] تجربة المفكر معن زيادة: دفاع عن فلسطين وقضايا الأمة - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الأحد 16 نيسان (أبريل) 2023

تجربة المفكر معن زيادة: دفاع عن فلسطين وقضايا الأمة

الأحد 16 نيسان (أبريل) 2023

يرى زيادة أن معركة العرب مع التخلف من أجل التقدم لا تزال على أشدها وستستمر على شدتها هذه لفترة طويلة، وهي مسألة متداخلة مع غيرها من المسائل والقضايا الأخرى مثل قضية الاستقلال والتحرّر والعدالة والوحدة.

إذا كانت بدايات معن زيادة طالباً نبيهاً يعتصم بحبل السؤال، عروبياً مناضلاً في معركة الدفاع عن القضايا العربية، في بيئته الأم، طرابلس، مدينة العروبة بامتياز، فمن الطبيعي أن ينموَ لديه وجه من وجوه العقلانية الخصبة والحس النقدي، انتهيا به في بحر الفلسفة متعلماً ومعلماً، باحثاً ومحققاً، سبر أغوارها، كاشفاً أسرارها، مستثمراً مناهجها في نظرته للواقع العربي وقراءته للتجارب التي عرفها بأبعادها الفلسفية، والثقافية، والسياسية والقومية.

مرحلة التحصيل

بدأت معالم شخصيته تتشكل في المدينة التي ولد فيها ودرس في مدارسها ولعب في شوارعها وباحاتها، فاكتسب من تجاربه اليومية بين أهله ورفاقه وأساتذته في مدارس الزاهرية والحدادين والكلية الإسلامية مزايا رافقته على امتداد عمره.

لم يكن زيادة طالباً عادياً، مع صغر سنه، كان واعياً، نبيهاً، حذراً من الأجوبة على أسئلته الكثيرة، في بيته كما في مدرسته ومجتمعه، لم يكن ليرضى بالجواب الأول، ولا بالمعلومة الأولى، ولا بالمعارف السائدة، ما طبع سلوكه بشكل من أشكال التمرد، على واقع تسود فيه التقاليد، حتى وصل به الأمر عندما سئل عن دينه في استمارة لإحدى الباحثات في العلوم الاجتماعية، لم يُجب على السؤال، فاستوضحه مدير المدرسة عن سبب إحجامه عن الإجابة، فكان ردّه “لم أختر ديني حتى. الآن... لم يتيسّر لي الاطلاع على مبادئ كل منها...”. كان الجواب صادماً للمدير يخرج من فم شاب في المرحلة التكميلية، تربّى في بيت يعيش قواعد الدين الإسلامي ويحترم أصوله.

هذا الموقف، إلى غيره من المواقف التي تحمل شيئاً من الاعتراض والتمرد(تركه المنزل إلى بيت خالته في إحدى قرى الكورة/ثم إلى بيروت/ثم إلى صيدا فصور)، يعطي فكرة معبّرة عن تجربة تكوّن شخصية معن زيادة، ونوعية المقدمات التي تبني عقله المتهيّء دائماً لأسئلة التمييز والمقارنة، فها هو يقارن بين مدرسة الزاهرية ومديرها ومدرسة الحدادين ومديرها وقد عرف المدرستين وتتلمذ على أساتذة كل منهما. بحسه النقدي، استطاع أن يميّز خصائص كل من البيئتين التربويتين، فاعتبر مدرسة الزاهرية(مدرسة فرح أنطون) بغالبيتها المسيحية(الأرثوذكسية)، أكثر انفتاحاً وحداثة بطلابها وأساتذتها ومديرها، راجت بين أهلها أفكار علمانية نتيجة الحضور الأيديولوجي للحزب السوري القومي الاجتماعي، ملمحاً إلى أن من أسباب نمو هذا الحزب، توجس زعيمه أنطون سعادة من الديمغرافية السنية المترامية خارج الهلال الخصيب، في حين وجد في مدرسة الحدادين بغالبيتها السنية، التي سُمّيت لاحقاً على اسم الإمام الغزالي، مناخاً هو الأقرب إلى المحافظة والتقليد.

