] بلاغة الموت عند غسان كنفاني - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الجمعة 22 شباط (فبراير) 2019

بلاغة الموت عند غسان كنفاني

ناصر الحرشي*
الجمعة 22 شباط (فبراير) 2019

القليلون جدا من الناس يعرفون أن الأديب الفلسطيني الشهيد غسان كنفاني كتب مسرحيات، إضافة إلى كتاباته الأخرى الكثيرة. وليس ذلك غريبا فهو لم ينشر منها إلا واحدة أثناء حياته هي مسرحية «الباب» عام 1964، ولم تثر حينئذ اهتماما خاصا بعد الاهتمام الكبير برواية «رجال في الشمس» التي سبقت المسرحية بقليل. أما المسرحية الثانية «القبعة والنبي» التي كتبها مطلع عام 1967 فقد نشرت في مجلة «شؤون فلسطينية» في عدد إبريل/ نيسان 1973 بعد استشهاده.

ويبدو أنه أيام كان يكتبها أراد أن يسميها «الشيء» ثم عدل عن هذه التسمية. لهذه المسرحيتين أهميتهما الخاصة. لأنها دليل آخر على نشاطه الفكري والأدبي العارم القلق والمصطخب، الذي تميزت به حياة غسان كنفاني. فهو لم يكن يستطيع التوقف عن الكتابة لحظة واحدة في السنين الخمس عشرة الأخيرة من حياته. إذ كان عليه أن يحقق تكامله النفسي كفلسطيني أولا، ثم كأديب معاصر، وأخيرا كسياسي فاعل ومثقف عضوي منخرط يقاتل بسلاح الكلمة بكل أشكالها وطاقاتها، فكانت القصة وكانت الرواية والمقالة الفكرية والدراسة والتحقيق الصحافي، ثم كانت الصرخة السياسية المعانقة للبندقية، ثم كانت أخيرا المسرحية. لقد ظل غسان كنفاني مشتعلا في نفسه محتدما باستمرار، يؤكد هويته كفلسطيني ثائر وأديب وسياسي..

أول ما يلفت النظر في هذه المسرحيات أنها لا تذكر فلسطين هذا الوطن العربي السليب، أو أي اسم لمكان فلسطيني على عكس كل ما كتب غسان من قصص وروايات، حيث الإشارات الفلسطينية دائما صريحة وكثيفة. غير أن المنطوى الفلسطيني قائم بقوة من البداية إلى النهاية على نحو رمزي. ومهما يصعب تعيين المتوازيات بين المعاني الظاهرة والدلائل الضمنية هنا فإن الوحي الفلسطيني هو الوحي الدائب اللحوح في كل التضاعيف النصية، سواء أبرزت المعاني أم أخفت. ولكن بقدر ما كان الشهيد غسان كنفاني مسكونا بالقضية على نحو صريح عديد الأوجه، فقد كان ايضا مسكونا بهاجس شخصي بحت، هاجس دائب يتفاعل مع القضية وينفصل أحيانا عنها متشبثا بخصوصيته. إن الهاجس الفكري المطلق الذي يتصف به المبدعون الكبار بعد هاجس القضية هو الذي سيشغل هذا الشاب المضطرم النفس المسكون بحب بلده فلسطين. غير أن التجربة العاتية التي كانت تعصف دائما بمخيلة غسان كانت تقرر أيضا اتجاه هاجسه حتى في أشكاله التجريدية. وهذا ما يميز مسرحية «الباب» و»القبعة والنبي» إنهما شخصيتان جدا وفي الوقت نفسه فلسطينيتان جدا.

بقدر ما كان الشهيد غسان كنفاني مسكونا بالقضية على نحو صريح عديد الأوجه، فقد كان ايضا مسكونا بهاجس شخصي بحت، هاجس دائب يتفاعل مع القضية وينفصل أحيانا عنها متشبثا بخصوصيته.

