] ترامب يحكم أمريكا - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 25 أيلول (سبتمبر) 2021

ترامب يحكم أمريكا

السبت 25 أيلول (سبتمبر) 2021 par عبدالحليم قنديل

ليس في العنوان خطأ، سوى أن دونالد ترامب بشخصه ليس في البيت الأبيض حاليا، وإن كان يستعد للعودة في 2024 مع انتخابات الرئاسة المقبلة، ربما بعد هزيمة واردة جدا للحزب الديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس بمجلسيه أواخر 2022.
وإلى أن تحين المواعيد القريبة، فسوف يؤدى جو بايدن الرئيس الأمريكي الحالي دور سلفه، وبالذات في السياسة الخارجية الأمريكية. ليس السبب بالطبع، أن بايدن يحب ترامب، وهو الذي أخذ الرئاسة بأصوات الاحتجاج على فظاظة الرئيس الأمريكي السابق، وليس بفضل أصوات تأييد خالص لشخصه الباهت الذابل النائم أغلب الوقت، لكن بايدن حين دخل البيت الأبيض، وجد نفسه أسيراً لسياسة ترامب الخارجية بالذات، ولشعار «أمريكا أولا» الذي ورثه ترامب بدوره عن باراك أوباما، أول رئيس ملون لأمريكا، الذي كان اختياره بليغا في دلالاته، وبعضها كان تعبيرا عن ميل أمريكا للتواضع، والانسحاب والتقوقع على نفسها، ولملمة جراحها، والتخفف من أثقال العالم، الذي سعت لحكمه عنوة، والانفراد بتقرير مصائره عبر حروب عدوانية قتلت ثمانية ملايين إنسان، ثم انتهت في الأخير إلى الحائط المسدود.
ليس لأن أمريكا صارت أضعف سلاحا ولا أقل تكنولوجيا، فهي تنفق على السلاح وتطويره وتكديسه نصف ما ينفقه العالم بأجمعه، وهي تاجر السلاح الأول لا تزال، لكن السلاح وحده لا يديم العظمة، ولا الاستئثار بعرش العالم، ولا الادعاء بتفوق قيم تريد فرضها، فقد آل المثال الأمريكي إلى بوار متزايد، ولم تعد أمريكا تلك القوة الفريدة المرهوبة المرغوبة، كما أوحت سنوات قليلة تلت انهيارات موسكو الشيوعية أوائل تسعينيات القرن العشرين، وكان ذلك أشبه بخداع بصر خاطف في سيرة التاريخ، تجلت بعده حقائق العالم الجديد ناطقة، فقد عادت روسيا الرأسمالية هذه المرة إلى حلبة السباق والتفوق في السلاح، وتحولت من «قوة إقليمية» كما كان يصفها أوباما على سبيل التحقير، إلى قوة تأثير عالمية، بدءا بنزاعات الشرق الأوسط وسوريا بالذات منذ سبتمبر 2015، ولم تكن عودة روسيا إلى دور عالمي بحد السلاح، هي ما يزعزع عرش أمريكا، بل كان الخطر في عودة روسيا المتواضعة اقتصاديا متحالفة مع الصين، والأخيرة قوة عالمية متكاملة الأوصاف، فهي قوة الاقتصاد والتجارة والتكنولوجيا الزاحفة إلى عرش الدنيا، تجارة الصين وحدها تمثل 35% من تجارة العالم، وهي قوة نووية بالأصل، تزيد إنفاقها على السلاح باطراد، وتنفق على السلاح وصوامع الصواريخ النووية نحو نصف ما تنفقه أمريكا اليوم، وبوسعها أن تنفق أكثر، وقفزاتها التكنولوجية مرعبة، وعلى نحو ما بدا في تفوقها الكاسح بالتعامل مع جائحة كورونا، وفي التطوير الطفري لبرنامجها الفضائي، وحتى في صناعة شمس تضيء الليل بتقنية الانصهار النووي، وفي التطوير الهائل لقدراتها البحرية وغيرها، ودونما خشية من إرهاق مالي يقعدها عن مواصلة السباق لآخره، فلدى بكين فوائض مالية أسطورية، لا تقاس طبعا إلى فقر «الاتحاد السوفييتي» غريم أمريكا زمن الحرب الباردة القديمة، فقد كان الاتحاد السوفييتي حتى في أوج ازدهاره، لا يحوز سوى نحو أربعين في المئة من الناتج القومي الأمريكي، أما الصين ففي كوكب آخر، فهي قوة الاقتصاد غير المسبوقة في خطرها على مدى التاريخ البشري بإطلاق، وتملك بالأرقام المجردة اليوم أكثر من ثلثي الناتج القومي الأمريكي، وعندها فرصة تجاوز أمريكا اقتصاديا قبل نهاية العقد الجاري، بينما اقتصادها اليوم بحساب تعادل القوى الشرائية للدولار، يتفوق على إجمالي الاقتصاد الأمريكي بنحو ستة تريليونات دولار، والصين هي أكبر مانح ودائن في الدنيا كلها، واشترت نصف ديون أمريكا الخارجية، بينما الاقتصاد الأمريكي مثقل بديون فلكية خارجية وداخلية مفزعة، تجاوزت اليوم مبلغ 27 تريليون دولار، بينما ناتجه الإجمالي عند حدود 21 تريليون دولار، وتتسابق إدارات البيت الأبيض المتوالية على تغطية الإنفاق، بتعلية سقف الديون، وعلى طريقة «تلبيس الطواقي».