لم ينشغل زيادة في تلك المرحلة بالمدرسة ومتطلباتها بقدر انشغاله بالنشاطات السياسية، لكنه، مع ذلك، لم يقصّر في إعداده للشهادات الابتدائية، والتكميلية والثانوية والنجاح فيها، ولاسيما الثانوية. وكان قد أعدها في الكلية الإسلامية للتربية، ونال معدلاً مرتفعاً يخوله الدخول إلى كلية الطب أو غيرها من الكليات العلمية في جامعة القاهرة، لكنه آثر الانتساب إلى قسم الفلسفة في الجامعة نفسها، معرباً عن حبه للفلسفة وميله إلى اختصاص قد يسهم، من جهة، في الإجابة على ما كان يراوده من أسئلة عن الوجود وما بعده، ويصلّب، من جهة أخرى منهجه في النضال الفكري الذي كان يخوضه في مسيرة الإعلاء من شأن القومية العربية. هذه القومية التي طبعت ثقافة المدينة، ملأت عقله وقلبه، فكان مناصراً عنيداً لها في ساحة الصراع الفكري بين جملة من الأحزاب الايديولوجية الموزعة بين القومية العربية والشيوعية والسورية القومية...، استهوته القومية العربية، عشية قيام الوحدة بين مصر وسوريا، فانخرط في العمل الحزبي بعد أن تنظّم في حركة القوميين العرب. وقد لعب دوراً فاعلاً في التثقيف الحزبي وإنشاء الخلايا في المدارس، حتى امتد نشاطه إلى بيروت بالتعاون مع رفاق حزبيين في العاصمة.

التجربة الطرابلسية

شكّلت حياة زيادة في طرابلس، بتجاربها التربوية والاجتماعية والسياسية، ما يمكن أن يكون مرحلة تحصيلية، تأسيسية لمستقبل فكري وسياسي واعد، استكمل بناءها عندما قرر أن يلتحق بقسم الفلسفة في جامعة القاهرة. ولم يكن انتسابه إلى قسم الفلسفة ليخفف من حرارة انهمامه بالعمل السياسي الملتزم في حركة القوميين العرب، بل على العكس، كان من شأنه أن يضاعف نشاطه في أوساط الطلبة العرب في القاهرة. وكانت المسألة اليمنية مدار اهتمامه ومحور حراكه السياسي في تلك المرحلة، ما دعاه إلى تكثيف تواصله مع المعارضة اليمنية ورموزها المنضوين تحت راية الحركة أو المقربين منها، كما استطاع بحكم عمله كمراسل لجريدة الحرية التي كانت تصدرها الحركة في بيروت، أن ينسج علاقات ويبني صداقات مع الكثير من الأدباء والمفكرين ويغطي الكثير من النشاطات الثقافية والحلقات الأدبية، حتى بدا الثقافيُّ والسياسيُّ وجهين متلازمين لشخصية معن وتجربته. فإلى السياسة، توسعت انشغالاته في حقول الآداب والفنون على تنوعها، مما أكسبه ثقافة جامعة كان لها الأثر الكبير في توسيع آفاق تفكيره وتطوير نظره إلى الأشياء والوقائع والأحداث، وفي صياغة مقدماته العقلية المستجيبة بقدر كبير إلى الفلسفة بما هي العلم بالكلي Universel. كان من شأن عقلانيته الفلسفية أن تقوّي ملكة النقد عنده، وتغذّي ميله الى الانفتاح على الآخرين من أهل الفكر والثقافة والإعلام بنزعاتهم الأيديولوجية المختلفة، معتمداً الحوار منهجاً في مناقشة أصحاب الآراء والمواقف التي لا تتفق مع خياراته وتوجهاته.

