] في محاولة استكشاف تجربة حزب الله السياسة - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الأربعاء 17 شباط (فبراير) 2021

في محاولة استكشاف تجربة حزب الله السياسة

بقلم: بلال ناصر
الأربعاء 17 شباط (فبراير) 2021

حيث إنّ السياسة ليست مثالاً نبتغيه، إنّما هي حركة فعل في زمان ومكان، وانتقال من واقع قائم بما هو لعطفه والترقّي به، وهي الكيف أي البحث في الوسيلة، وهي الأولويات في ظلّ تزاحم غير مشهود، وهي ليست فعلاً معزولاً، وهي قبل كلّ ذلك قرار ضمني عند الفاعل لإبقاء أيّ وضع على ما هو عليه، أو إصلاحه، أو ربما تغييره جذرياً، وهي في نهاية المطاف تقدير مشتقّ عند كلّ فاعل من رؤيته ونظرته وتقديراته النابعة من مفاهيمه ومبانيه وتصوّراته. إنّ هذه النظرات إلى معنى السياسة تتكثّف وتتزاحم في مقاربة منطقتنا، وبشكل كبير جداً في لبنان، البلد الذي يواجه أزمة نظام، أو ربّما موته، ويعيش نوعاً من عدم تطابق بين المجتمع كأصل والنظام السياسي كتجلٍّ وتعبير، ويُلحظ أنّ مفهوم الدولة القومية لا يزال مفهوماً متنازعاً عليه فكرياً ومنقوصاً عملياً. بلد يعيش تكثّراً في الانتماءات ودرجة هائلة من التدخّل الخارجي الغربي.

وهنا، يزداد أمر السياسة تعقيداً حيث تغيب رؤية موحّدة لما يُصطلح عليه بـ«الأمن القومي» بين الفواعل حول المصالح، وكيفية تحديدها، والتهديدات وكيفية مواجهتها والدور ومحدّداته وأي صناعة مرجوّة له، فلم تغِب إلى الآن مقولات - رغم عقمها وانكفائها - مثل «قوّة لبنان في ضعفه» تماشياً مع نظرية «قوّة الضعف»، فتلبس كلّ يوم لبوساً معيّناً. وهو ما أجهضته التجربة العملية مع تلاقي كتلة راجحة من الشعب اللبناني على أبواب مئويته الأولى، فشقّت على عقدين أو أكثر طريقاً آخر تتقوّى حجّته والحاجة إليه، رغم بعض النقد.
فهل يمكن القول إنّ حزب الله اللبناني يمتاز بمدرسة سياسية فريدة، كما هو حال مدرسته العسكرية، خصوصاً بعد ما شهدته المنطقة، ولبنان، من تحوّلات وأطوار جديدة؟
وحيث إنّ البحث في موضوع كهذا يبدو أمراً معقّداً نسبياً، ويحتاج إلى دراسات وأطاريح علمية، إلّا أنّ ذلك لا يمنع من طرق بابه والإطلالة عليه، ونحن لا ندّعي أنّا سنجيب عن كلّ ما يخطر ببال سائل أو مراقب لجهة شمول المقاربة، خصوصاً أنّنا سنقارب الموضوع بمنهج الاستنتاج والتأمّل، وقد نوّفق لاحقاً في مقاربته بمنهج الاستقراء العلمي. لكن علّ هذه المحاولة تُشكّل مدخلاً للتوسّع والإحاطة لاحقاً والتعرّف إلى النموذج السياسي لتجربة حزب الله كأحد أبرز الفواعل الإقليميين والمحلّيين اليوم، وإذا ما كان هذا الحزب يمتلك بالفعل فرادة في مدرسته السياسية لا تقلّ تميّزاً عن مدرسته العسكرية الاستراتيجية، فسايرت الأولى الثانية وأحاطت إنجازاتها واتّحدت معها وكانت عينها الثاقبة، وهو ما أؤمن به بقوّة.
لذلك، سنكون أمام مستويات عدّة من النقاش:
- الأوّل، نظري يرتبط بالبحث في معالم النظرية السياسية لحزب الله ومحدّداتها العامّة، لأنّ فهم المنطلقات الفكرية والقيمية والبنائية ينعكس ويحكم فعله الاجتماعي الجهادي - السياسي والعسكري.
- الثاني، نستعرض فيه جانباً من أدائه ببرقيات سريعة وتقييمها بلحاظ آثارها ونواتجها الوطنية.
- الثالث، استشرافي يرتبط بدور حزب الله المتوقّع للمرحلة المقبلة داخلياً، على أثر المسارات والتغيّرات التي بات عليها لبنان والمنطقة والعالم.

في معالم النظرية السياسية
يُفترض لفهم حزب الله في شؤونه وقراراته، معرفة وفهم الهوية الدينية التي ينتمي إليها ويعتقد بها، فهو حزب إسلامي ينتمي إلى مدرسة محدّدة تُعرّف نفسها بمسمّى الإسلام المحمّدي الأصيل، الذي يُعتبر الركيزة الأبرز لفهمه ولتمايز نموذجه الإسلامي. وقد تمّ صكّ المصطلح قبالة الإسلام الأميركي، الذي برز مطلع الربع الأخير من القرن الماضي، والذي يعدّ أكبر تشويه لحقيقة الإسلام وماهيّته، وهو أحد أكبر مظاهر الخطر على الأمّة وأحرار العالم بحسب فهم حزب الله. وبالتالي، فإنّ هذا المبدأ حاكم على عمله أي أنّ هويته لا تتقوّم دونما التمايز والتمييز بين الإسلام الأصيل، وذاك الأميركي حالياً - الغرب سابقاً.
والركيزة الثانية، هي أنّ الإسلام الذي ينتمي إليه حزب الله تقوم نظريّته على السير الفكري والشرعي لتحديد «الباطل» أوّلاً في كلّ زمان ومكان بدقّة ووضوح ومسؤولية! إذ لا يمكن أن تكون هناك قضية مظلوم أو حق، من دون أن تعيق ظالماً وباطلاً. لذلك، بعد تحديد الباطل ونموذجه يجب مجاهدته ومدافعته كأصل ومسؤولية شرعية وأخلاقية وإنسانية ووطنية وفلسفة حياة. وفي تحديده للباطل في هذا الزمان، لم تتغيّر رؤية حزب الله أنّ ظالم هذا الزمان أو باطله وفق القرائن والأدلّة العلمية والعملية والاستقراء الإنساني والتاريخي والاجتماعي والسياسي والمسؤولية الإنسانية والأخروية، متشخّص في الولايات المتّحدة الأميركية كنظام حكم ونموذج، وبالصهيونية كحالة ارتباط عضوي وانسلالي وكمركز وبؤرة تشابك السياسات الاستكبارية لمختلف المؤثّرين العالميين على البنية.
الركيزة الثالثة تنبثق من الركيزتين الأوليين، وتستتبع العمل بمقاربة سياسية واجتماعية تؤمن بأهمية العمل لتأسيس جبهة المستضعفين. إنّ فكرة الإسلام الأميركي تستتبع منهجاً عملياً، قوامه أنّ الباطل المتمثّل في أميركا والصهيونية، هو عبارة عن نقطة ارتكاز لجبهة سياسية وقيمية تقودها الولايات المتّحدة الأميركية اليوم، وبالتالي، فإنّ المواجهة تتطلّب النظرة الشمولية والمتعدّدة الأبعاد والطبقات ربطاً بطبيعة هذا الظالم وخصائصه الفريدة. فالولايات المتحدة هي الوريث لمختلف تجارب الظلم والاستثمار وتجاربه على امتداد قرون، ما يتطلّب دوام السعي لتشكيل جبهة المستضعفين، وبنائها بجدّ وأناة وجلد وتصميم من خلال بناء النموذج والوعي والخطاب.

