] ظلال الذاكرة والحلم في «عودة مكيافيلي» للمغربي الصديق اروهان - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الجمعة 22 آذار (مارس) 2019

ظلال الذاكرة والحلم في «عودة مكيافيلي» للمغربي الصديق اروهان

الجمعة 22 آذار (مارس) 2019

تأتي المجموعة القصصية «عودة مكيافيلي» للقاص الصديق أروهان، لتقدم 24 قصة قصيرة في 81 صفحة. هذه المجموعة التي فازت في مسابقة رونق المغرب للقصة القصيرة لسنة 2017، تُبين عن تجربة الكاتب الأولى في هذا المجال، باعتبارها أول إصدار قصصي له، يحاذي التجربة القصصية الحديثة، محاولا المساهمة في تطوير السرد المغربي القصير.
«لا شيء يعجبني» بهذه القصة يفتتح القاص مجموعته القصصية. وإن كان عنوانها يتناص مع قصيدة درويش، فإن النص بدوره يفتح عوالم شخصيات القاص المنسوجة بوعي عال من التفكير، كما يقول هنري برجسون. عوالم نافرة هاربة من ضيق الواقع مشحونة بمعاناة المواطن في حياته الخاصة والعامة. تشق الشخصيات طريقها نحو البحث عن المعنى بين ظلال الذاكرة والحلم وبإدراك فائق للشعور، بتعبير وليم جيمس.
يقول السارد: «أشق طريقا لم تطأها أقدام بشر، باحثا، مفكرا فحسب». ذلك لأن التفكير ناتج عن انتباه، والانتباه وعي بالحياة.

تشتغل الذاكرة في «عودة مكيافيلي» دور الوسيط الذي يدمج بين زمني (الماضي والحاضر). يشكِّل هذا الوسيط وعي الشخصيات الفردي والجماعي، كاشفا عن مستوياتها المعرفية والاجتماعية والنفسية والشعورية.
«
»

