] دنس الخطيئة في فردوس الوطن رواية “ما تساقط” - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الأحد 13 آذار (مارس) 2022

دنس الخطيئة في فردوس الوطن رواية “ما تساقط”

الأحد 13 آذار (مارس) 2022

كميل أبو حنيش

لم أقرأ من قبل رواية غاية في الحدة والجرأة والاستفزاز مثل رواية ما تساقط للكاتبة الفلسطينية “عفاف خلف”، الصادرة عن دار الفينيق في عمان، بطبعتها الأولى عام 2021، إذ اختارت الكاتبة أن تكتب بمشرط جارح، فكانت نصوصها مؤلمة وقاسية في صراحتها، وحادة في جرأتها، ولكنها أيضاً صادقة في رسالتها، وما يميز هذه الرواية أن صاحبتها تكتب من قلب الوطن، كشاهدة عيان على الكارثة الوطنية، حيث سلطت الضوء على الوجه الآخر للثورة الفلسطينية، وهو الوجه المعتم الذي كان سبباً في التدهور الذي صاحب الثورة الفلسطينية منذ البدايات الأولى، وقاد إلى تآكل الوجه المشرق للثورة بالتدريج إلى أن بات الوجه المظلم يحتل الحيز الأكبر في وجه الثورة.

والرواية وإن بدت حادة وقاسية وممعنة في جلد الذات الفلسطينية، غير أنها تُعد محاولة أدبية ناقدة للتجربة الثورية الفلسطينية بماضيها وحاضرها، ونصوصها وإشاراتها الذكية لا تجانب الحقيقة في الكثير من مشاهدها، وهي ترصد الواقع المرير على الأرض وتطلق النار على المناضلين المنحرفين والمتسلقين وتعريهم، وتكشف النقاب عن خطاياهم الكارثية التي أوصلتنا لواقع لم نتخيله حتى في أسوأ كوابيسنا بعد تحولنا من ثورة إلى سلطة لم تنجح بعد ثلاثة عقود من التسوية في التحول إلى دولة وفشلت في تجسيد الحلم الفلسطيني في الحرية والتحرير، وتحولت إلى كيان يختبىء داخله اللصوص والمنتفعين وحتى المتواطئين مع الاحتلال ومشاريعه الاستعمارية.

وتلخص الرواية حكاية الثورة الفلسطينية بمناضليها ومتسلقيها، وتسلط الضوء على انحراف المناضلين من محطة إلى أخرى بفعل الهزائم من تحولات في وعي وإرادة القادة الفدائيين، وصولاً إلى السقوط الأخلاقي والقيمي والفساد والإنحطاط لدى بعضهم، لينتهي البعض منهم إلى متعاون وعميل للعدو.

وتدور الرواية في الزمن الفلسطيني المتعثر منذ النكبة، إلى زمن الثورة وزخمها وما حملته من اخلالات وأخطاء منذ البدايات، أدت إلى تحولات أصابت بنيتها ومواقفها في الصميم، لتنتهي بها الحال إلى سلطة على الأرض، كثمرة مريرة للزمن الفلسطيني المنكوب، وتسقط في مصيدة الزمن من دون أن تفلح لا في العودة إلى زمن الثورة ولا في التقدم في مشروع الدولة.

وتعود الرواية إلى البدايات، حيث تتبعت مسار الثورة المعاصرة، بأبطالها وفاسديها ورصدت التحولات في صفوف الفدائيين وقادتهم، الذين تساقط البعض منهم منذ البداية ومنهم من تساقط في منتصف الطريق، ومنهم من حافظ على نقائه وثوريته حتى النهاية ولم يتساقط لينتهي شهيداً.

وأبطال الرواية الرئيسيين هم أربعة أشقاء، عدي، مختار، رقية ونجلاء، واخوهم غير الشقيق – راضي أمين – ويشرع الأخوة الأربعة بمواجهة حياتهم القاسية بعد أن تخلت أمهم عنهم وهم صغار، لتغادرهم وتتزوج من رجل آخر، وتتركهم عند أب عاجز وفقير. فيكافح الأخوة لتوفير لقمة العيش وهم يتنقلون من مكان لجوءٍ إلى آخر، فتتزوج رقية من عبد الوهاب، رجل الدين المنحرف والانتهازي ليتولي عدي إعالة إخوته الصغار قبل أن يصبح فدائياً في الأردن ومن ثم في لبنان قبل أن يبدأ بالإنحراف بعد الخروج من لبنان، وسيصبح أحد القادة السياسيين الذين سيلعبون دوراً فيما بعد في تشكيل السلطة ويتحول إلى رجل فاسد، ويفسد معه شقيقه مختار الذي أخذ يتعلم منه مبادىء الوصولية بعد أن كان مثله الأعلى في زمن الثورة.

