] العائدون إلى أفغانستان - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 28 آب (أغسطس) 2021

العائدون إلى أفغانستان

السبت 28 آب (أغسطس) 2021 par عبدالحليم قنديل

لم يكن ما جرى ويجري في أفغانستان مفاجئا لأحد، اللهم إلا للغافلين والذاهلين، الذين ينتظرون تدفق الأخبار الساخنة على الشاشات، فقبل نحو ستة شهور، وبالضبط في صباح السبت 8 مايو 2021، نشرت في هذا المكان مقالا بعنوان «وجعنا الأفغاني» قلت فيه بالنص «إن نصف أراضي أفغانستان تحت سيطرة حركة طالبان، التي تتأهب للزحف إلى المدن الكبرى مع انسحاب الأمريكيين، واقتلاع الحكومة الفاسدة الهشة الموالية للأمريكيين».
وختمت المقال وقتها بالنص أنه «مع توقع عودة الحروب الدينية إياها في أفغانستان، وعلو كعب حركة طالبان من جديد، وفهمها القبلي البدائي الصحراوي لعقيدة الإسلام، وإتاحتها لبيئة تفكير جاذبة لجماعات الإرهاب الوافدة، فلا نستبعد أن يعود وجعنا الأفغاني للنزف من جديد، وأن يتجدد إيقاع الحملات الأفغانية، وأن تتلقى الدعم القديم ذاته من المخابرات الأمريكية، وبهدف حرق أفغانستان ذاتيا، حتى لا تستفيد الصين المنافسة بامتيازاتها الجغرافية، وجعل أفغانستان مملكة ذهبية لجماعات التطرف المشوه للإسلام القاتل لمستقبل المسلمين».

وكانت الإشارة في صلب المقال ظاهرة إلى «جماعات إرهاب وتخلف همجي، تلقت دروس القتل وفنونه في جبال أفغانستان، ونشرت الدم والفوضى في كثير من الأقطار العربية، ولم تفكر أبدا في الذهاب لقتال مع كيان الاحتلال الإسرائيلي، وهو العدو الأقرب إلينا من حبل الوريد، بل كانت دائما عونا لإسرائيل بالقصد، أو بدونه، وقتلت من العرب والمسلمين أضعاف أضعاف ما قتلت إسرائيل، ولعبت أدوارا خفية وظاهرة في تدمير عدد من الأقطار العربية، وبدعوى طلب (خلافة) موهومة، لا تعدو كونها سبيا وخرافة وجهلا وقطعا للرؤوس، وقطعانا تتلاعب بها أجهزة مخابرات إقليمية ودولية، تلوث سيرة الثورات العربية المعاصرة، وتحولها إلى محارق وقبور وحروب دمار شامل، ونشر للتخلف الطائفي وتزوير للإسلام».
إلى هنا انتهى الاقتباس الطويل المرير القديم الجديد، ومن دون أن ينسى أحد دور نظم حكم عربية في صناعة الكارثة، التي بدأت ملامحها في التكاثر من أواخر سبعينيات القرن العشرين، كانت أفغانستان وقتها توالي دورات جحيمها، وتواجه غزو السوفييت دعما لحكومة الحزب الشيوعي في كابول، وكانت فصائل الشيوعيين الصينية والسوفييتية تتقاتل في ما بينها، ودخل «الجيش الرابع» الروسي لنصرة الموالين لموسكو، ووجدتها واشنطن فرصة لإلحاق هزيمة ماحقة بالاتحاد السوفييتي، تشبه هزيمة أمريكا قبلها في فيتنام على يد الثوار الشيوعيين، ولم يكن مستساغا لأمريكا أن تتدخل بوجهها الأصلي القبيح المنفّر للشعوب، واستعارت قناعا إسلاميا «جهاديا» جندت له أتباعها في المنطقة العربية بالذات، بدءا من ممالك الخليج، التي قدمت غطاء دينيا سلفيا وهابيا، ولعب نظام الرئيس السادات وقتها دوره المرسوم أمريكيا، فقد كانت أجهزة الإعلام المصرية الرسمية تصف السادات وقتها بأنه «الرئيس المؤمن» وزاد الإلحاح على الوصف مع انقلاب السادات على خط جمال عبد الناصر، بعد نهاية حرب أكتوبر 1973، واستعانة السادات بجماعات اليمين الديني، بهدف حصار التيار الناصري، إضافة لدعم أجهزة أمن السادات السخي لما كان يسمى بالجماعات الإسلامية، وإلهاء الناس باحتراب ديني وتطاحن طائفي، يكون تمويها مناسبا لتقدم إلى الصلح مع العدو الإسرائيلي، وعقد ما يسمى «معاهدة السلام» ووجد السادات في قصة «الجهاد الأفغاني» فرصته للخروج من حصار في الداخل، وتلقف أوامر ورغبات المخابرات الأمريكية بحماس، وفتح منابر الإعلام والمساجد لحشد وتعبئة الشباب «الإسلام» وتسفير قوافلهم إلى أفغانستان، واستضاف وفودا من قادة ما يسمى الجهاد الأفغاني في قريته «ميت أبو الكوم» وتعهد لهم علنا بفتح مخازن السلاح المصري لصالحهم، إلى غيرها من وقائع مسجلة بالصوت والصورة ومذاعة على العالمين.