الخلاصة إذن، أن وهم الحفاظ على القوة الأمريكية القطبية الوحيدة، قد فات أوانه، وأن أمريكا تنزل بسرعة إلى مكانة «قوة عظمى» لا «القوة العظمى» بألف ولام التعريف، أي مجرد قوة عظمى بين متعددين، يصعب أن تظل بينهم في المكانة الأولى، وقد حاول بايدن إيقاظ الوهم، وتحدث قبل شهور عن عودة أمريكا لقيادة العالم، وإعادة تمتين التحالف مع أوروبا عبر المحيط الأطلنطي، والانسحاب من الشرق الأوسط إلى الشرق الأقصى لمواجهة الصين، ومواصلة سياسة العقوبات نفسها، التي درج عليها أوباما وترامب من قبله، لكن من دون جدوى عملية مؤثرة، ربما بسبب الحقائق الصلبة الجديدة، فقد جرب بايدن مواصلة نهج ترامب بالضغط على ألمانيا، ودفعها إلى الانسحاب من مشروع خط «نورد ستريم 2» لتوريد الغاز الروسي، وصممت ألمانيا ونجحت في مواصلة المشروع مع الروس، على الرغم من العقوبات الأمريكية على شركاتها، ثم سعى بايدن إلى طمأنة القوى الأوروبية، وإقامة كرنفالات وقمم حلف الأطلنطي ومجموعة «السبع» ومحاولة إقناعهم بسلوكه المختلف أخلاقيا عن فجاجة وسوقية ترامب، فإذا به يواصل نهج ترامب بالحرف، وينسحب من أفغانستان مهرولا، ومن دون أدنى تشاور مع حلفاء المهمة الأوروبيين، وهو ما زعزع ثقة الأوروبيين في وعود واشنطن، ثم انزلق بايدن إلى سلوك «ترامبي» بالكامل، مع خيانة حليفته فرنسا، ودفع أستراليا سرا إلى إلغاء صفقة الغواصات الفرنسية المقررة منذ عام 2016، وكانت قيمتها تصل إلى 56 مليار دولار، وإبرام صفقة أمريكية بديلة مع أستراليا، قد تصل قيمتها إلى ضعف قيمة الصفقة الفرنسية، وتزويد أستراليا بغواصات تعمل بالوقود النووي، ومنح بريطانيا الخارجة من الاتحاد الأوروبي قطعة من الكعكة، وإقامة قاعدة عسكرية أمريكية في أستراليا، وهو ما دفع فرنسا إلى الصراخ ألما مما سمته «طعنة في الظهر» واستدعاء سفيريها من «كانبيرا» وواشنطن، وهو إجراء غير مسبوق منذ ما يزيد على قرنين، فيما وصفت فرنسا بريطانيا بأنها «دولة انتهازية» وهو ما يعني ببساطة، وعلى الرغم من اتصال هاتفي لاحق من بايدن لتهدئة ماكرون، وإعادة سفير باريس، أن التحالف الغربي يكاد ينشق، وأن أمريكا التي تتصرف بأنانية جلب المال لخزانتها، تكاد تختصر التحالف الغربي في المحور «الأنكلوساكسوني» الذي يضمها تاريخيا مع بريطانيا وأستراليا ونيوزيلندا وكندا، وهو ما قد يدفع الآخرين إلى البحث عن مجال حركة مختلف، ودعم الطموح الفرنسي ـ الألماني القديم إلى استقلال دفاعي عن القوة الأمريكية، والتصرف مع روسيا والصين بما يخدم المصالح الأوروبية قبل غيرها، خصوصا أن حجم التبادل التجاري للصين مع أوروبا بات الأرجح، فطبقا لأحدث أرقام متاحة، بلغ حجم التبادل التجاري لأوروبا مع الصين 586 مليار دولار في عام 2020، بينما التبادل التجاري لأمريكا مع أوروبا كان 555 مليار دولار، مع ملاحظة أن الفائض في الميزان التجاري كان لصالح بكين، والعجز التجاري مع أوروبا كان من نصيب واشنطن، وقد تتحول الصفقة الأمريكية «أوكوس» مع بريطانيا وأستراليا إلى مجرد عمل تجاري، فليس متصورا أن تقدم واشنطن على حرب عسكرية فعلية مع الصين في المحيط الهادي، أو في بحر الصين الجنوبي، واستخدام أمريكا لغواصاتها النووية ضد الصين يعني نهاية العالم حرفيا، فلدى روسيا حليفة الصين غواصاتها النووية المتقدمة، ولدى الصين أيضا السلاح ذاته، وصواريخ غواصة نووية واحدة كفيلة بمحو الحياة على وجه الأرض، وليس بين المتصارعين من يريد دمار نفسه، فلا يبقى ـ إذن ـ سوى معنى الردع الضمني، وهو متوافر للصين في محيطها الحيوي، إضافة لسعي الصين إلى إقامة عالم مواز، تلمع فيه نجوم «منظمة شنغهاي» المتوسعة، وبنوكها العالمية البديلة، وخططها لاستبدال الدولار كعملة احتياط دولي، وكلها معارك تبدو الصين مؤهلة أكثر لها، بزحفها الحثيث عبر «الحزام» و»الطريق» إلى الشرق الأوسط، الذي تخليه أمريكا عسكريا، واحتواء إيران التي لا يبدو بايدن ناجحا في سعيه لإعادة الاتفاق النووي معها، ولا قادرا على التخلص بسهولة من ركام العقوبات التي تركها له ترامب، فوق انزياح أوهام ودعاوى السياسة المختلفة لبايدن في القضية الفلسطينية، فبايدن أكثر امتيازا من ترامب في الولاء العقائدي للصهيونية، ولا يتصور عاقل أن تتجدد أي مفاوضات فلسطينية إسرائيلية بضغط من بايدن، وكل الكلام المعاد المزاد عن «حل الدولتين» دخان في الهواء، وما من تغيير في القصة كلها، إلا بطريق المقاومة الفلسطينية الشعبية والمسلحة، فهي وحدها الكفيلة بكسر أنف بايدن «دوبلير» ترامب.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 38 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات وقضايا   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

11 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 11

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28