مع انقضاء السنوات الأربع، دارساً على كبار أساتذة الفلسفة في القسم ومصادقاً لهم، مثل زكريا إبراهيم الذي خصّه بمحبة وتقدير كبيرين، وأحمد فؤاد الأهواني وإبراهيم مدكور ومحمود الخضيري ويوسف مراد صاحب مذهب “التكاملية” وعثمان أمين رئيس قسم الفلسفة وصاحب مذهب“الجوانية”، وزكي نجيب محمود، رائد الوضعية المنطقية في الفكر الفلسفي العربي وقد أعجب معن به وبالمحاضرات التي كان يلقيها على طلابه حول مبادئ الوضعية المنطقية، فنشأت بينهما صداقة خاصة، توثقت عراها عند مجيئه للتدريس في جامعة بيروت العربية. كان زكي نجيب محمود مقاتلاً صلباً في معارك الدفاع عن العقل في مجتمع يجيز كل شيء للنفس وانفعالاتها، وخصومته الفكرية كانت حادة مع الشيوعيين ومنهم محمود أمين العالم، على خلفية اتهامه بالتسويق للثقافة الغربية التي تشبّع منها جراء دراسته في إنكلترا. لقد تعلم الكثير من متابعته الحثيثة لحراكه الفكري، فكانت خلاصة ما تعلم، وعي أهمية النظر إلى الأشياء بعقلانية وموضوعية.

دراسة الفلسفة

تخرج معن مجازاً في الفلسفة من جامعة القاهرة وعاد إلى بيروت ليدرّس المادة في جامعة بيروت العربية وكان ذلك في العام 1962، وليستمر في الوقت نفسه في الصحافة التي أحبّها، فعمل في مجلة“الحرية” وجريدة “المحرر”، المنبرين الإعلاميين لحركة القوميين العرب، فاقتصر آنذاك نشاطه الحزبي على هذا الجانب، متابعاً المخاض السياسي في البلد عبر المقابلات التي كان يجريها مع سياسيين مثل كمال جنبلاط وريمون إدّه. شغلت القضية الفلسطينية الحيّز الأكبر من عقله ووجدانه وكان قد عايش مآسي اللاجئين عندما استقبلهم أهل المدينة ووفروا لهم المأوى، فعرف قادتها في لبنان، لم يخفِ إعجابه بجورج حبش وسموّ أخلاقه وتواضعه. أما نايف حواتمه فكان ثورياً طيباً على شيء من الغرور ولاسيما عند محاولته تشبيه نفسه بكبار الثوريين في العالم أمثال تشي غيفارا. وعند مقابلته ياسر عرفات خرج معن بانطباع سلبي، إذ وجده شخصية براغماتية، لم يحبه يوماً كما كان يقول في سياق حديثه عن تلك المرحلة.

ثلاث سنوات قضاها مفكرنا بين التدريس الجامعي والصحافة، إلى أن حصل على منحة لإعداد دكتوراه في الفلسفة في الخارج وكان ذلك في العام 1965، فنصحه د.حسن صعب بالانتساب إلى معهد الدراسات الإسلامية في جامعة ماكغيل في كندا، وهي من أهم الجامعات في العالم. فعمل بالنصيحة وأعدّ نفسه للسفر إلى عالم جديد، إلى تحدًّ معرفي وحضاري، ركناه العقل والحرية.

بدأت ملامح هذا الاختبار بالانكشاف ما إن وضع مفكرنا رجله في الطائرة، واستقر في مقعده، حتى بانت على امتداد الرحلة، بين الركاب، معالم التناقض الحضاري والفوارق الثقافية. الغربيون من المسافرين، ما إن أقلعت الطائرة حتى انصرفوا بغالبيتهم إلى القراءة في كتب ومجلات حملوها معهم، في حين انصرف الشرقيون إلى التلهي تارة بإشغال المضيفات بطلبات لا تنتهي، وطوراً بالأحاديث الساذجة عن يومياتهم بانتظار وجبات الطعام. كان المشهد لافتاً ومعبّراً عن أنموذجين حضاريين مختلفين إلى حدّ التناقض، في نظر كل منهما إلى المعرفة، إلى الوقت وإلى السلوك الإجتماعي. فحب المعرفة، واستثمار الوقت بالنافع والمفيد، والسلوك المتمدن، قيَم طبعت سمات الغربيين على امتداد الرحلة في حين غابت كلياً عن طبيعة حضور الشرقيين في “مجتمع الطائرة” الضيّق والغني في آنٍ معاً.