أما نجلاء التي تعرضت للخطف والاغتصاب في لبنان، فإنها ستصبح ضحيةً للجميع وسيتخلون عنها وستتحول إلى عاهرة، تتنقل بين أسرة القادة، وستجد لها مكاناً في مرحلة السلطة. أما الأخ غير الشقيق – راضي أمين – الذي كان يعيش في الأراضي المحتلة فقد اختار العمالة مع العدو، وخان رفاقه وتنظيمه في الوطن قبل أن يبعده الاحتلال إلى الخارج، كنوع من تلميع صورته، فيتوجه إلى تونس ويلتقي بأخوه عدي وسيتعاون مع عدي ويصبح رجل أعمال بارز وسيكون له دور في السلطة العتيدة.

ويمثل سليمان بيك ذو الجذور الاقطاعية، دور أحد القيادات المشكلة لبنية الثورة وسيلعب بسلوكه ومواقفه وعلاقاته دوراً في تخريب الثورة وانحرافها، وسيكون سبباً في انحراف عدي الذي كان يعمل مرافقاً له، وسيغدو ملهماً له في التساقط والفساد التدريجي. وسيرغم سليمان بيك على تزويج عدي من ابنته غادة التي أحبت عدي الفدائي والثائر، وسيلعب سليمان بيك وابنته غادة دوراً في نسج علاقات مبكرة مع العدو ممثلاً بسالومي، الفتاة الاسرائيلية التي كانت تدعو للسلام والتعايش والتطبيع.

أما الوجه المشرق للثورة فيمثله فادي الذي نجا من الإنحراف وبقي فدائياً حتى انتهى شهيداً في الانتفاضة الثانية، وكما يمثل ابنه يسار، وفاتن ابنة نجلاء بارقة الأمل في الجيل الجديد، حيث تبدأ الرواية وتنتهي بهما ليكونا الوجه الجديد للثورة والاستمرار في الزمن الفلسطيني الثائر.

ويلخص عدي تجربة الفدائي الفلسطيني في زمن الثورة حيث يقاتل في الأردن وفي لبنان في قلعة الشقيف، وفي ذلك الزمن كان عدي الفدائي يحمل موقفاً منسجماً مع هويته الفدائية، ويددرك أن الوطن لا يُسترد إلا بالقتال “الأرض ترسم حدودها بالسكين والدم، ويسحبونها من تحد أقدامنا لنظل طرائد، لذلك علينا أن نكون اليد التي ترسم تلك الحدود لا الطريدة.... الأفضل أن نكون النصل” ص44. وهذا الموقف منسجم تماماً مع موقف الفدائي الذي قرر أن يمحو عار النكبة واللجوء، ويحمل سلاحه ليسترد الوطن. كل ذلك، قبل أن يطرأ على عُدي التحول التدريجي بعد الخروج من لبنان ويتغير الموقف فلم تعد حدود الأرض ترسم بالسكين ، بل بالحبر والورق، “لم يبقى لنا سوى السياسة” ص49، وهو موقف أخذ يتنامى بعد الخروج من بيروت ووصل ذروته في زمن السلطة.

وفي زمن الثورة كان عدي يثق بقيادة الثورة ويخوض معاركها ضد الأخوة وضد الأعداء على حد سواء ولا يتساءل عن هذه المعارك وجدواها لإنه ببساطه شأنه شأن أي مقاتل يثق بقيادته (لا أعرف ولا أفهم كيف ستقودنا تلك المعارك إلى فلسطين... فالقيادة ببصيرتها وخبراتها كانت الأقدر على تحديد الدرب الذي سيوصلنا إلى فلسطين (ص53).

