامها لمعاينتها وتناولها بالدرس، وهي نماذج كتبها أكابرُ النقاد العرب، وأنه تناول ذلك بما يمتلك من المعرفة العميقة بما يكتبُ عنه ويذهبُ إليه، إنما يكون قد عزم أمره للسفر إلى جغرافيا مهمة تشترط النباهة والشمولية في الفهم، خصوصاً أنها من القارات التي ارتادها الصديقان رايموند ويليامز وإدوارد سعيد، وحيثُ أقاما فيها أجمل ورشات العمل وأكثرها كشفاً للمجهول، والتي تمَّ البحثُ فيها عن أشياء كثيرة، بضمنها البحث عما قال عنها إدوارد: إنها (دنيوية النص) ما يجبُ التفكير بها على نحو عميق والكتابة عنها، بصرفِ النظر في ما إذا كان هذا النص رواية أو قصة أو غيرهما. فالصديقان وفي إثرهما كما نلاحظ الناقد خالد علي ياس الذي هو من النقاد العراقيين الجدد، إنما يبحثون عن الإجابة المقنعة للسؤال حول أهم ركائز المنهج الذي على الناقد آختياره، وبما يحقق له القدرة على قراءة الجوانب المتعددة للنص الأدبي، جمالية كانت هذه الجوانب أو سياقية وأيديولوجية.
ولما كان من أولويات النظر إلى الدنيوية في النص الأدبي الذي هو الرواية، البحث في المتغيرات التي ترافق البشر في مختلف مراحل حياتهم ومعرفة مواكبة الرواية لهذه المتغيرات، فقد صار لزاماً على الناقد ياس البحث عن المتغيرات كذلك في النص النقدي العربي، على اعتبار أن ما بين هذا النص النقدي والرواية من العلاقة، يجب أن تختلف ضوابطها من زمن إلى آخر، وذلك لوجوب التطور في الأداتين: أداة الرواية وأساليبها، وأداة النقد الأدبي المصاحب والتغيرات في الأساليب كذلك. وهنا يلفت الناقد خالد علي ياس الانتباه إلى المتغيرات التي طرأت على النص الروائي ذاته، الذي كما يراه، انتقل مما يسميها عملية التذويت (من الذات) المجرد للواقع، إلى أخرى غيرها مختلفة، بما فيها: النص الروائي والنص النقدي، العمل على تفكيك مختلف القوانين: قوانين الجنس الأدبي (رواية ونقداً)، وقوانين الواقع هي الأخرى، والكشف بالتالي عن زيف الثوابت وعما فيها من التوثين والتصنيم، بهدف إيصال الرواية ليس فقط إلى أشكال جديدة لها قوانينها الجديدة هي الأخرى، وإنما إلى أطروحات فكرية عميقة وواقعية، تكون هي العتبة التي ستنمو وراءها سوسيولوجيا النص الروائي، في اقتدار وحنكة بالغة، وحيث يصبح من المحتمل نسفُ النظام السردي وقوانينه المركزية المتعارف عليها كذلك.

ما يقوم به خالد علي ياس في هذه الدراسة، يتمركز حول تأمُّل ما يقول عنها إنها التحولات الخطيرة، التي تحتم على ناقد الرواية تجديد أداته.

