] «كيف أصبحتُ روائيًّا» - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الخميس 17 شباط (فبراير) 2022

«كيف أصبحتُ روائيًّا»

ابراهيم نصرالله
الخميس 17 شباط (فبراير) 2022

لي الكثير من التجارب مع شابات وشبّان قرروا أن يكونوا روائيين. بعضهم يطلب منك قراءة روايته الأولى، وهذا يكون قد بذل جهدًا، على الأقل، في كتابة نصه، لكن كثيرًا من هؤلاء يمطرونك بوابل من النصائح حين تتجرأ وتُدلي برأيك في نصوصهم، الرّأي الذي لم يُرسلوا إليك الكِتاب إلا لسماعه. هذا دفعني ذات يوم لكتابة مقال طويل (قبل عصر الإنترنت)، عنوانه «رسالة إلى كاتب شاب».
كاتبة شابة أرسلت إليّ روايتها ذات يوم، وحين ارتكبتُ جريمة قول رأيي فيها، الذي لم يكن قاسيًا على أيّ حال، لأنني لا أتقن ذلك، كتبتْ لي أن هذه الرواية ستنشر رُغمًا عنّي، وتنجح و…، وكم أفزعني يومها حجم العدائية في كلماتها. وهكذا، يمكن أن أكتب عن عشر تجارب من هذا النوع تُدمي القلب والروح.
بعض ممن قرروا كتابة الرواية، ولم يكتبوها بعد، يرسلون إليك أسئلة من مثل: ما هو الموضوع الجيد الذي عليّ أن أكتب فيه في اعتقادكَ لأضمن نجاح روايتي؟! ما هي دار النشر التي تقترحها لنشر الرواية؟ من هم النقاد الذين يمكن أن يكتبوا عنها؟ ولا تستغرب أن يسألك أحدهم من هو المخرج الذي يستحق أن أمنحها له ليُخرجها.
كل هذه التجارب دفعتني للتوقّف تمامًا عن قراءة أيّ مخطوط. ففي النهاية، لا تخرج من هذه التجارب إلا بمستويات أعلى لضغط الدم، وارتدادات قابضة للروح تستمر أسابيع طويلة، ثم لأن الوقت يضيق، ولأن النتيجة غالبًا صادمة، وقد قيل «من جرَّب المُجرب عقله مُخرَّب!» وفي زمن يفقد المرء فيه جزءًا من عقله مع كل غروب شمس، لفرط ما يرى من مآس وغرائب، عليه أن يتمسك بما تبقى له منه.
قراءة سيرة الكاتب أرسكين كالدويل «كيف أصبحت روائيًا» (ترجمة أحمد عمر شاهين)، تمثل في اعتقادي مادة غنية لأي كاتب، ويجيء عبر حقيقتين: الأولى ذلك الجهد الخارق المبذول من أجل الوصول إلى مرتبة الكاتب الحقيقي في ظروف بالغة القسوة، والثانية تتمثل في كون هذا التّعب والإصرار يوصلان إلى نتيجة في نهاية الأمر، يرضى عنها القارئ والكاتب في آن.
في هذه السيرة يبدو الإخلاص للكتابة فعلًا وجوديًّا واضحًا بجلاء، وإن كان كالدويل قد بدأ حياته صحافيًّا، إلا أن الصحافة نفسها هي التي قادته إلى تغيير حياته في اتجاه آخر. وغالبًا ما يظهر ذلك من خلال تمرّد الموضوع على كاتبه، ليكتب نفسه في النهاية، فمن مهّمة صحفية ترمي إلى كتابة تحقيق صحفي حول انتحار رجل في فندق، ذهب كالدويل للقيام بها، توصّل دون أن يدري إلى كتابة قصة. كان ذلك بعد أن سأل موظف الفندق إذا كان يعرف سببًا لانتحار الرجل. فرد عليه الموظف: «أليس الوقت صباح الاثنين؟ ألا تدري ماذا يحدث عادة في يوم العودة إلى العمل؟ سأخبرك.. ذلك الرّجل الذي حملوه من هنا شعر كما يشعر كل الفقراء حين يستيقظون مفلسين صباح الاثنين.. إنه الاثنين الحزين يا صديقي، وذلك هو الوقت الذي يسحبون فيه مسدسهم الصغير القديم وينسفون أنفسهم مغادرين إلى العالم الآخر».
من هنا تبدأ كتابة كالدويل للقصة متمرّدًا على وظيفته، لكن الصحيفة لا تقتنع بذلك: «اذهب واكتب نصف عمود عن رجل مجهول وجده البوليس منتحرًا في غرفة فندق». هذا ما يقوله رئيس التحرير.
كان ذلك في عام 1926، حيث يلتقي كالدويل بالصحافية مارجريت ميتشل، ويصفها بأنها كانت واحدة من أهم الصحافيات المتميزات، إلا أنها وفي ذروة نجاحها تقرر أن تستقيل لتتفرغ لكتابة رواية تخطط لها منذ سنوات.