هل يمكن القول إنّ حزب الله اللبناني يمتاز بمدرسة سياسيّة فريدة، كما هي حال مدرسته العسكريّة؟

بحسب نظريته، فإنّ التصدّي لجبهة الاستكبار هو معبر مساعد لتعارف (أكثر من تعرّف) جبهة المستضعفين والمعذّبين والمقهورين وإدراك كينونتها، وهي عبارة عن أرضية تلاقٍ متينة في سياق بناء الحضارة الإنسانية... فبها يستعيدون ثقتهم بذواتهم ويبدأ المستضعفون التأسيس لهويةٍ من خارج نسق المستكبر وتفضيلاته وتقييداته، وهذا شرط لازم على امتداد الطريق - وهو ما جهد حزب الله لمحاكاته والسعي على ضوئه، وتحديد موقعه في عملية بناء هذه الخريطة وآفاقها.

وبالنظر إلى أنّ حزب الله ينتمي إلى المدرسة الحسنية - الحسينية، فهو يحمل قدرة وخصائص فريدة مستقاة من هذين النموذجين، وإن النهضة الحسينية تتقدّم فيها خاصية الاستجابة لأيّ تحدٍّ بمواجهة الظالم وقضية الأمل مهما تعقدّت الظروف وصعبت، وتوسّع الخيارات مهما زادت الضغوط إلى أكبر مدى وقضية الدم المظلوم الذي يقوى على سيف المستكبر، مهما امتلك من عناصر قوة مادية والإيمان بالناس والمجتمع كون أي تغيير وإصلاح حضاري يحتاج إلى ويرتبط بالمجتمع وليس بمقاربة عسكرية أحادية، مع ما ينبثق عنه - لهذا الفهم - من تجنّبٍ لأيّ مسار يؤدّي إلى تقسيم المجتمع خلال عملية الإصلاح والنهوض. كلّ هذه العناوين والمزايا مستقاة من النهضة الحسينية التي تشكّل منبع فكره الثوري والإصلاحي والنهضوي وضالّته، كونها بالنسبة إليه وفي أدبيّاته «نهضة معصومة»! وبالتالي، ما ألفيناه يُعتبر موجّهاً لتفكيره وسلوكه ومحفّزاً له. لذلك، ستراه يواجه الصعوبات الكبرى بأمل ويهندِس بتصميم للرؤية، دونما انفعال ويصنع المستقبل البعيد بثقة وعزم، ويصبر كون الأهداف التي ينتمي إليها ليست بالضرورة ممّا يلزم تحقّقه في جيل بعينه، إنّما هي مسار قد يتحقّق مع الأجيال الآتية. وهذا يعطيه هامشاً كبيراً من المرونة والمناورة وعدم التعجّل أو الانفعال.
الركيزة الجهادية كمنهج، إذ يعتبر حزب الله في إدراكاته أنّ أيّ عملية تغيير في هذا العالم - الذي يتشابه إلى حدّ كبير جداً في ظروفه وملابساته وتحدّياته مع الظرف الحسيني - لاستنهاض المستضعفين لا تتمّ واقعاً دونما مقاربة جهادية مقاوِمة تعيد بناء الوعي وتأسيسه عند المستضعفين الذين ما زالت شرائح عريضة منهم أسيرة السطوة والهيمنة المباشرة وغير المباشرة للغرب، بقيادة الولايات المتّحدة وربيبتها إسرائيل. فالجهاد والمقاومة كمنهج هو بوابة قسرية للتغيير في العالم، وكلّ المناهج الأخرى رغم أهمّيتها وضرورتها إلّا أنّها تبدو مساعدة برأيه... أمّا حدود هذا الجهاد والمسؤولية حيال المستضعفين، فهو أمر يتوقّف على ربطٍ دقيق بين القدرة من جهة، والحفاظ على تماسك مجتمعات الشعوب المستضعفة ووحدتها من جهة أخرى، وعوامل عديدة لا يتّسع لها البحث. فعملية التحوّل هذه واليقظة المطلوبة من الباب الجهادي، لا يُفترض أن تنحرف أو تصطدم بتماسك المجتمع ووحدته التي هي مبدأ لكلّ مشروع نهضوي وثوري هادف وأساس، أي رؤية إنسانية شاملة، إذ لا يمكن النهوض من حيث التفتيت والفوضى وغياب الأمن وانقسام المجتمع. لذلك، فإنّ النهضة التي يتطلّع إليها يجب أن تُجافي أيّ أمر قد يؤدّي في الناتج النهائي إلى تمزيق المجتمع، لأنّ هذا هو هدف الظالم ومنيته في كلّ حين. ورغم ما يبدو في هذه النقطة من صعوبة، إلّا أنّ بعض خصائص حزب الله تبدو مساعدة، فهو لا يرتجي من عمله نتيجة مادية ولا انتصارات مرتبطة بمكسب هنا أو سلطان هناك. فالذي يتطلّع إلى غاية الاستنهاض يختلف عمّن يتطلّع إلى حجز موقع سياسي مباشر في بنية سياسية أو نظام. وكأنّ حزب الله، من خلال ذلك، يعيد تعريف الدور من النشاط والعمل السياسي وفهمه من خارج سلّة المفاهيم والمباني القائمة، ويظنّ أنّ هذا الفهم جزء لا يتجزّأ من عملية إحداث اليقظة والتحوّل.