إذن ثمة معارك جانبية لابد من خوضها إلى جانب المعركة الرئيسية ، وإن لم يكن يفهمها في تلك المرحلة فإن ثقته بالقيادة تعفيه من الوقوع في الحيرة والارتباك، والإجابة على الأسئلة المستعصية على الفهم ولأنه بات يدرك أن الثورة لغز كبير لا يفهمه إلى القادة (الثورة متاهة لها مهندسها ) ص64.

وفي قلب هذه المتاهة وفي أطرافها تكمن أشياء غريبة ومحيرة وهذه المتاهة المحيرة تجد تعبيراتها بتحالفات ولقاءات مع الأعداء، وبدلاً من الوحدة يسود الانشقاق والتناحر، وتتعدد الرؤوس لذات الثورة ( كم من توحد داروه بانشقاق)ص 64 (وكم من حركة كاثرتها الرؤوس فصارت حركات) (ص64) حتى أصبحت الثورة مثل الدجاجة تبيض أحزاباً وذهباً) (ص64).

لكن رغم هذا التعدد في الروؤس والحركات غير أنها تبقى وسيلة والغاية هي الوطن. وعلى لسان فادي الذي يمثل دور الفدائي الملتزم وهو يتحاور مع عدي الذي يحمل بذور الانحراف (الوسائل قد تتغير ولكن الوطن يظل ثابتاً كقيمه، لا تقبل المقايضة ولا المساومة ، وأن تبقى صلباً ولا تساوم) (ص66) هكذا يفهم فادي الثورة، بحركاتها وقادتها كوسيلة للتحرير وأن المعارك غير قابلة للمساومة وكلمة السر في العملية هي الصمود والصلابة.. وما أن تُهزم الثورة حتى تنقلب المعادلة، يصبح الحزب هو الغاية والوطن والقضية هما الوسيلة، وتحل ثقافة الانكسار والخضوع مكان الصمود وتغدو المساومة والمقايضة وسيلتين للبقاء السياسي.

في زمن الثورة كان ينفجر الجدل بين فادي وعدي كفدائيين يمثلان اتجاهين مختلفين عن أقرب الطرق للوصول إلى الوطن.. وعن دور المال في عملية التحرير فيقول فادي ذي الموقف الجذري ( لا يمكن الجمع بين الثورة والثروة إلا بالخطيئة ) (ص122) إذ أن ثمة تعارض مبدأي وأساسي بين الثروة والثورة، فالثروة تمثل عامل إفساد للثورة وتحويلها من حالتها الطبيعية القائمة على أساس التقشف والشجاعة والتضحية والانحياز للطبقات المسحوقة، إلى حالة من الاسترخاء والرفاهية والحذر والخوف والانتهازية والمقامرة بالحقوق . لذا فالثراء على حساب الثورة يعد خطيئة كبرى لأن الثورة الفاسدة لا يمكن أن تنجز أهدافها وينبغي أن تظل نقية وثورية وجريئة ولا يجوز التلاعب بأهدافها (الثورة وقفُ لا يصح فيها بيع ولا شراء) (ص122)

هكذا كان الحال في وعي الثورة التي تجسد الرؤية والوسيلة النبيلة لانجاز هدف مقدس، متمثلاً في تحرير الوطن. غير أن عدي الفدائي القابل للانحراف والذي كان منبهراً بقائده سليمان بيك، كانت حدود وعيه ترى في المال وسيلة في عملية التحرير ( الثروة تمهد طريق الثورة) (ص122) أي أن المال ضروري لتمكين الثورة وتدعيمها للوصول إلى غاياتها فيرد عليه فادي الواثق بنفسه والمنسجم مع مواقفه والواعي لخطورة المال على مسيرة الثورة ( لن تتقاطع الثورة والثروة يوماً إلا من أجل تكريس الانحرافات واتمام الصفقات) (ص123).