الذاكرة

تشتغل الذاكرة في «عودة مكيافيلي» دور الوسيط الذي يدمج بين زمني (الماضي والحاضر). يشكِّل هذا الوسيط وعي الشخصيات الفردي والجماعي، كاشفا عن مستوياتها المعرفية والاجتماعية والنفسية والشعورية. يقول السارد: « ثمة أمور نستعجل نسيانها، وأخرى تظل محفورة في ذاكرتنا كنقوش صخرية قديمة». هذا باعتبارها مرجعا ثابتا، تعود إليه لتعيد تشكيل ارتباطها الحميمي بالحياة حين ترفض الواقع الذي لا ينسجم وتطلعاتها وأحلامها وآمالها. هنا، الذاكرة ملاذها الآمن ومجالها الخصب للتخيل وللتصور ولإعادة التفكير.. يقول السارد: «نكبر ذات لحظة، فتكبر معنا ذكرياتنا التي خلفناها في الزمن الغابر، لتصبح في يوم آخر مرجعا نستقي منه البلسم الذي يشفينا من داء النسيان».
الماضي والحاضر، يشكلان جدلية (حضور وابتعاد) في دائرة لاشعور الشخصيات، كتجاذب يُحدد نوعية الارتباط العاطفي بالعالم حولها وبقيمة الأشياء (مثلا: كتذكر شخصية قصة «القطار» للقطار الذي يرتبط بذكرى أليمة تطارد خيالها). وفي اللحظة الطبيعية المتجردة من تخيل الماضي، يكون شعورها واعيا بحاضرها وواقعها المأزوم انطلاقا من الإحساس بحالات من الضياع، يقول السارد: «ولم يعد لي مكان هنا سوى أن أرجع القهقرى للزمن الحاضر، لأعلن أنني كنت هنا، أن طفولتي ترقد مدفونة تحت ذلك التراب، لم أعد أرى سوى شيخوخة الأشياء». فمن ابتعاد إلى حضور ومن حضور إلى ابتعاد، يأخذ الأمرُ شكل حركة تجاذب – نفسية وليست فيزيائية – مرتبطة بشخوص لا تريد أن تنفصل بالمرة عن ذكرياتها التي تمثل هويتها الذاتية والمرجعية. إنه التجاذب المؤسس للوعي. و«الوعي يعني قبل كل شيء الذاكرة» كما قال برجسون. لهذا يسقط الانتباه على الماضي في مراحل هذا التجاذب النفسي فتقل عناصر الشعور بالحاضر المرفوض، والإنسان يتعذر عليه أن ينتبه لشيئين معا في وقت واحد، كما يقول الفرنسي تيودول ريبو.
يقول السارد: «كان يمشي في سفر طويل عبر الذاكرة ذات ظهيرة، الصحراء أمامه ممتدة خاوية، طريق وعرة وشاقة». فالواقع يساوي الشقاء بهذا المفهوم. لهذا يزداد الارتباط بالذكريات عاطفيا أكثر، يقول: «تزاحمت صور شتى كادت تفقدني علاقتي بالزمن الحاضر». إن باعث هذا التجاذب هو ما صرح به سارد قصة «لا شيء يعجبني» بقوله: «أنا الباحث عن المعنى في الوجود.. أنا الفيلسوف التائه.. بين الهنا.. والهناك». إنه استناد إلى الماضي وتطلع إلى المستقبل، و«هما من خصوصيات الكائن الواعي». كما أنه دافع كذلك إلى البحث عن المفتقد في زمن يبعث الحسرة المستقلة بالنفوس: «أتحسر لما يقع لكم في هذا الزمن». الماضي بالنسبة للشخوص هو الحياة، وهو الوحيد الذي يحفظ الشعور بأهمية القيمة والقيم، يقول السارد: «تراقصت مخيلاتنا بغنج فوضوي باحثة عن نشوة ضائعة لزمن غابر». ولعل هذا ما أكدته قصة «زمن الحكاية»، فالسارد يضعنا أمام مفارقة تجعلنا نتساءل في انتباه: هل التقنية والأجهزة الحديثة في بيوت الناس (خاصة القرى) استطاعت أن تعوض حكايات الجدات؟
القيمةُ هي الأثر الأخلاقي والأدبي الذي تبرزه وتنتجه وتخلق به السعادة. قال السارد عن الجدة: «تذكرَتْ زمنا أصبح في خبر كان، زمنا كان فيه الصغير ينصت للكبير». والذاكرة تعتبر هوية الإنسان ومجال وعيه، وفقدانها ضياع حتمي (فردي وجماعي)، يقول السارد: «ما يمنح الشخص هويته هي الذاكرة، إن حدث وفقدها ضاع كل شيء». الكاتب راهن على هذا العنصر باعتباره أحد دعامات التخييل السردي والذاتي، من خلاله فكَّر وطرح عدة إشكاليات: إنسانية، قيمية، اجتماعية، ثقافية، فلسفية، وسياسية… وحاول أن يرسخ مفهوم الذاكرة كهوية إنسانية، وإحدى مُشَكِّلات الوعي الذاتي والوجودي.

الحلم تقنية إبداعية ترتبط بمخيلة الكاتب، تمكنه من إنتاج نص حافل بالخيال والإيهام والرموز، ويتسم بخصائص جمالية تمنح النص حياة متجددة، ووجودا تأثيريا.
«
»