لكنّ واقع وجود الكيان الصهيوني، بما يعبّر عنه ويمثّله ويرمز إليه كربيب لاستكبار الحكومات الغربية، يمكن اعتباره أهمّ فرصة ومسؤولية تاريخية يرى حزب الله إمكانية مساهمة فعلية للاضطلاع بها والنهوض إزاءها. فعند هذا الكيان تتلاقى مصالح ثلاث: حفظ الوطن لبنان، وتعزّز شرعيته وخصائص تنوّعه وسيادته ومساندة الأمة وشعوبها ونصرة المستضعفين والمضطهدين وجبهتهم في العالم. لذلك بقدر ما يرى البعض أنّ جغرافيا لبنان هي لعنة في ظل الاشتباك الدولي والإقليمي القائم على دوره وموقعه، فإنّ حزب الله يراه هدية وفرصة تاريخية لصناعة النموذج من مدخل مقارعة الكيان الصهيوني والانتصار عليه بما تعنيه هذه الكلمة من أبعاد، وتؤشّر لها من دلالات حضارية وفكرية وتحرّرية.

والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو كيف يمكن تأمين استمرار الفعل «الجهادي» المقاوم عملياً، وليس تنظيرياً وإرادَوياً؟ تأتي الإجابة الفورية، وبحسب القرائن والتتبّع، من عقلية المستكبر وسلوكه، إذ أنّ المستكبر بعقله القلق والمتوجّس من المستضعف الواعي الثائر دائماً يترك للمستضعف الذريعة العملية قائمة. فإذا كانت مبرّرات وشرعية فعل المستضعف لا ترتبط بالذريعة، إنّما هي أعمق وأبعد كما هو متفّق في كلّ الشرائع والمواثيق، لكنّ اللافت أنّ المستكبر دائماً ما يوّفر بقلقه وضعف مشروعيّته الذريعة.

كذلك، هو يؤمن أنّ الصدق منجاة في كلّ شيء، لا سيّما في الأداء السياسي الذي هو أرفع الأعمال وأعظمها، وتقوم فلسفة عمله السياسي على أنّ من تعدّى الحق ضاق مذهبه. لذلك، رغم أنّ فكرة تلازم السياسة مع الصدق لا تزال أحجية لا يقبل بها الكثيرون، إذ يصرّون على أنّ السياسة لا يمكن أن تُبنى إلّا على المراوغة والاحتيال، نرى حزب الله يصرّ على هذا المعنى ويعتقد به. وربّما هذه نقطة قوّة غير منظورة عند حزب الله، أي الصدق في مقولته السياسية والتزام ما يعلن عنه حتّى لو طال الوقت في تحقيقه وصعبت الشقّة لبلوغه. وتأتي قوّة ذلك من كون غالبية خصومه وأعدائه يفترضون أنّه لا يقول الحقيقة، انطلاقاً من بنيتهم المعرفية والقيمية وفهمهم للسياسة، فالذات هنا ليست منفصلة عن الموضوع.

في الرؤية للبنان وتقييم سياساته:
لبنان ليس بلداً عادياً أو أرض عبور أو مستودعاً في إدراك ووعي حزب الله وبيئته، إنّما هو بلد ووطن استقرّ فيه الآباء والأجداد وقدّموا فيه، وعلى ترابه، الغالي النفيس في مواجهة المستعمرين، وترعرعت فيه أحلامهم وأمانيهم بعد تاريخ طويل من الاضطهاد والتهميش والاختزال. هو منطلق انتصارات وعنوان «يقظة» عميقة ومحطّ تلبية نداء الشهداء من أعماق التاريخ، يتطلّعون من خلاله إلى إسهام إنساني عابر حرصوا على بناء أركانه ونموذجه بعزيمة وحكمة وأناة وصبر. هو الوطن الممتلئ بعناصر قوّة هائلة من وجهة نظرهم رغم التصدّعات التي تعتريه والأزمات المتناسلة التي تعترضه، وهو الوطن الأقدر في الواقع العربي على تقديم نموذج إنساني وقيميّ خاص بعيداً عن حالات الاستلاب والتقليد الأعمى في قبالة غالبية ساحقة من نماذج عربية، لا يختلف رأيان أنّها أرجعت الأمّة خطوة إلى الخلف بدل أن تتقدّم بها خطوات إلى الأمام.

ليس لبنان تفصيلاً كما يحاول البعض أن يتقوّل على حزب الله، خصوصاً إذا علمنا أنّه الأرضية والركيزة الوحيدة التي لا غنى عنها التي ينطلق منها لبناء تجربة ونموذج يقدّمه، فضلاً عن كونه الأرض التي لا بديل له عنها ولا محيص في عالم اليوم، مهما بلغت التحدّيات وكانت الصعوبات. هو ينطلق من كونه نجح بالمراكمة على ما أسّسه السيد موسى الصدر وغيره من علماء لبنان، بأن يأخذ الطائفة إلى القضية فأصبح الشيعة ركيزة المقاومة حمّالة رايتها والمتماهين معها. وهذا تحوّل كبير ونوعي ونموذج يُحتذى لمن أراد، حيث تخرج الطائفة من انغلاقها إلى القضية أي إلى الأرحب!

بالنسبة إليه، إنّ المنطقة والعالم دخلا مرحلة جديدة، أصبح فيها للمنطق الآخر - غير الغربي - مكانه وخطابه، والذي كان لتجربة المقاومة إسهامها العميق في صنعه وتعزيزه، وهو ما يُفترض استمرار السير عليه إلى حين التحرّر الكامل لهذه المنطقة من مثالب النظام العالمي الذي فرضه الغرب والشرق ذات يوم على الشعوب رعاية لمصالحهما وتقاسم نفوذهما. وقد كان للبنان الوطن دور مركزي في إحداث هذا التحوّل والتغيير في توازنات القوّة في المنطقة، منذ اللحظة التي برز فيها إدراك مختلف لحقيقة وقوّة وإمكانيات هذا الوطن ودوره عند قسم راجح من أبنائه.