وتلمح الرواية إلى الأصول الطبقية لبعض القيادات في الثورة التي كانت وستظل محكومة لمصالحها الطبقية وتصوراتها لذاتها، وأنها الأجدر في القيادة لأنها تنفق المال بدلاً من دفع التضحيات، وتحمل الأعباء الثقيلة. كما وتلمح إلى دور أموال البترودولار التي تدفقت بكثرة على فصائل الثورة وساهمت في انحراف بعض قادتها وخلق طبقات وفئات منتفعه أشبه بالقطط السمان داخل الثورة، وعن دور الأنظمة المجمولة في إغواء الفلسطينيين للانخراط بالتسوية وهو ما مهد الطريق مبكراً للانغماس في مشروع البحث عن فرصة للتسوية التاريخية مع العدو وصولا إلى محطة أوسلو الكارثية. إلا أن عدي الفدائي لم يفهم في ذلك العهد الدور الخطير للمال في إفساد الثورة وكان لا يزال مؤثثاً بالمواقف الثورية (لا يلجم الثورات سوى الخوف، ولا يفجرها سوى الحب) (ص233) ذلك “لأن الحب فعل ثورة.. نحن نحب الأرض والوطن والناس” ص273 كانت هذه المواقف تمثل وعي الفدائي زمن الثورة ، ثم تبدأ رحلة التحولات الجذرية لدى الفدائيين وقادتهم بفعل الهزائم المتلاحقة التي أدت إلى بروز مواقف جديدة كانت تمثل خطايا كبرى في زمن الثورة كمفاهيم السلام، والتسوية، والمفاوضات، والحكم الذاتي، والحلول الجزئية والاعتراف بأحقية العدو على ثلاثة أرباع الوطن.

وستكون نجلاء – العاهرة – هي أول من يلمس ويرصد هذا التحول ( تجربتي علمتني أن السرير كرسي آخر يكتب انتصاراتهم وهزائمهم ايضاً سيسقطون جميعاً كما سقطت )(ص17) فالتسلل إلى جسد نجلاء كانت علامة أو بداية للسقوط ومعبرة عن يأس وإحباط وانكسار بعد هزائمهم في ميادين القتال فيأتون إليها لينتصروا على جسدها في السرير كتعويض عن هزائم الميادين، فتسقط أقنعتهم لأن سرير العهر هو اكبر اختبار لعزيمة الثائر والقائد الذي يترك الميدان، ويلجأ إلى أحضان عاهرة وبحكم التجربة تقول نجلاء (أول من يسقط حراس المبادئ ورعاة الكلمات) (ص246) أولئك القادة المثقفين الذي كانوا يتركون المقاتلين في الجبهات ويتسللون إلى العلب الليلية يمثلون العلامة الأولى لهذا السقوط، ونجلاء التي تعرف مدى سقوطها ستجد في أعماقها احتقاراً لحراس المبادئ الذين يتمرغون بين فخذيها وستدرك أن سقوطهم أشد سقوطاً من سقوطها. وفي هذه الحالة فإنهم لا يختلفون عنها بل هم أكثر خطورة في سقوطهم لأنهم يعبرون عن سقوط جماعي وتاريخي، ووطني وقيمي حتى يصبحوا عراة تماماً (رأيتهم جميعا عراة بالمعنى الحقيقي والمجازي للكلمة رأيت عوراتهم الجسدية والفكرية ) (ص365) ليست هناك أشد قسوة من انكشاف عورات القادة الذين من المفترض أن يكونوا النموذج والمثل، ويبدأ انحرافهم بخيانة مواقفهم ومبادئهم وزوجاتهم ومن ثم خيانة قضيتهم وهم يظهرون الضعف بين ساقي عاهرة.

أما غادة العمار ابنة سليمان بيك، فرغم تربيتها وأصولها الطبقية إلا أنها انبهرت بعدي الفدائي وأحبته لكن صورته في أعماقها أخذت بالتلاشي بعد أن انطفىء بريق الفدائي، وغدا يلهث وراء المصالح والمغانم ( صيرتني شخصاً لا أعرفه، امرأة تختنق بظلك المرسوم بالسلطة، بسلطتك التي صيرتك أرصدة ومؤامرات) (ص18) وهو بهذا لم يعد يختلف عن أبيها وسائر القادة الفاسدين (كنت حبل نجاتي منهم عدي في زمن مضى فكيف تغيرت ؟ كيف اقتفيت خطاهم، خطى جلاديك وجلاوزتك، وقتل كل ما هو جميل ونظيف ) (ص281) لكن تساؤلات غادة عن الأسباب التي غيرت عدي وحولته من فدائي إلى رجل قوي ومتنفذ ومسؤول فاسد ، لا يبرئها من انحرافه إذ هي ذاتها ساهمت بشكل أو بآخر بهذا الانحراف الذي حوله إلى رجل أو نظام لا يختلف كثيراً عن أية سلطة أو نظام عربي فاسد.

وترصد الرواية التحول الجذري لدى عدي من الداخل والخارج في أعقاب الخروج من لبنان وبعد أن غدا أحد رجالات السلطة وقادتها، إذ بدأ بقتل الفدائي بداخله لصالح الرجل الانتهازي الوصولي (هناك ثمن علينا أن ندفعه لأجل خياراتنا والأفضل أن لا نكون نحن الثمن) (ص64) وتلخص هذه العبارة مأساة الانقلاب الجذري من الفدائي إلى الرجل الفاسد ففي زمن الثورة كان خيار عدي الوحيد هو خيار الفدائي وخيار الوطن، وكان مستعد لدفع حياته ثمناً لتحرير الوطن، لكنه تغير وتغيرت خياراته وأهدافه وبات خياره الوحيد هو المصلحة الشخصية والمرتبة القيادية وصار يتعين على الآخرين دفع ثمن وصوله إلى الغنائم وتحويلهم إلى جسر لعبوره إلى ضفة الامتيازات.

ولأن خياراته تغيرت فإن مواقفه تغيرت وصارت مواقفه ومبادئه القديمة عبئاً وكابوساً ينبغي أن يتحرر منها ومن ماضيه الفدائي (الحياة مع المبادئ كارثة)(ص46) حيث يصل إل ذروة تحوله الفاجع. إذ لم يعد يرى بالاحتلال ولا بالخيانة كارثة وإنما بالمبادئ حتى يظل قوياً ومتنفذاً ويحرز المزيد من الغنائم يجب أن يتحرر من مبادئه التي تطوقه وتظل تذكره بمرحلة الفدائي وبالقضية المقدسة (كان هدفنا التحرير والآن هدفنا تحريرنا من فكرة التحرير)(ص49) ذلك لأن فكرة التحرير تتطلب دفع ثمن كبير لم يعد مستعدا لدفعه كما أن عملية التحرير باتت تتناقض مع ما حققه من مكاسب شخصية وحاله بات معبراً عن حال بعض النخب، ومراكز القوى في السلطة التي باتت مصالحها تتقاطع مع مصالح الاحتلال وتلك الفئات، الطبقات التي نشأت في الساحة الفلسطينية مع نشوء السلطة، فتغيرت المرحلة وباتت تحتاج إلى رجال من نوعٍ آخر “لا يوجد رجال حقيقيون، يوجد متسلقون ودرجات” ص 83. فالمرحلة تغيرت وزمن الثورة ورجالها انتهى، وجاء زمن السلطة المناقضة لزمن الثورة وهو ما يستدعي رجالاً من طراز جديد، رجال متسلقين، باحثين عن اقتناص الفرص والامتيازات.

ومع أن الرواية ركزت على العامل الذاتي، كأحد الأسباب الرئيسية للانحراف، إلا أنها خصصت حيزاً للدور الذي لعبه الآخر، أي العدو في هذا الإنحراف وتوظيفه لاحقاً لتكريسه الهيمنة الاستعمارية وتخليد زمن الاحتلال، وايقاع الفلسطيني في مصيدة الوقت واغوائه للانغماس في نهج التسوية. وتلعب سالومي في الرواية دور الناشطة اليسارية الإسرائيلية في الدعوة للسلام والتعايش والتطبيع، فأثناء لقاءاتها مع غادة وسليمان بيك وعدي ومختار في المنفى وبعد قيام السلطة، كانت دعواتها تتمحور حول ضرورة الانطلاق من الحاضر ونسيان الماضي وطمس التاريخ والتحرر منه “ماذا يعني إعادة صياغة ماضٍ لا يتناسب وما نكون، ليس الماضي ما يقرر المستقبل، بل المستقبل هو الذي يعيد صياغة الماضي بما يتلائم وغاياتنا منه وما نريد” ص89، وهذه العبارة تكاد تتطابق في مضمونها مع عبارات مماثلة وردت على ألسنة رابين وبيرس وقادة آخرين. إذاً لا أهمية للماضي، وعلى الفلسطيني أن ينسى ماضيه أو يعيد كتابته من جديد، إن أراد أن يدخل المستقبل برفقة عدوه الإسرائيلي من موقع الخادم والتابع. ومن المفارقات أن الصهاينة الذين يعيشون على أساطير الماضي، يريدون من أعدائهم الفلسطينيين نسيان الماضي والتحلل من أي تاريخ، وعليهم أن يتلائموا مع نهج التسوية “على الفلسطينيين أن يكونوا أكثر براغماتية ..” ص92. وقد استمعنا إلى هذه الدعوات على ألسنة الأمريكيين والإسرائيليين والأوروبيين وحتى بعض القادة العرب بشكلٍ سافر، إذ أن البراغماتية لا تعني سوى التنازل عن الحقوق وأن يتحول الفلسطيني إلى متعاون مع الاحتلال والدخول معه في شراكات أمنية واقتصادية ولأن “المرحلة تغيرت، نحتاج الآن إلى صفٍ من القيادات التي تمتلك رؤيا للسلام” ص97.

