] عن وصايا الكتابة… معرفتها والتمرد عليها - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الخميس 7 شباط (فبراير) 2019

عن وصايا الكتابة… معرفتها والتمرد عليها

الخميس 7 شباط (فبراير) 2019

- 

إبراهيم نصر الله

هل هناك قواعد أساسية للكتابة الإبداعية فعلاً؟ هذا سؤال يواجهنا كثيراً ككتاب قطعوا شوطاً لا بأس به في مجال الكتابة، وينتظر إجابته كاتبات وكتّاب شباب وشباب يتطلعون إلى الكتابة كحلم يتحقق، وليس ثمة مبالغة إذا قلنا إن الكتاب المكرّسين لا يتوانون عن قراءة أي موضوع يتعلق بهذا الأمر، فقد يكون فاتهم، دون أن يعرفوا، شيء من هذه المبادئ أو القواعد.
سأعود إلى حكاية كنت أوردتها في (كتاب الكتابة) عن معلم صديق وتلميذ وأب، وقصة قصيرة متنازع على مدى جودتها؛ يقول المعلم:
جاء أحد أولياء الطلاب إليَّ غاضباً لأنني لم أمنح ولده علامة جديدة، مع أن الولد قد كتب قصة مكتملة العناصر، حسب قول والده، فهناك الحدث، والحبكة، والبداية، والنهاية، والزمن، والشخصيات.
تبسم صديقنا المعلّم وقال للأب الغاضب: إذا ذهبت إلى السوق الآن واشتريت: رأس خروف، وقوائمه، وفروته، وأمعاءه، وكل أجزائه الأخرى، وعدت إلى البيت، هل تستطيع أن تصنع منها خروفاً.
بُهت الأب الغاضب، وصمت طويلاً، وقال: لقد فهمتك، قبل أن يستدير هازًّا رأسه، مفكرًا في ما قاله المعلم.
المشكلة التي لم نزل نعاني منها أن كثيرين لا يريدون أن يدركوا ما قاله ذلك المعلّم النبيه.
يمكنني القول إن هناك خطوطاً عامة للكتابة، كل منها أشبه بشعاع نور، يقودك إلى ما تتمنى أن يتحقق، ولكنك إذا وصلت إلى الهدف الذي تقصده، دون أن تتمكن من توسيع عرض ذلك الشعاع، وتزيد من تدفقه بحيث يغدو مشعاً أكثر، فأنت لا تفعل شيئاً غير أن تضع قدمك في المكان الذي وضع فيه من سبقك قدمه. صحيح أنك تصل إلى المكان الذي وصل إليه، لكنك لا تستطيع القول إنك وصلت إلى هدفك، بل وصلت إلى مرتبة التابع، أو المقلد، الذي يملك قدمين فعلاً، ولكنه لا يملك رؤية وشغفاً وقوة اندفاع تؤهله لأن يسير على خطى من سبقوه، ولكنه يتجاوز باندفاعه ما حققوه.
ولنا أن نتساءل، ماذا لو التزم الكتاب بالقواعد، القواعد التي قد يدركها ناقد ما، أكثر منهم بكثير، ويعرفها عن ظهر قلب، ويدرّسها لطلابه، ولكنه رغم ذلك لا يستطيع أن يكتب بيتين جيدين من الشعر، أو قصة قصيرة من خمسة أسطر!
ماذا لو التزم الكتاب بالقواعد، منذ أن وضعت، منذ فجر البشرية، هل كانت الرواية الكلاسيكية مثلاً ستولد، بعد زمن طويل كان المسرح فيه والملحمة والشعر أسياد الأدب؟
ثم ماذا لو التزم هارولد بنتر وبرانديللو، وبيكت، ويونسكو، وبريخت، وسواهم، بمبادئ الكتابة المسرحية الموروثة، هل كنا سنشهد هذا الجديد العذب المختلف الصادم القادر على محاورة قضايا الإنسان الكبرى بهذه الطرق المبتكرة.
بالطبع، ثمة قديم في كل جديد، وليس ثمة جديد يستحق اسمه لا يضيف إلى المبادئ مبادئ جديدة؛ ولكنه لا يضعها كي نسير عليها، بل يرفعها لتكون بمثابة قمم نصعدها لنتمكن من رؤية ما وراءها من مدى لم تصله، بعد، الكتابة التي أنجِزَت.