يُفترض لفهم حزب الله في شؤونه وقراراته معرفة وفهم الهويّة الدينيّة التي ينتمي إليها ويعتقد بها

وإذا كان لا يغيب عنه أنّ المشكلة اللبنانية بدأت مع السيادة المنقوصة التي تأسّس عليها لبنان الكبير كحصة تقاسمتها القوى الكبرى بين سايكس وبيكو، واستمرار عملية انتداب معلنة ومبطّنة عاشها لبنان حتّى لحظة خروج سوريا منه، بتواطؤ دولي، فارتضته غالبية أهل السياسة معبراً للقوى الدولية ومطرحاً لطموحاتها على السواء يؤدّي دوراً وظيفياً فيكون للكل سهم فيه، فتعمّقت فيه هواجس شتّى وتمّ استغلالها فاستحالت في مرحلة من عمره إلى حالة أشبه ما تكون إلى نوع من «الهروب والنزوع لنكران الذات»، بدل أن يُصار لمواجهتها بجرأة ووضع مسارات بثبات. ونتج عن ذلك أنّ كلّ المقاربات التي عاشت عقلية الاختزال وما عُرف بزمن الطائفة الفلانية والطائفة المهيمنة قد فشلت، وأنّ لحظة الطائف التي من المفترض أنّها جاءت لتؤسّس لمرحلة جديدة فإذا بها عمّقت الهواجس وزادت درجة الاضطراب الاجتماعي والشقّة وأصبحت تسوية يتم العمل بها بانتقائية واستنسابية تقاسماً لمصالح محلّية وإقليمية وبغطاء مصالح دولي ظرفي لا يهتمّ بالمجتمعات.
ورغم أهمية استقراء التاريخ الحديث والقريب، وما قاساه حزب الله وبيئته منه، إلّا أنّه لا يرغب في أن يستغرق في سلبياته بقدر ما يرغب في فهمها والاعتبار منها من أجل العمل على تكييف ما يمكن منها مع التحوّلات لتقويمها وإيجاد صيغة أكثر قدرة على التماشي والتكيّف مع تحدّيات الزمان وخصائصه وقابلية لاحترام هذا الإنسان «الفرد» المتمّيز. بالنسبة إلى حزب الله، فإنّ المطلوب لذلك دائماً هو «الإصلاح وليس الهدم»، وتبديد الهواجس لا صناعتها فكلٌّ من المكوّنات اللبنانية له خاصية وقيمة يمكن أن يضفيها على هذا الاجتماع إذا نظر بعين تنطلق من لبنان نحو الأفق لا العكس.
هذه بعض الخطوط العامة في نظرة حزب الله كما بيّن في وثيقته السياسية الأخيرة لعام 2009، والتي تحتاج إلى بعض التطوير والتفصيل ربطاً بالتحوّلات الكبرى والمستجدّات. لكنّ السؤال الذي يطرح نفسه هو «إذا كان لحزب الله هذه الرؤية الواضحة للساحة اللبنانية، فلماذا لم يعاجل للانخراط في الساحة الداخلية وطرح رؤيته والاجتهاد لتحقيقها، خلال الفترة الماضية، بما يتناسب مع قوّة تأثيره الإقليمية؟». وهل سيُبقي على هذه المقاربة أم أنّ هناك تعديلاً أو تطويراً مرتقباً في إدراكاته ونظرته، وصولاً إلى ممارسته ربطاً بالمستجدّات والتحدّيات والتحوّلات التي برزت.

ربّما تأخّر انخراط حزب الله «العميق» داخلياً في الساحة اللبنانية بمختلف أبعادها، بمجموعة عوامل وظروف وتصوّرات تبنّاها. كان أوّلها أخذه بأولوية التركيز وعدم التشتّت في المطالب، لا سيّما الاستراتيجية في ظلّ عدد لا متناهٍ من التحدّيات الخارجية والداخلية المتداخلة والمتوائمة، والقاعدة الذهبية تقول «من أومأ إلى متفاوت خذلته الحيل».

وفقاً لنظرة معينة آثر حزب الله عدم الانخراط في الواقع اللبناني - ما بعد الطائف - إذ أنّ انخراطه حينها كان سيعني تشويهاً لنقاء المقاومة - في زواريب السلطة والمحسوبيات وتقاسمات الحصص - وغايتها وصفاء منطلقاتها وتشويشاً للمقاومين والمؤيّدين فاحتاج إلى تمايز واضح عن السلطة كمفهوم ملتبس وتجربة مستلبة حينها، وهذا كان أمراً ضرورياً، وربّما أراد أن يربأ بنفسه أن يكون في موقع المنافس للقيمين التقليديين على الواقع اللبناني من قوى إقليمية ودولية وبالتالي النظر إليه بموقع المُقاسم أو المقتسم للغنائم وهذا سيولّد سلبيات كبيرة وخطيرة ناهيك عمّا يمكن أن يؤدّي إليه من تنافسات حادّة في بيئة لبنانية حزبية وطوائفية خارجة للتوّ من الحرب الأهلية وتعتليها الهواجس والمخاوف فيما العدو والتركيز على مواجهته يجب أن يبقى القضية والعنوان الأوّلي بل والوحيد، لا بل ذهب حزب الله أبعد من ذلك فتجنّب الداخل خشية أن تتأثّر حريّة قراره المقاوم بإحراجات أو مساومات الداخل حينها ما حتّم عليه الابتعاد عن أي شيء من اهتمامات الآخرين ومحلّ منافستهم، بل وتصبّر على الأذى الذي لم يفارقه لا سيّما في المنعطفات كالحال الذي شهده الإقليم عندما تحضّرت المنطقة لمشروع السلام ومقدماته لتطويع قوى المقاومة بأدوات داخلية! وقرارات خارجية.

ناهيك عن ذلك كلّه، فإنّ المصلحة كانت تقتضي أن يصفّر العداوات إلّا مع الكيان الصهيوني وراعيته الولايات المتّحدة، ويخفّف من الهواجس بل ويطمئن ما أمكن، خصوصاً أنّه مولود وفق تجربة إسلامية جديدة وخاصة، وبالتالي كان واضحاً له ما قد تثيره تجربته من مخاوف عند دول وقوى عديدة في عالمنا العربي والإسلامي، وآخرين مثلهم في الداخل خصوصاً إذا ما قورنت حركته بتعجّل بنماذج لحركات سابقة.

لم تفتأ مقاربة حزب الله تصرّ على أنّ الصراع مع إسرائيل وأولويته قد تُساعد داخلياً على الجمع وإيجاد مشتركات، فإشكالية لبنان كانت في النفوس قبل النصوص. بالنسبة إليه، إنّ مشروعية هذا الصراع عابرة وماهيّته وطنية وإنسانية وتحوي في ما تحوي تراكماً لذاكرة حيّة في الأمّة بمواجهة هذا العدو، وإنّ الحق الفلسطيني وما يرتبط به من قضية لاجئين ورفض التوطين وغيرها من القضايا التي كانت في صلب مشكلة المسألة اللبنانية تاريخياً، هي أكبر قضية لإيجاد مشتركات وتوحيد الجهود وتخفيف التناقضات التي كانت تعتري بيئة لبنان الداخلية.