ولم يعش السادات حتى يرى بأم عينيه نتائج ما صنعت يداه، فقد اغتالته الجماعات (الإسلامية) نفسها على منصة العرض العسكري في 6 أكتوبر 1981، ومن دون أن يشفع له قيامه بما هو أقرب لدور «المؤسس الثاني» لجماعة الإخوان، الذي لعبه بإخلاص، دعما لمصالح حكمه في ما تصور، ومات السادات، بينما كانت الظاهرة (الجهادية) إياها تنتفخ في أفغانستان، التي انتهت من الحرب ضد الغزو السوفييتي عام 1989، لتبدأ بعدها الحرب الضارية بين الجماعات «الإسلامية « الأفغانية، وعلى مدى سبع سنوات، بدا مع نهاياتها، أن السلطة في كابول آلت إلى ما كان يسمى «الجمعية الإسلامية» بزعامة برهان الدين رباني، وإن نازعته على السلطة جماعة الإخوان الأفغانية، التي حملت وتحمل لليوم اسم «الحزب الإسلامي» بزعامة قلب الدين حكمتيار، وإلى أن اقتلعتهما معا حركة «طالبان» الشابة المدعومة من المخابرات الباكستانية، واحتكرت السلطة لنفسها بعد حرب العامين (من 1994 إلى 1996) وأقامت إمارتها «الإسلامية» لمدة خمس سنوات بعدها، حتى الاحتلال الأمريكي، ومن دون إنجاز يذكر، اللهم إلا هدم تمثالين لبوذا في منطقة «باميان» وجعل أفغانستان مأوى آمنا لجماعات عرفت بالمجاهدين العرب، الذين فرّخوا عشرات من جماعات الإرهاب، حمل أغلبها إعلاميا صفة «العائدون من أفغانستان» راحت تعيث فسادا وقتلا وتخريبا في بلاد المسلمين والعرب، ومن دون توجيه طلقة رصاص واحدة لكيان الاحتلال الإسرائيلي. والخطر نفسه قد يتجدد الآن، ومع حلول مواسم العائدين إلى أفغانستان هذه المرة، وبصرف النظر عن قسم مغلظ يردده قادة «طالبان» الجدد، يعدون فيه بعدم إيواء جماعات إرهاب، وبانتظار الأفعال بعد الأقوال، فلا يصح لأحد أن يخلط بين شيئين متمايزين، الأول هو «الإرهاب» الذي لا يصح التسامح فيه، ولا إنكار أدوار النظم العربية نفسها في صناعة وتوليد مآسيه، قبل ظهور طالبان وبعده، والشيء الآخر الذي لا يصح الجدال فيه، هو حق الشعوب المطلق في مقاومة الاحتلال وهزيمته، ومن حق الشعب الأفغاني طبعا، أن يفخر بهزيمة احتلال أمريكي اتصل لعشرين سنة، وقد كانت أفغانستان على الدوام مقبرة للإمبراطوريات الغازية، من الإسكندر الأكبر إلى الإمبراطورية البريطانية فالسوفييتية حتى الاحتلال الأمريكي، ولم تكن أفغانستان ولا «طالبان» هما أول من هزم الأمريكيين، ولا هم «المجاهدون» الذين حظوا وحدهم اختصاصا برعاية السماء، فهذه تفسيرات اعتباطية مزاجية، لا تفسر هزيمة