“لعلها صدمة أصابتني، يقول معن، جراء ما شاهدت وعاينت، لكني حاولت أن أتلقاها بصبر معتبراً ما رأيت، الواقعة الأولى في تجربة مركّبة وواعدة في آنٍ، سوف أعيشها طوال مدة تحضيري لشهادة الدكتوراه في كندا”.

لعل الواقعة الثانية الصادمة له كشرقي، كانت عند استقباله في المطار من قبل مسؤولين في معهد الدراسات الاسلامية واصطحابه إلى السكن مؤقتاً في مركز جمعية الشبان المسيحيين، ريثما يصبح سكنه جاهزاً في المباني الجامعية. صُدِمَ عندما رأى الشبان، يذهب الواحد منهم إلى الحمام عارياً يضع المنشفة على كتفه بدل أن يستر بها أعضاءه الحساسة، الجميع يتصرفون على هذا المنوال ولا يبالي أحد بالآخر أو ينظر إليه، لأن الأمر بالنسبة إليهم طبيعي وعادي. ولما ذهب إلى الجامعة القريبة من المكان الذي يسكن فيه، ليستكشف المكان قبل الانتقال إليها والإقامة فيها. وجد الطلاب والطالبات بلباسهنّ المثير يتحاضنون ويتبادلون القبل من دون أدنى حرج، حتى بدا له أنه زائر وصل للتوّ من كوكب آخر، بل من مجتمع يتناقض بقيمه وعاداته وثقافته كل التناقض مع المجتمع الجديد الذي حلّ فيه.
العقلانية والحرية

مع ذلك كان يدرك معن زيادة في قرارة نفسه، أن ما يراه هو طبيعي في مجتمع يقوم على أفهومين مركزيين، العقلانية والحرية، حاسمين في تكوين شخصية الفرد وتشكيل ثقافته وبناء المؤسسات بناء ديمقراطياً علمياً، وإرساء نظام قيمي، لم تعرفه المجتمعات العربية والإسلامية، لأن الحرية والعقلانية لم يلقيا فيها تربة خصبة، بل كانا مبعثاً، في معايير الثقافة السائدة، للاتهام بالتبديع والتكفير.

ترسّخ لديه الحضور الفاعل لهذه العقلانية في أنظمة إدارة جامعة ماكغيل وفي برنامجي الماجستير والدكتوراه في معهد الدراسات الإسلامية فيها، في المقررات التي يجب متابعتها والخضوع لامتحانات في موادها وتقديم بحث في كل منها، بحيث يكون إنجاز الرسالة جزءاً متمماً للشهادة، ماجستير كانت أو دكتوراه.

هذا المسار الأكاديمي الكثيف بمواده والمستوجب للكثير من التركيز والإعداد، إضافة إلى اجتيازه بنجاح، بإشراف كبار أهل الاختصاص أمثال تشارلز آدامز، مدير المعهد، والدكاترة، أزوتسو، محقق، حائري، وبركس، وغيرهم، قد فتح لمفكرنا المزيد من النوافذ الكاشفة لمزايا الحضارة الغربية وأسرار تفوّقها في الميادين العلمية والثقافية والإنسانية.

إذا كان النص الفلسفي في واحدة من ميّزاته، هو توازن بين الإشارة والعبارة، فإن اختيار معن زيادة لشمس الدين الشهرزوري، أحد شارحي السهروردي، صاحب المذهب الإشراقي العرفاني، موضوعاً لرسالة الماجستير، واختياره “الحركة من الطبيعة إلى ما وراء الطبيعة عند إبن باجه” موضوعاً لرسالة الدكتوراه، ينمّان عن إدراك لأهمية التكامل بين تهذيب النفس وتصفية القلب من جهة، ومنطق العقل وسلامة التفكير من جهة أخرى، في بناء نصّ فلسفي، مطعّم العبارة بإشارات تفتح آفاقه على فيض من المعاني والأفكار. لقد عبّر مفكرنا في مقدمة تحقيقه “السماع الطبيعي” عن تقديره للدور الذي لعبه إبن باجه الأندلسي في الانتصار للفلسفة في وجه مناهضيها، “في الوقت الذي كانت الفلسفة تتعرّض فيه لحملات الغزالي وأهل السلف العنيفة، نهض إبن باجه في المغرب ليدعم صرح الفلسفة وليعبّد من جديد الطريق الفكري الذي بدأه الكندي والذي شهد ذروة مجده على يد الفارابي وابن سينا”.
تحقيق الأهداف