ما يقوم به خالد علي ياس في هذه الدراسة، يتمركز حول تأمُّل ما يقول عنها إنها التحولات الخطيرة، التي تحتم على ناقد الرواية تجديد أداته، بما يتناسب مع الرؤية المعاصرة التي أنتجت النص الروائي بكل إرهاصاته ومفاهيمه الدالة على مرحلة فلسفية، هي مرحلة ما بعد الحداثة. وهنا فإن أمر تجديد أدوات النقد، يحتم تفكيك الرواية بوعي واقعي غير مباشر – فوق نصّي، من أجل الوصول إلى الواقع السوسيولوجي الخفي، وراء تصورات جمالية مغايرة لما هو مألوف، وهنا يقصد الإشارة إلى النقد السوسيو ـ نصي، الذي على الناقد فيه تحليل البنية السردية في ضوء منهج يجمع الجمالي والنصي المحايث لبنية المجتمع والواقع. وهكذا وباتجاه تقديم نظرية عربية في النقد، فإن الناقد خالد علي ياس وهو يعاين في عمق، تجارب العديد من نقاد الرواية العرب مثل: حميد لحمداني، سعيد يقطين، محمد براده، عباس عبد جاسم، يمنى العيد، شجاع مسلم العاني، فاضل ثامر، وآخرين غيرهم، لا يُخفي انحيازه للأطروحة التي يرى أصحابها، أنه ليس ثمة عيبٌ في تمثل النقد الغربي، بشرط العمل من أجل إيجاد نظرية نقدية عربية في الإجراءات التطبيقية، الأمر الذي يعني وقوفه ضدَّ مختلف الإجراءات النقدية، التي يكتفي أصحابها بالتأمل ـ تأمل الفكر الغربي وحسب، فلا يبتكرون ما يرتقي بذائقة النقد الذي يكتبونه. وإلى هذا يقول مثلا في معارضة الناقدة اللبنانية يمنى العيد، الناقدَ حميد لحمداني في ما كان قد ذهب إليه من ضرورة تمثل النقد الغربي، وتقديم نظرية نقدية عربية في آن، فيقول «وهو ـ يقصد الناقد لحمداني في ما كان ذهب إليه من الرأي – محقٌّ في ذلك، لأن النقد العربي أصبح في هذه المرحلة، متأملا للفكر الغربي بشكل واسع أكثر مما كان يسعى الابتكار». ثم هو يقول في محمد براده «لكن براده لا يسحب نقده إلى زاوية النقد الكلاسيكي والمكرَّر، بل على خلاف ذلك، فهو ينطلق منه إلى ضرورة البحث عن شكل عربي خالص، تحت تأثير سياقات ثقافية مهمة، ودالة في مرحلة ما بعد الحداثة، مثل سياق ما بعد الكولونيالية».
صحيح أن الناقد لا يلغي أهمية النظر إلى البنية الاجتماعية الداخلية للنص الروائي، إلا أنه يرى وجوباً تجاوز القراءة المضمونية الفجة كما يصفها. وهنا وفي مضمار تناوله ثيمة نقد ما بعد الحداثة يقول عنه «هو نقدُ ما بعد المركزية والمنهج الواحد. نقدٌ لا يكتفي بالمعنى الأول المعطى في أي منهج منفرد، بل يسعى دائماً لإنشاء شبكة تأويلية معقدة من الأفكار السابقة والآنية، لكي تتجاوز الطابع الحدثي التأسيسي الذي رُسِّخَ بفعل مرحلتي ما قبل الحداثة والحداثة». وعليه فهو يرى أن نقدَ ما بعد الحداثة سوسيولوجياً: يعمل على ردم الصَّدْع الذي خلفه فكر الحداثة بأساسياته جميعا،ً من سلوكيات وأسئلة وخطاب.
من الأمور المهمة التي يعاينها ياس ويناقشها ويبيِّنُ أثرها في المنهج السوسيولوجي، التجاوُرُ المعرفي بين مقولات السيمياء والتأويل والبنيوية، ومقولات علم الاجتماع الأدبي، وهي الأمور التي كان الناقد الفرنسي بيير زيما قد درسها على نحو واسع. ومن بين ما يعنيه هذا، انفتاحُ المنهج السوسيو ـ نصي على أطروحات المناهج الأخرى، وكذلك على علم الاجتماع الكيفي الذي من المعروف عنه استثماره اللغة في إنتاج المعاني والانفعالات. إنها مهمة النص النقدي ما نشير إليها هنا، التي عليه فيها الكشف عما في النص الروائي من المعاني والسنن والدلالات.

صحيح أن الناقد لا يلغي أهمية النظر إلى البنية الاجتماعية الداخلية للنص الروائي، إلا أنه يرى وجوباً تجاوز القراءة المضمونية الفجة كما يصفها.

وعلى الناقد في المنهج السوسيولوجي الكشف عما في النص الروائي من العلامات ذات الارتباط الوثيق بالواقع، أي أن عليه إلقاء الضوء على ما بين النص السردي من حيث هو مبنى ومعنى، والبنية الاجتماعية، بوصفها دلالة راسخة في علامات هذا النص، بدون أن تغيب عن الأذهان تلك العلاقة الراسخة بين هذا المنهج الذي هو منهج اجتماعي، وعلم الدلالة، من حيث احتفائه الكبير بما يحتفي به علم الدلالة من التراكيب النصية في مستوياتها المختلفة: معجميا، دلاليا، سرديا، لغويا، إلخ. بدون أن تغيب عن الأذهان أيضاً، العلاقة بين هذا المنهج ونظرية التلقي، وما طرأ عليها هي الأخرى من التطور، من حيث ظهور مفاهيم جديدة، قوامها منح المتلقي أهمية خاصــــة، بوصفه منتجاً جديداً للنص، ليس وفق ما تقوله طريقــــة هانــــز روبرت يوس، وآيزر، اللذين يعوِّلان على تقنية القارئ الضمـــني داخـــل النص، وما يتبعها من الرأي حول ما يُعرفُ بأفق الانتظار ومسافة التقبل، وإنما في منأى عنها. إنها الأهمية التي يصاحبها رفض مقولة البنية المغلقة، وكذلك محاولــــة دمج معاييرها الجمالية والمعرفية بالشرط السوسيو ـ تاريخي، الأمر الذي له ارتباطه الوثيق بـ: علم اجتماع القراءة، علم اجتماع التلقي، علم اجتماع النص .
وبعد، فإن الناقد خالد علي ياس، يذهب إلى ما يذهبُ إليه الناقد سعيد يقطين، من حيـــث وجوب القيام بتأطير النص النقدي، وفق علاقته بالقراءة، ضمن البنية النصية الكبرى، وحيثُ ينبغي أن تترسبَ القيم النصية، ويُعادُ تبنيها في صلتها بالبنية الاجتماعــــية، ثم يُعادُ إنتاجها وفق خلفية نصية محددة.

٭ يوسف يوسف/ كاتب فلسطيني


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 58 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 7

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28