وهما تختلفان عن رواياته وقصصه في أنهما تمثلان محصلة للقوتين الفاعلتين في نفسه، إحداهما واقعية والأخرى مطلقة. وهي محصلة تجعل من غسان في النهاية صوتا من أصوات العصر بشموليته الرائعة والقلقة معا. بشمولية العذاب وشمولية تخطي هذا العذاب. ربما كان هذا هو السر فإن غسان كان عميقا في استيعابه لما يقرأ، يضع كل ذلك في خدمة قضيته. إنه يتلقى مناخ الستينيات الفكري والأدبي والسياسي ويسخره في الحال لغايته. استخدام الرمز والأسطورة لدى الشعراء العرب الذين عاصروه يجد تجاوبا في نفسه. بعض التيار الوجودي يلتقي عنده بتيار مسرح اللامعقول، وكلا التيارين يلتقيان بالنزعة الرمزية. وتترافد في نهره سيول من المأساة الإغريقية. لتتمازج أسطورته العربية وتطلعه الفلسطيني وكلها تجد آثارها متمازجة في المسرحيات. وواقع الأمر أن مسرحية «الباب» وشيجة الصلة برواية «رجال في الشمس» التي سبقتها قليلا بالكتابة.،وربما عاصرتها. كما أن لرواية «ما تبقى لكم» صلاتها الأسلوبية بمسرحية «القبعة والنبي».
في كل من رواية «رجال في الشمس» ومسرحية «الباب» انغلاق رهيب على الشخوص: في الأولى ينغلق الأبطال في خزان لاهب يقضي عليهم. وفي الثانية ينغلق شداد في غرفة بعالم الإله «هبا» يكون بابها مشكلة البطل وبؤرة المسرحية. أبطال «رجال في الشمس» ضحايا رمزا وواقعا لزعامات تقليدية. وشداد ضحية إله تقليدي أيضا. غير أن في مسرحية «الباب» كفعل مسرحي تعويضا نفسيا كبيرا عن الخذلان المفروض على أبطال «رجال في الشمس» هؤلاء في آخر المطاف يموتون خديعة وغيلة، بدون إرادة منهم. أما عاد وبعده شداد في مسرحية «الباب» فكلاهما فاعل رافض، ومأساته أقرب إلى مأساة البطل الإغريقي الذي يرضى بالفاجعة ثمنا لإرادته الواعية.
«رجال في الشمس»تعتمد على رموز كثيرة ولكنها تحقق أثرها فتتجسد واقعيا. أما «الباب» فيبقى الكثير من أثرها في حيز الرمز والدلالة، لأنها تكاد تقصد ذلك ابتداء من فصلها الأول حيث يبدو أن الآلهة التي يرفضها عاد كما سيرفضها في ما بعد شداد تمثل قوى الاستغلال والاستعمار التي تعد بالعطاء مقابل إذلال الشعب. وعاد إذ يرفض الزعامة التقليدية لآلهة الأحقاف يستنجد بآلهة مكة «القوى العربية». ولكن آلهة