] حرب على النيل - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 27 آذار (مارس) 2021

حرب على النيل

عبد الحليم قنديل
السبت 27 آذار (مارس) 2021

جفت الأقلام وطويت الصحف، ولم تعد من قيمة كبيرة ولا صغيرة لتكرار الكلام المعاد المزاد عن مفاوضات سد النهضة الإثيوبي، ولا عن وساطة رباعية دولية من الاتحاد الافريقي والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة، دعت إليها السودان ثم مصر، وكررت إثيوبيا رفضها مرارا، وعلى لسان آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي نفسه، وأصرت على رعاية الاتحاد الافريقي وحده، وهو لا يملك فرصة الفصل في نزاع مصر والسودان على النيل مع إثيوبيا، وفشل تماما في عام ولاية سيريل راما فوزا رئيس جنوب افريقيا، ولا يبدو دوره المحتمل أفضل، مع انتقال الولاية الدورية إلى فيليكس تشيسكيدي رئيس الكونغو الديمقراطية الأقرب سياسيا إلى مصر والسودان.
وما من معنى مضاف لتكرار التأكيد على تضرر مصر والسودان كارثيا من السد الإثيوبي، المقرر له احتجاز نحو 74 مليار متر مكعب من المياه عبر سنوات ملء خزانه، الذي تقول إثيوبيا إنه ضروري لتوليد الكهرباء، وبقيمة إجمالية تدور حول ستة آلاف ميغاوات سنويا، ثم تتحدث اليوم عن أوهام سيادة على النيل الأزرق، وعن حقها في التصرف بالمياه، مع أنها تفشل بالاستفادة من نحو ألف مليار متر مكعب مياه أمطار تسقط عليها سنويا، ومع أن نهر النيل أطول الأنهار الدولية، وتحكمه كغيره اتفاقات مياه أممية، ثم اتفاقات الأطراف المعنية نفسها، التي يحلو لأديس أبابا تسميتها بالاتفاقات الاستعمارية، رغم أن إثيوبيا لم تكن مستعمرة وقت توقيع الاتفاقات البينية، وأهمها اتفاق 1902، الذي وقعه مينليك الثاني امبراطور إثيوبيا، وكان الطرف الثاني سلطة الاحتلال البريطاني الحاكم لمصر والسودان وقتها، وجرى بالاتفاق اقتطاع مساحات من السودان، أهمها منطقة «بني شنقول» المقام عليها السد اليوم، وتقديمها هدية لامبراطور إثيوبيا مع أكداس من الذهب، في مقابل امتناع أثيوبيا عن إقامة أي سدود أو إعاقات على منابع النيل، وإعطاء مصر والسودان «حق الفيتو» على أي إنشاءات إثيوبية تعوق جريان النيل.
ثم جرت في النهر والسياسة مياه كثيرة، ورحل الاحتلال البريطاني، وجاء الاستعمار الأمريكي الجديد، ليرث امبراطوريته، وحرصت السياسة الأمريكية المعادية لعصر جمال عبد الناصر على خنق مصر نيليا، وحرّضت إثيوبيا على إقامة سد عند المنابع عام 1958، وهو ما لم يتم بسبب صلابة عبد الناصر، ومكانة مصر العظمى وقتها في سيرة الكفاح الافريقي، واستمر التأثير الحاكم للموقف المصري بالقصور الذاتي، عبر عقود بعد رحيل عبد الناصر، إلى أن كادت مصر تفقد تأثيرها الافريقي تماما، وبالذات بعد محاولة اغتيال الرئيس الأسبق المخلوع حسنى مبارك في أديس أبابا، أواسط تسعينيات القرن العشرين، دبرت المحاولة جماعة عمر البشير الرئيس السوداني المخلوع أخيرا، ووجدتها إثيوبيا فرصة لابتزاز واستتباع حكم البشير المحاصر، واستولت فعليا على مناطق «الفشقة» الخصبة داخل حدود السودان، وأطاحت بنصوص اتفاق 1902 لترسيم الحدود، ثم استثمرت عزلة مبارك افريقيا، وتزعمت عملية تحريض دول منابع حوض النيل، وعقد «اتفاق عنتيبي» عام 2010، الذي يلغي الاعتراف بالحقوق التاريخية المقررة، وهو ما رفضت مصر والسودان التوقيع عليه، وكان الاتفاق المذكور توطئة لإقامة السد الإثيوبي، الذي تعددت تسمياته من سد الحدود، إلى سد الألفية إلى سد النهضة، وزادت طاقة تخزينه المقررة مرات، ومن دون أن تكون ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، كما يشاع هي السبب، فقد بدأ الخلل في زمن مبارك الراكد، وإذا كان حجر أساس السد وضع في أوائل 2011، فلم يبدأ البناء فعليا، إلا في عام 2013 وقت حكم الرئيس الإخواني محمد مرسي، ولم تصادق إثيوبيا برلمانيا على «اتفاق عنتيبي» إلا في أوائل عام 2013، مع ردود أفعال كاريكاتيرية من سلطة الحكم المصري وقتها، أشهرها عبث اجتماع تهديد هزلي مذاع على الهواء مباشرة، استغلته إثيوبيا لمزيد من الترويج لما سمته عجرفة وعدائية المصريين

لم يعد وقت لعتاب ولا لحساب في سلوك ومراحل التفاوض العبثي، وأصبح وجود مصر أمانة في رقبة جيشها وقيادته العليا