بدأ زيادة تحقيق أهدافه عندما شرع في استثمار الحمولة المعرفية التي راكمها، جراء إنجازاته الأكاديمية وتجاربه السياسية النضالية، في تحديث الفكر العربي، فوضع كتاباً تحت عنوان: “معالم على طريق تحديث الفكر العربي”، يرى فيه أن معركة العرب مع التخلف من أجل التقدم لا تزال على أشدها وستستمر على شدتها هذه لفترة طويلة، وهي مسألة متداخلة مع غيرها من المسائل والقضايا الأخرى مثل قضية الاستقلال والتحرّر والعدالة والوحدة.

استطاع في كتابه أن يقدم توصيفاً دقيقاً للمراحل التي اجتازها الفكر العربي. المرحلة الأولى هي مرحلة التأسيس والتأصيل، امتدت زهاء القرن التاسع عشر. ورغم فشل هذا المشروع النهضوي لأسباب مختلفة منها ما هو وليد السياسات الاستعمارية ومنها ما هو داخلي، غير أن هذه المرحلة أسهمت في إرساء الفكر العربي الحديث على قواعد ثابتة مهّدت لظهور الفكر القومي.
تحديث الفكر العربي

أما المرحلة الثانية فمتداخلة مع الأولى، لاسيما خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر، وشغلت ما يقارب السبعين سنة من القرن العشرين، وفيها انطلق الفكر العربي ووضع مشروعه النهضوي الحديث، ورغم الإشارات التي كانت تنبئ بنجاح هذا المشروع، مع ما كان يحمله من آمال، إلا أنه لم يستطع مقاومة أسباب الفشل، فسقط تحت ضربات الضغوط الخارجية، والثغرات التنظيمية والسياسية.

توّجت المرحلة الثالثة التي بدأت مع الثلث الأخير من القرن العشرين، هذا الفشل، فاعتبرها مفكرنا مرحلة انحسار، ساد فيها التخبّط بين مشاريع تحديثية وطنية وقطرية محدودة الأفق، مع هيمنة الأيديولوجيات المعادية للتحديث عموماً.

لا شك أن مشروع التحديث العربي كان لبّ الجهود التي بذلها في ميادين النضال الفكري كافة، لقد استمر في متابعة المشروع الفكري لرفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي ولاسيما اهتماماتهما الفكرية والعملية التي كان لها الأثر الكبير في “إنهاض” مشروع النهوض العربي. فالطهطاوي، كما يرى مفكرنا، رصد ركنين للتقدّم، أحدهما مادي والآخر معنوي. فالركن المادي يتمحور حول المنافع العمومية مثل الزراعة والصناعة والتجارة. أما الركن المعنوي فمداره التمدن والأخلاق والآداب، وشرط تقدم الملة وتمدّنها، ينعقد على استقامة التكامل بين هذين الركنين.

خير الدين التونسي

إلى جانب الطهطاوي، أخذ المشروع الفكري والسياسي لخير الدين التونسي حيزاً من اهتمامات معن زيادة، حقق له إحدى نسخ كتاب “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”، معتبراً هذا الكتاب من أهم الكتب التاريخية، ويشكل في مضمونه أهم تقرير يعدّه مفكر مسلم عن تقدّم المدنية الأوروبية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يدعو فيه إلى الإفادة من هذه المدنية. الطهطاوي والتونسي، قد وضعا برأي د.زيادة، معالم مشروع نهضوي، فيه الكثير من حداثة النهضة الأوروبية، إذ كان لجهودهما فائدة كبيرة لمن جاء بعدهما، مثل أحمد فارس الشدياق، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي.