هذا فضلاً عن أنّ هذا الصراع هو قيمي وسياسي وفكري وليس عسكرياً فحسب، وبالتالي إنّ السير فيه سيحفّز الوعي الإنساني واللبناني والإسلامي، وتكون نواتجه عميمة على الجميع حتّى لو كان هناك بعض التكلفة التي لا يُرى بدّاً من تحملها في بيئة المقاومة الحاضرة لذلك طوعاً بغالبيتها الساحقة.

فبداية الطريق تحتّم مواجهة العدو المتربّص والطامع والمحتل والمنتهك. أولى النتائج المترتبة هي أنّ تحقيق التحرير الخارجي سيساعد عى السير بالتحرير الداخلي، فضلاً عن دوره في تحرير النفوس وإيجاد الاستعداد لذلك واكتشاف مكامن القوة الكامنة.

وليس آخراً أنّ لبنان ما بعد الطائف، شكّل عملياً تقاطعاً ظرفياً ومصلحياً للأميركي - السعودي مع السوري، وما يمكن استغلاله على هذا الصعيد من تناقضات لعبة الأمم ومصالحها التي تتيح في مكان ما فرصة جدّية لتقوية مسار المقاومة الوطنية الأهداف واللبنانية الانتماء وتطوير الثقة بها، في مقابل لعبة الانغماس الخطيرة في مصالح موزّعة بين القوى الراعية والداخلية عبر علاقة تخادم معقّدة بين الداخل والخارج.

ويبقى السؤال: هل لعبة التواطؤ المرعبة بين قوى الداخل ورعاتها الخارجيين كانت تخطّط لإضعاف لبنان وصولاً إلى انهياره؟ أم أنّ السياسات الآنية والظرفية والمصلحية للأطراف أوصلت الأمور إلى هنا - هذا يحتاج إلى بحث آخر - وربّما تداخل الأمران ربطاً بالفترات والجهات والتحديات التي مرّ بها البلد.

- وآخر الأسباب أنّ حزب الله في مدرسته الجهادية المقاوِمة لا يحب، أو لنقل لا يرغب، في الانخراط في لعبة السلطة، خصوصاً إذا ارتبطت بالفساد في طول تجاربها المعاشة. وأيضاً هو يتوقّف ملياً عند مفهوم الدولة كتعبير عن السكون statue بمعنى الفهم السالب للسيادة والانطوائي الذي أنتجه العقل الغربي كحلّ لمشكلته في وستفاليا - والتي ليست بالضرورة هي مشكلتنا - وعكسته على العالم خصوصاً أنّ الكثير من حركات المقاومة وقعت في هذا الفخّ واستسهلت الانغماس في نموذج الدولة بمنظورها السالب وليس التفاعلي الموجب، فكان بها أن تبدّلت هويّتها بعد حين وتبدّدت شعاراتها الأولى ورؤاها التحريرية، بينما هو يرى أنّ الأمّة تنتظر في لحظة حرجة من تاريخها لمن يحرّك ويؤجّج النفس الثوري الصادق والشفّاف ويُلهم الناس ويوقظ الوعي من دون أن يؤثّر سلباً على مبدأ التماسك الاجتماعي والمجتمعي كما نوّهنا.
هذا ما كانت عليه إدراكات ومشخّصات حزب الله حيال الداخل، إلى حين اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وصدور القرار 1559، وخروج سوريا من لبنان، وحرب تموز 2006، والذي اعتُبرت في فهم حزب الله إيذاناً لمرحلة دولية جديدة حيال المنطقة، لا سيّما أنّه ارتبط بما بعد غزو العراق عام 2003. فسوريا دخلت لبنان بقرار دولي، وأدارته في لحظة دولية أميركية صرفة، وارتبط خروجها من لبنان بتوجّه دوليّ ومقاربة جديدة واستراتيجية بدأت فصولها تتبدّى وملامحها تتكشّف. ما يفرض الاستعداد لعواصف مدمّرة وشديدة وتوقّيها ومعرفة الإفادة ما أمكن من مكامن ضعفها وتناقضاتها وثغراتها!

صحيح أنّها انفتحت للمرة الأولى أمام حزب الله، إمكانية المشاركة الفعلية والمباشرة في السلطة التنفيذية، لكنّ ظروف هذه المشاركة كانت محكومة بالنسبة إليه برؤية الإقليم وشرارات تفجّره، لا سيّما الطائفية، على أثر غزو العراق وهواجس ومخاوف انفلات الوضع الداخلي على امتداد الإقليم، وفي لبنان غير المحصّن أصلاً.

أطلّت الفتنة برأسها مع اغتيال الشهيد رفيق الحريري، وتحويل الاتهام بالتدرّج نحو حزب الله، والذي فسّره الحزب في نتائجه المنظورة، بأنّه محاولة التفاف أميركية على إنجاز التحرير وتغيّر بيئة الإقليم لصالح خطاب المقاومة ومنطقها، ما حتّم تقديم أولوية حفظ البلد والمقاومة والبحث في ما يعزّز التماسك الداخلي على أيّ اعتبار آخر، لا سيّما أنّ أيّة مطالب داخلية مهما كانت صحية ومحقّة كان يسهل إلباسها لبوساً طائفياً في لحظة غليان كبرى وإرهاصات زلزال طائفي كبير. وتزداد حساسية المسألة بالنسبة إلى حزب الله وهواجسه كونه كان قد دخل لأوّل مرة بالأمّة انتصارات حوّلت الوعي العربي وغيّرت في معادلات الردع بمواجهة أميركا وإسرائيل بآثارها الكبرى، عبر محطّات 2000 و2001 و2005 و2006 في لبنان وفلسطين، فهاجس حماية هذا المكتسب كان الأولوية التي تعلو أيّ أمر آخر.

رحلة ما بعد عام 2005، وانسحاب الجيش السوري من لبنان، ثم حرب تموز 2006، ورغم عظيم تحدّياتها التي فرضتها على حزب الله، جعلت لفعل قوى المقاومة في لبنان وفلسطين وحتّى العراق نواتجها البعيدة. فقد رشّحت حزب الله لموقعٍ متقدّم ونصّبته قوة إقليمية فعلية ونموذجاً ملهماً، فأصبح تلقائياً جزءاً من استهدافٍ أكبر لأنظمة عربية وليس لأميركا وإسرائيل فحسب. وقد انعكس ذلك على صعد عدّة وشتّى، كان منها معنى ومضمون العروبة وماهية انتماء لبنان إليها كما نصّ «الطائف»، وكان معنيّاً أكثر من أيّ وقت مضى بأن يدبّر الأمور ويحدّ من المواجهات المفتوحة التي تولّدت، وما يمكنها أن تتركه من أثر على لبنان الذي طالما عمل حزب الله على تخفيف انعكاس الضغط عليه وحفظ حدٍّ أدنى من مخاطر الانشطار فيه.