ثم ماذا لو التزم جيمس جويس، أو فوكنر، أو فرجينيا وولف، أو بروست، وصولاً لماركيز وسواهم بقواعد الكتابة؟ هل كانوا سيصلون إلى ما وصلوا إليه، وبالتالي ما قدّموه لنا من دهشة، كما لو أنهم يبتكرون مذاقاً جديداً للعالم لم نكن عرفناه من قبل، مذاقا لا نكون أحسسنا به أو عرفناه، ونكتشف أنه كان طوال الوقت أمامنا وفينا، ولكننا لم ندركه.
هؤلاء الذين وصلوا لإدراك ما لم ندركه ولتجسيده أعمالاً رائدة تقلب القواعد وتبعثرها وتؤسس لقواعد جديدة هم من استحقوا عبر التاريخ البشري صفة (المبدعين)؛ وما دمنا وصلنا إلى هنا، فيمكن أن نتأمل معنى الكلمة في معاجمنا العربية، حيث يقال:
بدع: بدَع الشيءَ يَبْدَعُه بَدْعاً وابْتَدَعَه: أَنشأَه وبدأَه. والبَدِيعُ والبِدْعُ: الشيء الذي يكون أَوّلاً. البِدْعةُ بدْعتان: بدعةُ هُدى، وبدْعة ضلال. ومع أن هذا الأمر قيل في الشريعة، إلا أننا يمكن أن نستعيره في حديثنا أيضاً عن الأدب، فهنالك أعمال خُيّل لأصحابها أنها هي الإبداع بعينه، وتبين بعد زمن أنها تخريب للإبداع، وهناك أعمال اعتقد أصحابها بأنها الأجرأ، واعتقد مجتمع النقد أنها غير ذلك، ولكن الزمن أثبت أن النقاد كانوا مخطئين.
ونعود إلى المعاجم، حين نقرأ: المبتَدِع الذي يأْتي أَمْراً على شبهٍ لم يكن ابتدأَه إِياه. وفلان بِدْع في هذا الأَمر أَي هو أَوّلٌ لم يَسْبِقْه أَحد. والبَدِيعُ: المُحْدَثُ العَجيب. والبَدِيعُ: المُبْدِعُ. وأَبدعْتُ الشيء: اخْتَرَعْته لأعلى مِثال.
لقد رأينا كتّاباً كثيرين ساروا بدقة وإخلاص على هدى القواعد، ولكنهم لم يصلوا في النهاية إلى ما يحلم به العقل والقلب البشري من آفاق، فدائماً هناك قارئ نبيه هو جوهر القراءة، وكاسر القواعد في تلقيه للنصوص، وهو من يسهم في تطوير الأدب فعلاً، وهناك كاتب (مُخلص) للقواعد، لا يقدم لنا في النهاية غير نص واحد في بنائه وموضوعه وطريقة تناوله للموضوع، مع أنه يمكن أن يكون كتب خمسين كتاباً.
لكل نص في الحقيقة منطقه الخاص به، والمختلف كثيراً أو قليلاً عن بقية النصوص التي نكتب، وإذا أصر الكاتب أن يُطبق القواعد نفسها، في كل مرة يكتب فيها نصاً تالياً، ولا أقول جديداً، فإن كل ما يفعله، هو أنه يبتر قدَمَي نصِّه، وهو يجبره على استخدام القواعد بدل قدميه الخاصتين به، ويكتم منطق شخصياته الشبيه بهم، وهو يستخدم منطقه، ويقوم بدور المعلم الملقِّن، لا المعلم المحاوِر القادر على توليد الأفكار والرؤى المغايرة.
وما دمنا وصلنا إلى الحديث عن بتر قدَميّ النص بسكين القواعد، فإن المعاجم تقول: وقَدَمُ الإنسان معروفةٌ، ولعلَّها سمِّيت بذلك لأنَّها آلة للتقدُّم والسَّبْق، ولذا يقال بأنه مقدام، وفي المقدمة، أي في الصدارة.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 54 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 9

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28