يستطيع الناظر في عمق التجربة المعنية أن يستشعر تصويبه على مكامن الوهن في بنية الفكر العربي، لقد استتر هذا التصويب في سلوكياته الفكرية المقارِعة لوجوه التقليد وتجلياته في استفحال سلطة العقيدة (والاعتقاد بما هو عقدة على القلب بحسب الغزالي) على حساب حرية الرأي، وسطوة العصبية القبلية على حساب المجتمع المدني الديمقراطي، وهيمنة الريعية على حساب الاقتصاد المنتج. لقد توسع محمد عابد الجابري في تحليل هذه المفاهيم وذهب إلى اعتبار العقيدة والقبيلة والغنيمة معوقات بنيوية حالت دون نجاح العقل العربي في إدارة شؤون الأمة ومعالجة أزماتها المختلفة، بما يضمن انسلاكها في مصاف الأمم المتقدمة.

لم يترك معن زيادة جهداً إلا وبذله دفاعاً عن قضايا الأمة العربية، عن قضية القضايا، فلسطين، جرح الأمة النازف، بعقله وقلبه وجوارحه، ناصرها وأسمع صوتها، على منابر الشرق والغرب، في ساحات العواصم ومنتدياتها. انتظم في حركة المقاومة الفكرية مناضلاً إلى جانب جورج حبش ونايف حواتمه ووديع حداد الصديق الأقرب لقائد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، كرّس أحلى عمره وأكثره حيوية وطاقة لمحاربة أعدائها ومقارعتهم بالحجة تارة وبالسلاح الأيديولوجي تارة أخرى إلى أن انتهى به الأمر، بعد الخيبات التنظيمية في بنية الثورة الفلسطينية، وفشل السياسات التي انتهجتها منظمة التحرير، إلى قرار اتخذه بترك كل شيء والعودة إلى بيروت، إلى الجامعة اللبنانية وإلى قسم الفلسفة تحديداً لينصرف إلى البحث والتدريس.

كانت هذه المرحلة من أشدّ المراحل حساسية، في البلد عموماً وفي الجامعة بخاصة، ساد فيها مناخ طائفي/ أيديولوجي متشنّج، انعكس على قسم الفلسفة في كلية الآداب، وكان مبعثاً لعوائق واجهت د.معن عندما قدّم طلباً للتفرّغ في هذا القسم، لكنه استطاع أن يتجاوزها، بسيرته العلمية ومعونة بعض من عارفيه ومقدري تجربته الغنية، وأن يتمكن بعد فترة من تفرّغه، من الفوز في انتخابات رئاسة القسم ضد د.كمال الحاج الذي كان يتبوّأ هذا المركز.

لم يكن قسم الفلسفة في كلية الآداب، قسماً عادياً، يقف دوره عند حدود تدريس الفلسفة، بل كان مساحة لحوار فكري حاد وساحة لصراع أيديولوجي مرتفع الحرارة، تجاوزت أصداؤه كلية الآداب، بين مجموعة من الأساتذة في القسم تناصر القومية اللبنانية وعلى رأسهم د.كمال الحاج صاحب موسوعة الفلسفة اللبنانية والمنظرّ لفلسفة الميثاق الوطني، ومناصري القومية العربية ومن حالفهم من الأحزاب اليسارية، وعلى رأسهم معن زيادة، المنظّر للقومية العربية، المتبحر في خصائصها والمدافع عن أصالة مبادئها وسموّ قيمها.

كان حضور زيادة أستاذ الفلسفة مؤثراً في قسم الفلسفة لكلية الآداب، في وقت، ما كانت الفلسفة لتنأى بنفسها عن صراع فكري تجلى بقوة في الجامعة عموماً وفي هذا القسم بخاصة، بين أقطاب ثلاثة: أشرنا إلى اثنين منهم، كمال الحاج، ومعن زيادة وثالثهم موسى وهبه شارح الماركسية، المتمكن من مبادئها والمؤمن بصلاحية تقدمها في معارك الفكر الإنساني.