من هنا كان أبرز مبادرات حزب الله بالعمل على صياغة علاقة متعدّدة الاتّجاهات داخلياً، ساعدت حينها في تمتين الحدّ الأدنى المجتمعي الضروري وحماية المقاومة كفكرة تحرّرية نهضوية، من خلال التفاهم الرباعي وصولاً إلى التفاهم المحوَري مع التيار الوطني، فتشكّلت مع هذا الشريك - التيار الوطني - أرضية لضمانة أعمق للسلم الأهلي، حين جُسر بين بيئتين أبعدتهما الظروف التاريخية إلى حدّ كبير، إلى جانب حلفائه من البيئة السنّية في الخط المقاوم. وكاد أن يصل إلى تفاهم مشابِه مع بعض القوى الإسلامية في الشمال اللبناني، بهدف خلق شبكة أمان وطني متينة - فيما «الطائف» يترنّح بين التفسيرات والتأويلات مع تراجع رعاته - ولم يقتصر على ذلك، بل دفع تباعاً بقوّة لإنجاز قانون انتخاب نسبيّ يساعد على إبراز قوى مقاومة فعلية كانت مغيّبة رغم وزنها الكبير، كما في الساحة السنّية الكريمة. وإذا كان في الداخل من يعتبر 7 أيّار خطيئة ارتكبها حزب الله، فإنّ الأخير من وجهة نظره، وبالقرائن والمعطيات التي اعترفت بها زعامات 14 آذار، كان يلمس في المسار الذي أوصل إلى 5 أيار خطوات تهدف إلى الإيقاع بين الجيش والمقاومة ومخطّطاً يهدف إلى أن يدخل البلد أتون فتنة، فكانت خطوته لردع خصومه من إكمال هذا المسار، وليس رغبةً في تعديل دستوري أو لتوظيف فارق القوّة. وهذا ما برهنت عنه مخرجات اتفاقية الدوحة، وقبلها حرب تموز 2006، وقبلها انتصار عام 2000، إذ هو أراد أن يقول: «حيّدوا مسألة المقاومة عن الاستهداف فقط»، وأيّ أمر آخر إلى طاولة الحوار مهما كبر.

ولم يفتأ البلد يعيش الغليان والتشنّج على أثر نتائج حرب تمّوز، والانقسام العاموي الذي خلّفته وصولاً إلى حكومة السنيورة وانفجار الشارع حتى الانتخابات النيابية عام 2009، حين اعترف حزب الله بفوز خصومه، مميِّزاً بين قضية المقاومة وقوّته الهائلة واللعبة الديموقراطية واحترام نتائجها.

لكنّ الأمر لم ينتهِ عند هذا الحد، بل سرعان ما تغيّرت المقاربة الأميركية مع رؤيتها للخروج من العراق، على أثر ضغط قوى المقاومة والفشل الذي أصيبت به، ثمّ «الربيع العربي»، وما تلاه من أحداث على امتداد الإقليم الذي أقلّ ما يُقال فيها إنّها كانت أشبه بزلزال ما كان ليُبقي كيانات ولا دول فضلاً عن مجتمعات، وكانت سوريا المتاخمة للبنان شرقاً وشمالاً محور هذا الصراع وبوّابته الأكبر لإحداث التغيير الاستراتيجي، وفقاً للرؤية الأميركية. وإزاء التهديد الوجودي الذي انخرطت فيه إرادات الجميع وإمكاناتهم في لبنان وخارجه مع اختلاف القدرات والإمكانات، كان السؤال ماذا لو نجح في إفشال هذه الاستراتيجية الأميركية؟ وهل يمكن الخوض على جبهتين في الداخل والخارج؟ وهل يمكن الإصلاح في لحظة لم يعُد البقاء الفيزيائي للمكوّنات فيها مضموناً؟ وكيف يمكن تجنيب لبنان يد الإرهاب والفتنة؟

أعتقد أنّ من كان جزءاً من هذه الرؤية الكلية، وفي عين العاصفة، وله دور أسّ في التصدّي التاريخي لها لن يفكّر كما يرغب البعض، لا سيّما أنّ غالبية من آمن بأحقّية معركة سوريا، آمن بذلك أخيراً، أو حينما رأى بشائر النصر تلوح في الأفق.

في الحقيقة، فإنّ النقد والانتقاد دائماً أمر مفيد ومطلوب، لكنّ سرد الوقائع من جهة وتبصّر المخاطر من جهة ثانية، أثبتا أنّ حزب الله أحسَنَ التشخيص وترتيب الأولويات حينها، ويمكن أن نقول إنّه حقّق مع من حالفه على هذه الأولويات النتائج التالية:
أسهَمَ في حفظ الكيانات والدول التي كانت مهدّدة ببقائها من التقسيم والتشظّي.
ساهم في حماية التنوع الديني والطوائفي وبالتالي هوية لبنان الفريدة.
حافظ على حدّ مقبول من التماسك الاجتماعي العابر في الواقع اللبناني رغم قوّة الرياح الخارجية وعصفها.
أنجز صيغة جديدة وإبداعية تكاملية عبّر عنها بثلاثية «الشعب، الجيش، المقاومة»، حيث تكاملت المقاومة والمؤسّسة العسكرية عملياً، قبل التنظير، ما أعطى مساحة جدّية للتنظير السياسي في بلادنا لوضعية الانتقال الاجتماعي نحو تحقّق فكرة الدولة العادلة والفاعلة.
ساهم في إنجازات كبرى، كان منها تحرير الأرض من الإرهاب وكسر شوكة الإرهابيين في المنطقة واندفاعيّته وخطورة هذا المشروع على الإقليم والعالم بأسره في ما لو نجح.
صاغ ردعاً فعلياً واستراتيجياً في مواجهة إسرائيل كأكبر إنجاز في تاريخ الصراع مع العرب والمسلمين، وأفقد إسرائيل قدرة المبادرة وخاصية الردع واليد الطويلة، كما قلّص من مكانتها ودورها الوظيفي.
عزّز من قوّة لبنان وثقته بعناصر قوّته ووضعه في مصاف الدول القادرة والمحوَرية في المنطقة والمؤثّرة والفاعلة بدل أن يبقى في موقع الانفعال.