الأمريكيين الأفدح على يد الثوار الشيوعيين (الملحدين) في كوريا وفيتنام، وقد قتل ثوار فيتنام (الشيوعيون) 58 ألفا من القوات الأمريكية، بينما لم تقتل «طالبان» من الأمريكيين في عشرين سنة سوى نحو ألفين ونصف الألف، ويزيد الرقم إلى سبعة آلاف تقريبا، إذا أضفنا قتلى دول حلف «الناتو» والمتعاقدين المتعاونين، مع فارق ضراوة وثقل الاحتلال، وقد كان بمئات الآلاف من الجنود في فيتنام، بينما ظل يتناقص في أفغانستان إلى بضعة آلاف لا غير، وفي كل الأحوال، كان هناك الخونة المحليون، وكان هناك المقاومون، فهذه سنة الله في خلقه المتدافعين أبدا، ولا يصح لأحد أن ينكر على حركة طالبان دورها شبه الوحيد في مقاومة الاحتلال الأمريكي الأخير، وقد دفعت وحدها نحو 51 ألف شهيد، ومن منطلقات قبلية قومية دينية معا، ميزت التاريخ المحارب والجغرافيا الأفغانية المعقدة، التي لا تسمح لاحتلال بدوام آمن، ولا حتى لسلطة محلية مركزية باستقرار طويل، فاكثر أراضي أفغانستان تضاريس جبلية شديدة الوعورة، وسلسلة جبال «هندوكوش» تشق أراضي أفغانستان عرضيا بطول 1100 كيلومتر، وبارتفاعات تصل إلى نحو كيلومترين، وعلى صورة قوس ممتد من شمال شرق أفغانستان إلى جنوبها الغربي، وهو ما يجعل التجمعات السكانية في جزر منعزلة منفصلة، إضافة للتعدد الهائل في القبائل والأعراق، ففي أفغانستان أكثر من 14 عرقا وقومية لها 14 لغة، أكبرها عرقية (البشتون) متعددة القبائل، التي خرج منها أغلب حكام أفغانستان الحديثة إلى اليوم، من ملكية ظاهر شاه، إلى حكومات الاحتلال الأمريكي وحتى قادة «طالبان» ودائما ما كانت تدور حروب «البشتون» مع نصف أفغانستان الآخر في الشمال وبعض الوسط، وبالذات مع عرقيات «الطاجيك» و»الأوزبك» و»الهازارا» وكان المتحاربون جميعا يرفعون الرايات «الإسلامية» القبلية نفسها، ويقتلون بعضهم بعضا وسط صخب نداءات «الله أكبر» بينما الله جلّ جلاله ودينه الحنيف بريء مما فعلوا، ومما قد يفعلونه مجددا مع حكم «طالبان» الجديد، ومما قد يورثونه للشعب الأفغاني من مذلة وقهر وفقر وتخلف ومزارع أفيون، ومما قد يوردونه لعالمهم الإسلامي من جماعات قتل وإرهاب كافر.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 34 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات وقضايا   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 21

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28