ومع زوال حكم الإخوان بثورة 30 يونيو/حزيران 2013 وما تبعها، ومخاضات التحول العنيفة في مصر، ذهبت القاهرة للتوقيع على «إعلان مبادئ» في مارس/آذار 2015، لا يعترض من حيث المبدأ على إقامة السد الإثيوبي، ويدعو لمفاوضات مصرية سودانية إثيوبية حول مراحل ملء وتشغيل وإدارة السد، وباتفاق قانوني ملزم، يضمن عدم الإضرار البالغ بمصالح مصر والسودان المائية، ويتيح للأطراف الثلاثة حق طلب الوساطة على طريقة وساطة أمريكا في زمن دونالد ترامب، التي انتهت إلى اتفاق وقعت عليه مصر وحدها في أواخر مارس 2020، بينما انسحبت إثيوبيا، وامتنعت السودان وقتها عن التوقيع، ثم جرى استئناف جولات تفاوض متقطعة برعاية الاتحاد الافريقي، بعد أن خرقت إثيوبيا قواعد إعلان المبادئ، وشرعت في الملء الأول لخزان السد، ومن دون اتفاق الأطراف المعنية، وهو ما أدى لعواقب فادحة على السودان بالذات، دفعت الخرطوم إلى تنسيق موقفها مع مصر، والتصميم على عدم السماح بالملء الثاني من دون اتفاق، وهو الملء المقرر إثيوبياً خلال موسم الأمطار في يوليو/تموز 2021، أي في الموعد نفسه، الذي جرى فيه الملء الأول أواسط 2020، ورغم اعتراض القاهرة والخرطوم، تبدو أديس أبابا مصممة على الملء الثاني في موعده، باتفاق أو بدون اتفاق، وهو ما يزيد كمية المياه المحتجزة خلف السد الإثيوبي إلى 18 مليار متر مكعب، وبما يهدد حياة نصف الشعب السوداني، ويؤثر بشدة في تدفقات مياه النيل إلى مصر، والأخيرة هي الأكثر اعتمادا على مياه النيل، وبنسبة تزيد على تسعين في المئة من إجمالي مواردها المائية، وقد نزلت مصر إلى ما تحت خط الفقر المائي من ثلاثة عقود مضت، أي منذ كان عدد سكانها عند 55 مليونا ونصف المليون، فنصيب مصر المقرر من مياه النيل يبلغ 55.5 مليار متر مكعب سنويا، وخط الكفاف المائي دوليا عند حدود ألف متر مكعب للفرد الواحد سنويا، وعدد سكان مصر اليوم يمضى إلى الضعف، ويقترب من حاجز المئة مليون والعشرة ملايين فوقها، وهو ما يعني بلوغ مشكلة المياه في مصر حدود اختناق حرجة، لا تحتمل أذى مضافا يأتيها من التعنت الإثيوبي.
المراد إذن ظاهر بغير التباس، وهو وضع رقبة مصر والمصريين تحت حد السكين، وقد تختلف أو تتفق مع الحكم الحالي، لكن مصريا وطنيا واحدا، لا يقبل تعطيش مصر، ولا انتقاص قطرة واحدة من مياه النيل، فالقضية أكبر من كونها مسألة أمن قومي، إنها قضية وجود بالمعنى الكامل للكلمة، قضية حياة أو موت، وقد جرّبت مصر الرسمية كل وسائل الاتفاق بالحسنى، وأوضحت للمجتمع الدولي مخاطر ما يجري، وبح صوتها وهي تشرح وتنبه وتحذر، ولم يعد لديها سوى سبيل آخر، ربما يفسره تصاعد مطرد للهجة المصرية الرسمية في الأسابيع الأخيرة، وظهور مصطلحات دبلوماسية جديدة من نوع «لن نقبل بفرض الأمر الواقع» في إشارة مباشرة إلى عدوانية السلوك الإثيوبي، ومن نوع إعلان الرئيس السيسي نفسه أنه «لا تفاوض بلا نهاية» وهو ما قد يعني أننا نقترب من حافة الهاوية، وأن الحرب التي لم تكن تريدها مصر، قد تفرض عليها، مع استكمال محسوس وضمني لاستعداد سياسي وحربي، جرى تحصينه باتفاق مصري سوداني كامل، وبوضع «خط أحمر» جديد عند منابع النيل، فقد كان بوسع مصر دائما أن تضرب السد المشؤوم، وكانت تعرف دائما من وراء التعنت الإثيوبي، وتدير تحركا ذكيا في الكواليس، وتعدد بدائلها الميدانية اللازمة في لحظة الحسم، وتدرك مدى هشاشة التكوين الإثيوبي، وتعرف كل شاردة وواردة في إثيوبيا المفككة المتحاربة عرقيا، وإلى أن بدأ العد التنازلي في القصة كلها، واقتربت ساعة الصفر، فليس عند المصريين أغلى ولا أعز من النيل، وطوال تاريخ مصر الألفي الممتد، لم تدم شرعية بقاء لحاكم يفرط في مياه النيل، ولم يفعلها أحد وراح سليما منذ عهود الفراعنة، ولا يملك أحد ترف ونزق فعلها، إلى أن يرث الله الأرض، ولم يعد من وقت لعتاب ولا لحساب في سلوك ومراحل التفاوض العبثي، وأصبح وجود مصر اليوم أمانة في رقبة جيشها وقيادته العليا، بعد أن جرى استنفاد كل سبل الدبلوماسية والسياسة، وانتهينا إلى إعلان حرب خنق مصر من الباب الإثيوبي، ولم يعد لمصر سوى أن تردّ العدوان وتردعه، وأن تكتب مشهد الختام في حرب النيل، إلا إذا تراجعت إثيوبيا فجأة، وقررت تأخير الملء الثاني لحين التوصل إلى اتفاق ملزم وشامل، تقبل به الخرطوم والقاهرة.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات وقضايا   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 21

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28