الأحقاف تطارده حتى المحاق الأخير. وتبقى هذه المطاردة مستمرة في النهاية رغم الإرادة العنيدة في خلق «إرم ذات العماد» وفي مجابهة شداد إذ يدخلها رغم الخطر ويواجه الموت العاصف الذي يليه الانحصار في الغرفة، حيث سيعطيه الإله «هبا» صخرة هي صورة لصخرة «سيزيف» لعله يلهيه بها عن الباب الذي لابد من اقتحامه. ولكن متى وكيف سيقتحمه شداد؟ وهل يستطيع اقتحامه؟ وأين سيفضي به هذا الباب؟ ومع ذلك فإن هذه كلها أوليات نسبية لموضوع يخيل إليه أنه شغل غسان كنفاني لسنين طويلة وعلى نحو يكاد يكون تنبؤيا. الموت أو الرفض والموت إدراكا لغاية هو موضوع يتردد في مسرحياته. ويمدها بقوة خاصة وبداياته في «الباب». وهي بدورها تعود إلى تجارب غسان في الكثير مما كتب قبل هذه المسرحية. وهذا ما يتبدى في فنه وحياته. وإذ نجتزئ عبارات من بعض الحوار بين شداد وامه وبينه وبين ابنه «مرثد». نلقى الإشارات واضحة إلى ما يشغل بال المؤلف الشاب:
شداد: لقد نمت الفكرة داخلي كما تنمو شجرة الزيتون
الأم: اية فكرة ؟
شداد: «بشراسة» فكرة أن أموت أن أقاتل «هبا» وأصواته في الصحراء وحيدا إلا من سيفي وذراعي أن لا ارتد حتى أزرع في الأرض جنتي أو أقتلع من السماء جنة أو أموت.
الام: هل تكره الحياة إلى هذا الحد لتحكي عن الموت طوال الوقت؟
شداد: سأحاول أن أشرح لك أن هذه اللعبة لا تعجبني
الأم: أية لعبة؟
شداد: الحياة
ويجابه شداد ابنه الشاب مرثد بتصميمه على الذهاب إلى إرم، رغم أن ذلك يهدد بموته فيتصور مرثد أن أباه يريد الموت لأنه لا يؤمن بالحياة كأنه يريد ميتة اليأس لا ميتة الخيار
مرثد: أنت متشائم يا أبي وهذا يعود إلى الأيام المضنية التي حبست فيها نفسك «ويدهشنا أن مرثد ينسى أن أباه ابتنى أجمل مدينة خطرت ببال إنسان إرم».
شداد: هذا الكلام قديم قدم الكذب نفسه. ألا ترى أن التشاؤم شجاعة؟ ألست ترى أن التفاؤل هو كذب وهرب وجبن. أنت تعرف أن الحياة قميئة وسيئة فلماذا نواصل الأمل بها؟
وبعد حديث بينهما عن الاختيار إذ أتى الإنسان إلى هذه الحياة رغم أنفه يسأل شداد ابنه ماذا بقي لنا لنختار؟
مرثد: الحياة إذ كان لابد لنا أن نضعها مقابل الموت.
شداد: كلا الموت! الموت! إنه الاختيار الحقيقي الباقي لنا جميعا.