يعيش لبنان مفارقة رهيبة تنبع من كونه يختزن نقاط قوّة استثنائية كما تؤكّد القرائن، لكنّه أيضاً يعاني ما يعاني من اختلالات عميقة

استولد أو ساهم في استيلاد توازنات دقيقة في الإقليم حدّت من طموحات وأحلام بعض من القوى الدولية والإقليمية.
ساهم في رفع الروح الثورية والثقة عند الفرد العربي والمسلم، ومن نافل القول إنّه بانتصاراته ساهم بدور غير مباشر في غرس أو تعزيز الرغبة بالتحرّر واستشعار القدرة على ذلك. وهو ما فتح الطريق أمام انكشاف غالبية الأنظمة العربية وتهديد أعمدة شرعيّتها، كونها فشلت في التحرير كما في بناء الدولة والمجتمع، وهرولت مسرعة ناحية إسرائيل وأميركا لتحتمي من ضغط الوقائع وصوت شعوبها.
لكن حزب الله يعترف في مكان ولو لم يعبّر عن ذلك، بأنّه خُذِل من بعض قوى الداخل التي كان يُنتظر منها أن تنظر إلى البيت بما يحميه ويحفظ أصوله وممتلكاته من الناهبين... إلّا أنّ غالبيّتها غرّرتها المطامع فتهاونت في حماية الممتلكات واستهانت بحقوق أهلها، وبعضها كان يخطّط للتواطؤ مجدداً من خلال بيع لبنان للخرّاج لإعادة المساومة وتعزيز موقعه من جديد مغتنماً «فرصة»!
هذا جانب رئيسي من سياسة حزب الله، ورؤيته التي اعتمدها في ظلّ تطوّرات إقليمية ودولية استثنائية ومتسارعة كادت، لو نجحت، أن تعيد رسم الخرائط وتحديد العالم الجديد بالمحدّدات الأميركية. فهل كان تشخيصه وأولوياته وقراءته وتبصّره في أحشاء الزمان ومبادرته واستباقه في ظلّ الغموض واللايقين القائمين آنذاك، وتدافع وتهافت السياسات الدولية الرهيب الذي عاشته المنطقة في العقدين الأخيرين، هل كان خطأً أم منقوصاً؟ صائباً وقويماً؟
وهل ما أنجزه حزب الله ووصل إليه كان فعلاً عسكرياً ناجحاً فحسب، أم سياسة راقية عميقة متبصّرة غير مسبوقة لقوّة في عالمنا العربي والإسلامي من جهة، حدّدت مصالح كبرى وأولويات وعملت داخلياً في إطار الممكن، ساهمت في تثبيت المنطقة وحفظ كياناتها ومكوّناتها وحافظت على حدّ مقبول من الاستقرار المجتمعي، لا سيّما في لبنان المتنوّع رغم قوّة الرياح الأميركية ومخاطرها التي هدّدت كلّ شيء؟ وهل ما بلغه من تأثير إقليمي وساهم في إحداثه كان ليتمّ لولا رؤية سياسية مازجت قدر الإمكان وبذكاء عالٍ بين الدوائر المتعدّدة؟
السؤال المطروح عند البعض: هل كان بإمكان حزب الله أن يجمع خلال هذين العقدين بين كلّ هذه الأولويات ويتحرّك داخلياً بوجهة معاكسة لمسار غالبية الطبقة السياسية ومصالحها العميقة، ما يجعله تلقائياً لاعباً خطيراً - بسبب حجمه - في شطرنج التحالفات الداخلية الدقيقة وتوازناتها التاريخية، في ظلّ تهديدات كيانية ومصيرية تهدّد الواقع برمّته؟ أم أنّه كان بحاجة في مكان ما إلى تقليص درجة الاحتقان والتنافسات الداخلية التي يمكن أو يُحتمل أن تتوالد وتُستغل بصورة أخطر كما حدث زمن الحرب الأهليّة، حيث كثيراً ما تكاملت متطلّبات مصالح الأطراف الداخلية بمشاريع الخارج، بحيث لا يسير على فالق زلزال خارجي وتشرذم وتهديد داخلي محتمل أو ممكن بقوة؟ ناهيك عن معطى لا يمكن القفز فوقه أو الاستخفاف به، وهو أنّ الأزمة الداخلية رغم نذر المسار الاقتصادي المتهاوي، لم تكن بعد قد تفجّرت ولم يكن الرأي العام اللبناني والشارع يتحسّس سخونتها ليُشكّل عنصراً ضاغطاً عابراً للطوائف يساعد لأيّ طرح آخر - كفى دليلاً الفارق بين تحرّكات عام 2012 ثم عام 2015 مقارنة بتحرّك 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 - فلم يكن قد تولّد إدراك في الشارع اللبناني وتلمُّس شعبي حسّي بشأن مخاطرها وجاهزية خوضها بعيداً عن الانتماءات الضيّقة، فالاصطفافات التي واكبت الحرب السورية، وبعد حرب تموز 2006، لم تكن ستتيح فرصة الضغط في ما لو تصدّى حزب الله، فأقصى ما كان ممكناً هو أن يسجّل موقفاً لا يترك تداعيات ويخلّف أزمات ممكنة، وربّما، وهنا الأهم، هو أنّ المقاربة الأميركية كانت حتّى حينه لا تزال تحتمل تحقّق مشروعها وأهدافها، قبل أن تقرّ بفشلها وتسعى إلى البحث عن مقاربة جديدة للضغط مع إدارة ترامب، حين تقدّمت سياسة الضغوط القصوى ونظرية الاستثمار بمواجهة الفساد التي اعتمدتها إدارة ترامب مع حلفائها الإقليميين.
كخلاصات، يمكن القول إنّ قدرة الخارج على التأثير في الداخل اللبناني نتيجة انكسار إرادات قوى خارجية من جهة، وتوازنات تولّدت واستجدّت من جهة ثانية قد تراجعت عملياً، فالخارج اليوم بات أضعف من أن يبادر بتدخّل لتعديل توازنات أو ما شابه رغم استمامته. الكيان الصهيوني يبحث عن حلفاء ليعوّم نفسه ودول الخليج تحاول أن تبحث عن حليف في ظلّ اقتراب الانكفاء الأميركي من منطقة غرب آسيا وتضاؤل وزنها واختلاف أجنداتها. لذلك، لن يكون لأميركا أو من تكلّفه وتفوّضه في أمر لبنان لاحقاً، التأثير إلّا من خلال مسار ومواكبة ناعمة وبعيدة لتعديل أو تغيير نظام سياسي تكون الراعي له والشريك فيه، بحيث يساعده على استعادة جانب من نفوذها المتراجع في لبنان. فبعد قرن من الزمن يبدو أنّه لم يعد النظام السياسي الذي أسّسه المستعمر لهذا البلد يجد مصلحة له فيه، والأرجح يسعى لتعديله ويضغط لتحوّل عميق فيه على قاعدة «أمن إسرائيل أولاً».
ومع تراجع قوّة وقدرة مبادرة الخارج، واستشعاره أنّ النظام بل المنتظم لم يعد مصلحة له، بقدر ما غدا مصلحة لخصمه، فإنّه والحال هذه تزداد الفرصة للداخل لإعادة إنتاج الواقع الجديد من مدخل التفكير بهندسة داخلية جديدة بروح وحدوية وتوافقية منفتحة تطاول الاقتصاد والسياسة وعملية الانتقال لبناء الدولة التي كان من المفترض أن تكون تجاوزتها بعد الحرب الأهليّة مباشرة، فهل هذه هي نظرة الفرقاء وانتظارات الشارع؟