يكفي النظر والتفكّر في هذا الثلاثي لكي ندرك حجم الدور الذي لعبته الفلسفة، وتدريسها بخاصة من قبل هؤلاء المجلين، في إغناء الحوار الفكري بين أهل الفلسفة طلاباً وأساتذة مع اختلاف خياراتهم الثقافية والأيديولوجية. استطاع زيادة أن يكون أستاذاً ناجحاً في شرح المواد الفلسفية، متمرّساً في تفكيك الإشكاليات التي تطرحها، من دون أن ينجح في التحرر من إغراءات الأيديولوجيا، فإذا بهواه العروبي يطبع كل قول يقوله أو أو رأي يبديه أو فعل يقدِم عليه. كان التزامه بالقومية العربية معلناً، لم يحاول إخفاءه حتى في سياق النقاشات التي كانت تدور بينه وبين الطلاب في القاعة حول مسائل فلسفية، كيف يخفيه وهو رأس الحربة في خضم الصراع الفكري الذي كان يجتاح الجامعة والوطن على حد سواء، في أواخر الستينات وبداية السبعينات من القرن المنصرم.

الانحياز للعروبة

هذا الإنحياز للقومية العربية، لمكامن الثراء في تراثها، لاسيما الفلسفي منه، كان مبعثاً للعمل على إصدار “موسوعة الفلسفة العربية”، أشرف على إدارتها وتحريرها، وقد شارك في كتابة موضوعاتها كبار المشتغلين بالفلسفة من الأقطار العربية كافة، أُخرِجت في أجزاء ثلاثة، اختصّ كل منها بجانب من جوانب الفلسفة العربية، الأول تناول المفاهيم والمصطلحات، والثاني عالج المذاهب والتيارات والمدارس. أما الثالث فاهتمّ بأعلامها. هذا التصنيف يبقى من خصائص المنهجية العلمية التي تحلى بها د.زيادة، فالفصل بين أنواع المادة الفلسفية، من شأنه أن يسهّل مهمة الباحث في تحصيل مضمونها، لكي يعيد الوصل بينها في المشروع البحثي الذي يسعى إلى إنجازه أو تحقيقه. وعليه، فإن ثمة حكمة تقف وراء هذه الموسوعة ووراء الشكل الذي انتهت إليه، فهي في وجه من وجوهها استجابة لهمّ معرفي طالما شغل د.زيادة. وهي في وجه آخر، جهد لا مفرّ منه في معركة الدفاع عن الموقع الحضاري عموماً للأمة العربية، والفلسفي بشكل مخصوص.
الفكر العربي

في السياق نفسه يأتي انهمامه بالفكر العربي عموماً، فتسلّم رئاسة تحرير مجلة “الفكر العربي” التي كان يصدرها معهد الإنماء العربي، وكان قد سبق أن عرفه هذا المعهد، باحثاً فيه ثم مديراً له. ولا غرو في القول إن هذه المجلة، بخلفيتها الأيديولوجية المنفتحة على كل ما من شأنه أن يسهم في الكشف عن مواطن القوة في الثقافة العربية، ويطوّر الأدوات المعرفية التي يتوسل بها الفكر العربي في إنتاجه لهذه الثقافة، كانت معبراً مكرّساً لكل باحث في قضايا العرب الفكرية والثقافية والسياسية والإجتماعية، استضافت على صفحاتها كبار المفكرين والعلماء المتبحرين في العلوم الإنسانية على اختلافها، وجمعت في أعدادها أبحاثاً أكاديمية عالية القيمة، استفاد منها المهتمون بهذه العلوم، أساتذة وطلاباً، في الجامعات اللبنانية والعربية. أذكر أن معرفتي الأولى بهذه المجلة حصلت أثناء محاضرة للأب فريد جبر، حول مفهوم “الحدّ” definition، فعندما بدأ في تحليل نص من كتاب “المستصفى في علم الأصول” لأبي حامد الغزالي، أخرج من “شنطته” العدد 42 من “مجلة الفكر العربي”. وكان قد نُشِرَ له فيه بحث قيّم حول الموضوع الذي يعالجه في المحاضرة، فأشار الى الطلاب بضرورة الإطلاع عليه، ومراجعته والاستفادة منه، معرباً في الوقت نفسه عن رصانة الأبحاث العلمية التي تنشرها هذه المجلة، ومشيراً إلى الخلفية المعرفية التي تحكم الإدارة الأكاديمية لموادّها.