في«القبعة والنبي» يتمثل تناقض هاجسي الموت والحياة في أقوال المتهم، في علاقة العشق بخليلته في موقفه من الجنين الذي يريدها القضاء عليه. إنه منطق الكينونة واللاكينونة.

وهذا بالضبط ما جعل مرثد في فصل لاحق يقرر أن يسلك الطريق نفسها التي سلكها أبوه حين يأتيه نبأ مصرع أبيه. «يقول الرسول أن شداد ضاع في عاصفة من الصوت، ذابت عظامه ولم يبق إلا سيفه ملقى على الرمل وقد صار في لون وشكل حجر وإذا مرثد يردد صوت أبيه البذرة التي زرعها والدي قبل موته آخذة في النمو مثل شجرة زيتون». هاجس الموت وضرورته هو ما دفع الابن مرثد نحو التحدي ورفض عقاب الآلهة. وهواجس الموت والتحدي هي وليدة اندفاعات الحياة تؤكد على عنفها بموت يكرسها ويبقي على هواجسها الخالقة. وهنا نجد المنطوى الفلسطيني مستمرا عن وعي أو لاوعي في تفكير صاحب النص. مرثد يبدأ من حيث بدأ أبوه وجده من قبل، لكن الآلهة تنطق حكمها الرهيب على هذا الاندفاع والرفض والتحدي. إذ في الموت حياة للأجيال القادمة. فغسان كنفاني يشبه بطله شداد في التطلع نحو الفعل ولكن يريد تبريره بالفكرة فيغدو شديد التوزع بين الفكرة والفعل والمسرحية مشتعلة بالفكرة الفاعلة في التاريخ ولا يفوتنا تأثر غسان كنفاني بالنظرية الماركسية في الكفاح «يصبح الفكر فاعلا في التاريخ بصيرورته قوة مادية» فيما تنصب كثيرمن أقاصيصه على الفكرة المرتبطة بالفعل الثوري. الهاجس الصاخب بالموت يتردد خلال «القبعة والنبي» كنغم أساسي ولكن يرافقه وبالعنفوان نفسه هاجس الحياة. والحياة هنا تتهاوى بتفاصيلها وتناقضاتها وروعاتها في قاعة محكمة مظلمة. يبرز الضوء الأحادي وفيها وجه المتهم الموزع بين الموت والحياة، بين النبوة والحيرة بين الجريمة والبراءة. صوت الموت قد يكون هو صوت القاضيين «رقم واحد ورقم اثنين» ولكن الحاجز الذي يفصل بين القاضي والمتهم متحرك يجعل المتهم قاضيا والقاضي متهما بالتناوب حسب مشيئة مجهولة، إنه الحاجز أيضا بين الموت بقواه كلها والحياة بقواها كلها. بطل «القبعة والنبي» لصيق بالأرض وحاجاتها أكثر من أبطال «الباب». فالمتهم يعرف الحب واقعيا بكل أشكاله المعيشية ويعرفه كذلك دهشة كما يعرفه رعبا. في هذا الحب الذي يكاد يكون في لوعته شيء من لوعة الموت سلاح ضد كل شيء يناقض الحياة. إنه القوة الإيجابية التي تتخلل إحساس المتهم العنيف بالموت بضرورته وهو تقابل يقيمه المؤلف بين كل ما يدعو إلى الموت وكل ما يدعو إلى الحياة.

المتهم فلسطيني منفي هو الآخر يعيش ظروف آلاف المثقفين الفلسطينيين الذين يعيشون في منفى لا يستطيعون فيه إلا أن يساهموا في الكشف الإنساني مهما تعرضوا للأذى.

في«القبعة والنبي» يتمثل تناقض هاجسي الموت والحياة في أقوال المتهم، في علاقة العشق بخليلته في موقفه من الجنين الذي يريدها القضاء عليه. إنه منطق الكينونة واللاكينونة. وإذ ينجو المتهم من الحكم بالإعدام هو انتصار لقدسية الحياة لذى الإنسان. وهكذا في هذه الشرفة المسرحية وفي جوها المظلم والمضيء الفائض بحوار عقلاني ولاعقلاني، تبقى الذات تتأرجح بين النقائض. من الواضح أن أبطال غسان كنفاني في هذه المسرحيات دائما فلسطينيون بدون أن ينص على ذلك بصراحة. شداد فلسطيني بموقفه واندفاعه وغضبه، إنه فدائي فلسطيني منفي. المتهم فلسطيني منفي هو الآخر يعيش ظروف آلاف المثقفين الفلسطينيين الذين يعيشون في منفى لا يستطيعون فيه إلا أن يساهموا في الكشف الإنساني مهما تعرضوا للأذى وفارس»المتهم» فلسطيني ينم كلامه على أنه خرج للتو من مخيم اللاجئين في بلد عربي ما. لا تكاد تستقر له قدم حتى تطارده الأشباح وتهدده بالموت. وإزاء هواجس الموت التي تنخر نفوس هؤلاء الأبطال يقف البطل الملحمي الفلسطيني مع إيمانه العنيف بالحياة، رغم عصور الغزاة الفاشيست وعملائهم المحليين ورغم الداء والأعداء صامدا صارخا، لأن في ذلك تحقيق للذات الفلسطينية في النهاية وفيه لها الغلبة الأخيرة.
وهنا أستحضر الإهداء الجميل الذي استهل به الروائي الفلسطيني جبرا إبراهيم جبرا روايته الرائعة والخالدة «البحت عن وليد مسعود»وهي بحث عن هذه الذات السليبة قائلا «إلى التي رأت من حياتها ما رأت وظلت على كبريائها تقاوم».

* كاتب مغربي


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 76 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

36 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 36

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28