الحلم

الحلم تقنية إبداعية ترتبط بمخيلة الكاتب، تمكنه من إنتاج نص حافل بالخيال والإيهام والرموز، ويتسم بخصائص جمالية تمنح النص حياة متجددة، ووجودا تأثيريا. يقوم الحلم «بعمل تكثيفي ضخم، ذلك أنه من الممكن كتابة حلم في أسطر قليلة، لكن الأفكار التي يوحي بها يمكن أن تملأ صفحات عديدة». بهذا يعتبر الحلم مكونا من مكونات السرد في «عودة مكيافيلي». وجل القصص اعتمدت على توظيف تقنيته (إلى جانب الذاكرة) تعبيرا عن لا شعور الشخصيات، فهو «تحقق متنكر لرغبة مكبوتة». ومحكي ضمني يرسم ملامح تطلعات وشواغل الشخوص، ويعبر عن محيطها وثقافتها. بعض النصوص يأخذ فيها الحلم حيزا أكبر، فيصير نصا نسجته تمثيلات وانفعالات الشخصية، مثل قصص: «السجن»، «السراب»، «العاصفة»…
يأخذ الحلم شكل انتقال نفسي من عالم الواقع إلى عالم الخيال، يحدد أبعاد الرؤية عند الشخصيات، وتعيد صياغة الواقع وفق منظورها النفسي. فالإنسان غالبا ما يرى في الأحلام ما يفتقد إليه. وتوظيف الحلم يقوم على المقابلة بين الافتراضي والواقعي، مثل ما حدث لسارد قصة «كبياض الثلج»، إذ قال: «سئمت الملل والرتابة في هذا العالم الذي أعيشه كل العالم حولي صار غريبا». ثم تخيل الواقع بالشكل الذي يرغب أن يراه حيث قال: «تخيلتني أعيش في عالم جديد كل الجدة، كما لم أعشه من قبل عالم أبيض كالثلج، وسط أناس جدد قلما يخطئون، شعارهم الاحترام في المقاهي والأمكنة العامة والشوارع التي يملؤها البياض». هنا يصير الحلم مطية لعرض الواقع معكوسا، بغية كشف الخلل أو إبراز مكامنه، من خلال اللجوء إلى تصور جديد للعالم، وحلم الشخصيات بواقع آخر أفضل مما هي عليه، حتى لو سقطت في الظل، بين الحلم والحقيقة. نقرأ في قصة «السجن» أن إبراهيم يحلم بالإفراج عنه ومعانقة ابنته فرح، وقد صيغت القصة كلها على شكل حلم تخيل من خلاله تفاصيل حياته الماضية (وهي الشيء الذي لم يعد موجودا) وتخيل كذلك ما سيقدم عليه بعد خروجه من السجن (وهذا استباق ما لم يَنوَجد بعد). أي أن الحلم هنا لم يأخذ شكل الاسترجاع فحسب، بل هو استشراف أيضا، إذ نسج خيالُه لحظات ذهابه إلى الحمام ثم إلى لقاء ابنته، قال السارد: «في الحمام تساءل كيف سيلتقي بابنته الوحيدة فرح». هذا الحلم تعبير عن مدى اهتمام الشخصية بوضعها القائم، لأجل ما سوف يكون، هو انتظار يتحول إلى انتباه، «ولا يوجد وعي بدون انتباه للحياة»، يقول السارد: «كان يوم فرج ذاك الذي انتظره مدة طويلة، يوم واحد فقط كان كافيا ليكسر نمط الحياة الذي نسجه عمرا طويلا خلف القضبان». وكانت هذه بداية القصة/الحلم. وكَسْر أفق التوقع لدى القارئ سيكون في النهاية بعد أن يستيقظ إبراهيم من نومه في غرفة السجن.
للحلم مساحة شاسعة لإبراز رغبات الذات الإنسانية، ومساحة للتفكير وإعادة نقد الذات والمجتمع، وطرح التساؤلات المقلقة، التي تؤرق وعي الإنسان بقيمته في هذا الواقع وحقيقة وجوده وبحثه في المساحة الفاصلة بين المعنى واللامعنى، والجدوى واللاجدوى. الحلم انتقال إلى الخيال لكنه صوغ لرؤية واضحة يملؤها الكاتب بوعيه الشقي: «ربما لأنني خلقت فقط لأعترض، لأجعل من النقد سلاحا بناء في كل موجة فكرية أركبها». يعبر الكاتب عن طريق شخصياته عن رؤيته، يقول: «مال بتفكيره إلى ما يجري في واقع الإنسان من قتل وتدمير.. حرب هنا وتهجير هناك.. إنسانية الإنسان هذا ما ينقصنا في هذا الزمان». إن الاعتماد على الذاكرة والحلم وتداخلهما ببعض في أغلب النصوص، واعتبارهما نقطة ارتكاز السرد، يعطي لبنية النص أبعادا تخيلية مختلفة ويخرج بالنص من نمطه التقليدي، نحو تجريب مغامرة الكتابة. والكتابة ما هي إلا إعادة صياغة الواقع وفق منظور معين وبتقنيات فنية.
«عودة مكيافيلي»، إصدارات الراصد الوطني للنشر والقراءة. مطبعة سليكي أخوين، طنجة، المغرب. الطبعة الأولى 2017


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 49 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 17

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28