ويجاهر الاحتلال برغبته في ظهور قيادات متساوقة ومنبطحة، ورؤيا السلام في شرع اسرائيل لا تعني سوى الاستسلام والإذعان للشروط السياسية والأمنية الإسرائيلية. وقد عبر عن هذه الرغبة أسحق الذي يلعب دور رجل الأمن الإسرائيلي “نحتاج شخصية منغمسة في خضوعها واستسلامها حد التنفيذ الأعمى” ص 270.

ومن هنا تنبع أهمية الرواية، لأنها تتكأ على الواقع ومشاهدة السوداوية ولا تكشف أسراراً، إنما تمزق الأقنعة الواهية وتفضح سياسة الزيف والدجل والتضليل الممنهج، والرواية رغم سوداويتها وتعبيراتها المتشائمة، إلا أنها لا تغلق الباب أمام المستقبل وتفتح أفقاً جديداً في استمرار الزمن الفلسطيني المكافح الذي يمثله يسار ابن الفدائي فادي، وفاتن ابنة نجلاء، أي الجيل الجديد. ولسان حال الرواية يقول: أن الأبناء قد يرثوا عن أبائهم وأهاليهم البطولة، والتضحية والوفاء كما في حالة يسار، ولكن ليس بالضرورة أن يرثوا دنس وعار ابائهم وأمهاتهم كما في حالة فاتن ابنة العاهرة نجلاء. أي أن الجديد يولد دائماً من رحم القديم، وان الجيل الجديد ينبغي أن يتعلم ويتمسك بالتراث والتاريخ المشرف، وأن يتجاوز وينبذ كل ما هو مدنس، وبهذا يمثل يسار وفاتن بقعة الضوء وسط الظلمة، ونقطة الطهارة وسط الدنس، حيث تقول فاتن “لم تستطع القبور على سعتها أن تئد الأسئلة” ص363. والسؤال هو سؤال استرداد الوطن وتحريره، رغم حجم التضحيات الجسام، مصممين على إكمال الطريق مهما بلغت التضحيات “نبحث عن وطنٍ لا نجده فوق الأرض، فنبحث عنه من تحتها” ص 363. وهو ما ينطوي على الإرادة والتصميم والوعي والاستعداد للتضحية، فتصل هي ويسار إلى استنتاج تاريخي “لا ذل الهزيمة ولا عهر كالنصر يزور الحكاية ليصير سياسة” ص 368، الأمر الذي يعني رفض الواقع بأكاذيبه وأوهامه، وضرورة التشبث بالحلم الحقيقي وليس بالأوهام الكاذبة “دعنا نحلم، استيقظ لنحلم” ص369، وهذه العبارة هي رسالة الرواية وبيت قصيدها، الدعوة لليقظة من كابوس التسوية، والعمل على تجسيد الحلم الوطني في الحرية والتحرير من خلال الثورة الحقيقية.

إن رواية ما تساقط، وبالرغم مما رسمته من مشاهد سوداوية للواقع الفلسطيني وإمعانها في جلد الذات الفلسطينية، إلا أنها لم تغلق الباب أمام المستقبل المفتوح على الاحتمالات، بما فيها احتمال اشبه بحتمية تاريخية يتمثل في ضرورة انطلاق ثورة جديدة تُعيد أحياء الحلم الذي تكلس واستحال إلى كابوس، وحمله وحمايته من جديد.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 69 / 2342227

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

24 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 24

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28