يستطيع المتابع لتجربة د.زيادة، الفيلسوف العروبي، أن يقع على خبير متمكّن، يمتلك “الحنكة” المعرفية في الوصل بين عناصر ربما وجدها البعض متباعدة، فاجتمعت في شخصه الصحافة والسياسة والفلسفة، وأدب السرد الذي تجسد في كتابه “الفصول الأربعة” وأن يتلمّس في مساره الفكري والنضالي، “تعانداً”(الصيغة مشتقة من ظرف المكان “عند”) مجدياً بين الفلسفة والأيديولوجيا، والتعاند تفاعل بين “عندين” “عِنْد” الفلسفة و“عِنْد” الأيديولوجيا، غالباً ما يثمر ثمراً طيباً حتى ولو رافقه شيء من المعاندة. وعليه، فإذا كان المفهوم الفلسفي يقترن بالكونية، لكنه يستبطن إمكانية انحسار“إطلاقيته” عند التحقّق محكوماً بشروط الزمان والمكان، كذلك المفهوم الأيديولوجي، المولود من تجربة جماعة معينة بشروط زمكانية محدّدة، يستبطن إمكانية انكسار خصوصيته، عند انفتاحه على الأفق الانساني العام.

لعلّ في ما اختزنته تجربة الفيلسوف القومي معن زيادة، من انفتاح تواصلي على الآخر، على قاعدة الحس الإنساني الجامع، وحرصه في الوقت نفسه على قوميته العربية، بل عروبته الحضارية، بعمقها الإنساني ما يفسر هذا الوجه من وجوه المصالحة بين الفلسفة والأيديولوجيا التي رافقته في مسيرة حياته.

ومع ذلك، يبقى السؤال مشروعاً حول الحدود التي تقف عندها الأيديولوجيا القومية أمام نشاط العقل الفلسفي في تجربة معن زيادة، ومعلوم أن مصلحة الجماعة التي تعبّر عنها الأيديولوجيا هي فوق كل اعتبار، كل شيء يستثمر في حمايتها ويستخدم، بما في ذلك العقل، في حين يتجاوز العقل الفلسفي الحرّ مصلحة جماعة معينة لحساب مصلحة الإنسان (بالحروف العريضة) وماهيته الكلية الجامعة، وقيمه الأونيفرسالية العابرة للخصوصيات والهويات البسيطة والمركبة. ما يدفع استطراداً إلى سؤال يتناول إشكالية العلاقة بين الفلسفي والسياسي في تجربة معن زيادة، يصح أن يكون الجواب عليه موضوعاً لبحث معمّق، “يقرأ” بانتباه وإصغاء ما تقوله “حياة” الرجل، وما تشي به وجوهها وأحوالها.

*د. وليد الخوري أستاذ فلسفة في الجامعتين اللبنانية واليسوعية.

مراجع البحث:

1 – معن زيادة: الفصول الأربعة: سيرة حياة، بيروت، دار رياض نجيب الريّس، 1999.

2- معن زيادة، معالم على طريق تحديث الفكر العربي،عالم المعرفة، عدد 115، الكويت، 1987.

٣-معن زيادة/ رضوان السيد، تحقيق كتاب خير الدين التونسي “أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك”- دار الطليعة، بيروت، 1978.

- 4 تحقيق كتاب “مسائل الخلاف بين البصريين والبغداديين”، معهد الإنماء العربي، بيروت، 2002.

5-معن زيادة/رضوان السيّد، ترجمة كتاب فرانز روزنتال، مفهوم الحرية في الإسلام، 1978.

6-معن زيادة: تحقيق وتقديم“شروحات السماع الطبيعي لإبن باجه”، دار الكندي ودار الفكر، بيروت، 1978.

7-الموسوعة الفلسفية العربية، في ثلاثة أجزاء.

8- معن زيادة، الحركة من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، دار إقرأ، بيروت - 1985.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 7 / 2342227

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

35 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 35

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28