يقول كالدويل: وحتى لو كانت مارجريت لا تملك شخصية مبهرة، ولا طريقة في الحديث جذابة، ولا شكلًا خلابًا، لبقيتُ متأثرًا بها، أكبرتُها لأنها تملك الثقة الكاملة في نفسها لترك عملها لتكتب كتابًا، وتساءلت فيما إذا كنت قادرًا على اتخاذ قرار مشابه. بعد عشر سنوات من استقالتها، قدَّمتْ مارجريت ميتشل روايتها الخالدة «ذهب مع الريح».
وقرر كالدويل أن يصبح كاتباً، وبالسخرية وحدها استُقبِل قرار تفرّغه. يقول له رئيس التحرير: «الصحافة وحدها هي التي تجعل الحياة تستحقّ أن تُعاش.. أنت أذكى من أن تنصرف إلى كتابة الكتب».
وفي سيرة كالدويل كما في سيرة كثير من الأدباء، نلاحظ الصعوبة الكبيرة التي تعترض طريق الكاتب قبل أن يتمكن من نشر أحد أعماله، سواء في مجلة أو صحيفة أو كتاب؛ وهكذا فبعد ست سنوات من بداية كتابته للقصص، يتلقّى كالدويل رسالة هي الأولى من نوعها، يخبرونه فيها بأنهم قرّروا نشر واحدة من قصصه، وهكذا تتغير حياة كالدويل منذ تلك اللحظة، بعد أن يتلقى أول مكافأة مالية في حياته، لكن ذلك لم يمنع المجلات من رفض قصصه.
في عام 1931 يتمكن من طبع مجموعته القصصية الأولى، إلا أن كتابة روايةٍ هو الحلم الذي يتوق إليه، وهكذا يكتب «طريق التبغ»، ويواصل الكتابة في ظروف قاهرة قاسية: «البرد، الذي يترك آثارًا واضحة في أطرافه لسنوات، والكتابة في «باص» ذهابًا إيابًا لأنه أكثر دفئًا من المنـزل، والطعام الذي يتكوّن من خبز الشوفان وجبنة مصائد الفئران، ووزنه الذي ينخفض إلى النصف. ورغم ذلك يواصل العمل والكتابة، فيكتب «أرض الله الصغيرة « التي تجد طريقها إلى النجاح عام 1933، هذا العام الذي يصل فيه دخله السنوي إلى سبعمائة دولار تمكّنه من أكل اللحم المشوي لأول مرة منذ سنة، وشراء آلة كاتبة جديدة وثلاث نسخ من القاموس، يضع واحدة منها في غرفة الكتابة، والثانية في غرفة المعيشة، والثالثة في المطبخ، «ليكون في استطاعتي الوصول إلى القاموس بسرعة حينما أكون في المنـزل»، يقول. ويضيف: «ليس ثمة ما هو أعظم من القاموس، كنت أحاول النظر فيه أطول وقت ممكن، لا للرجوع إليه ولكن لقراءته في وقت الفراغ بدل قراءة الروايات والمجلات، وفي تقديري أنه لم يُكتب شيء مدهش وممتع ومثير مُشبِع وبنّاء كالقاموس».
في نهاية سيرته، يقدم كالدويل بعض الإجابات لأسئلة طرحت عليه طويلاً، أو تكرر طرحها مثل: ما هي النصيحة التي توجهها لكاتب شاب؟
يرد: «علّم نفسك الكتابة بالدرجة نفسها التي يعاني فيها أي فرد ليصبح ناجحاً في ميدانه من خلال التمرين، فالأطباء والمحامون والخبازون والحلاقون والميكانيكيون والمهندسون وعمال الطباعة لا بدَّ أن يتعلموا بالخبرة، لماذا لا يكون الكتّاب كذلك؟».
وبعد: تبدو سيرة كالدويل هنا نوعًا من الصراع المرّ من أجل الكتابة، يمكن أن يكون نموذجًا لإيمان الكاتب بعمله، لكن ما يعزّي في حالة كالدويل، أن النجاح حين يدق الباب للمرة الأولى، يكون كافيًا لبدء حياة جديدة؛ هذا الذي لا يمكن أن يتحقق لكاتب عربي بسهولة أو حتى بصعوبة!


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 39 / 2342227

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع ثقافة وفنون   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

36 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 37

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28