في استشراف دور حزب الله على الصعيد الداخلي
السؤال اليوم: هل انتهت المعركة وخسرنا الداخل أم لا تزال هناك فرصة موجودة وفعليّة ليعطف ما أنجز خارجياً وما أسهم به حزب الله وحلفاؤه اللبنانيون لنُخرج لبنان من أزمته الداخلية، ويسحب من أميركا وأدواتها قدرة الالتفاف على الداخل لابتزازه ثم لإخضاعه، وما هو توقّعنا لمسار وتصرّف حزب الله على ضوء هذه المحدّدات الآنفة الذكر؟
للإجابة، نحتاج إلى أن نتوقّف على جملة أمور تبدأ من كيف يحدّد حزب الله الوضعية، وقبل ذلك هل علينا تحديد مشكلة انهياره الاقتصادي وأسبابها بدقّة؟

نظرة في وضعية لبنان
منذ نشأته، سعى المنتدب إلى أنّ يترك لبنان أشبه بأرخبيل مجالاتي لا جغرافي، فالجزر فيه ليست طائفية فحسب بل جزر مجالاتية أيضاً، جزيرة المال والاقتصاد وجزيرة الثقافة وجزيرة الأمن - أو جزر الأمن وكذلك القضاء... لدرجة أنّ التحوّل السياسي الذي يُفترض أن يعلو مختلف المجالات ويحتويها لا تراه يستحيل في بقية الأبعاد والمجالات ليُحدث فيها تغييراً، القوّة مشتّتة في لبنان بما يقلّ نظيره في أيّ بلد آخر، وهذا مرتبط بطبيعة الكيان منذ نشأته كما سلف وذكرنا، وربّما كرّسه «الطائف» بقصد أو من خلال التنفيذ المعوج والمجزّأ، وأيضاً من خلال نظرة غالبية القوى الخارجية للبنان. لكنّ السؤال، هل يمكن لدولة في القرن الواحد والعشرين أن تستمرّ على هذا المنوال، في ظلّ غياب أيّ خيار بديل لكلّ المكوّنات كما يُستنتج، وبقناعة كلّ اللبنانيين؟ وهذا أمر إيجابي ويُبنى عليه.
يعيش لبنان مفارقة رهيبة تنبع من كونه يختزن نقاط قوّة استثنائية كما تؤكّد القرائن، لكنّه أيضاً يعاني ما يعاني من اختلالات عميقة. إنّ هواجس شرائح واسعة من اللبنانيين في محلّها ولا يمكن إنكارها، فلا تزال بيئة المقاومة تعيش هاجس تهديدها وجودياً، وهو ما يجري الحديث عنه علناً، وبوضوح يتوقف أو يضعف، إن من خلال الإدارات الأميركية أو من خلال الكيان الصهيوني، والجديد اليوم بعض الأنظمة العربية في الخليج. ولا تزال هذه البيئة في حالة انعدام ثقة بالمجتمع الدولي الحالي وما يرشح عنه، ولا تغيب عن هذه الشريحة حالة التهميش والتهديد عبر عقود وقرون في هذه المنطقة، كادت أن تتكرّر مع الصهاينة ثم في العقدين الماضيين، لو نجحت محاولاتهم في ذلك. لذلك، يمكن بالعمق ودونما مواربة الحديث عن اقتران تامٍ بين وجودها ومقاومتها. وفي الوقت ذاته يبدو أنّ المسيحيين كطائفة ومذاهب، منذ ثمانينيات القرن الماضي، لم ينالوا من الغرب أيّ اهتمام عندما كانت مصلحة الغرب تتقدّم أكثر من بعض المساعدات العينية والتعاطف، وبالتالي لا يمكن أن يرهنوا مستقبلهم لمصالح الدول الكبرى والتسويات بين القوى، لا سيّما أنّ الوضع الدولي يتغيّر ويتراجع نفوذ أوروبا وأميركا فيه كمسار. فالتسوية المفترضة برعاية أوروبا، لن يُكتب لها الاستمرار في ظلّ تراجع الغرب وتقهقره كحضارة ونفوذ، ما يحتّم على المسيحيين التفكير بطريقة مختلفة عن الماضي، فقبل مئة عام تمكّن الغرب من صياغة لبنان في ظلّ تقاسُم النفوذ البريطاني - الفرنسي، كما أراد، وتسليمه لحلفائه، لكن كلّ ذلك تغيّر اليوم خارجياً وداخلياً، لذلك، فإنّ أيّ تعويل على رعاية خارجية لن يكون مصلحة تباعاً. أمّا الطائفة السنّية، فستكون أمام واقع متأزّم إذا ما تطلّعت لأدوار قوى الخارج مع حمأة التنافس التركي الإخوانيّ القوي مع الخليج السعودي - الملكي الهشّ، وبالتالي عن أيّ عرب وعروبة واتجاه وبأيّ معنى سيلتحقون، أم سيبادرون لتعريف العروبة حضارياً وعلى أثرها يحدّدون موقعهم وربّما يبتعدون عن كلّ هذه الخيارات لصالح خيار آخر.

دخل حزب الله الساحة كتجربة لها رصيدها وستتيح الوقائع حضوراً متزايداً له يساعد في ذلك إفلاس غالبيّة الطبقة الداخلية وفسادها واستعجال الأميركي وحنقه

هناك أيضاً حقائق عدّة يمكن البناء عليها على ضوء التجربة التاريخية للكيان اللبناني: السواد الأعظم من اللبنانيين يرفض اليوم الاقتتال الداخلي والعودة إلى أيّ شكل من الحروب الأهلية. وهم يرون أنّ لبنان أكبر من أن يُبلع، وأصغر من أن يقسّم، لبنان يجب أن يخرج من كونه معبراً لطموحات ومصالح القوى الدولية، كما أنّ المجتمع الدولي لا يمكن الركون إليه والاعتماد عليه كونه خاضعاً لمصالح القوى الكبرى. إنّ حكم أي طائفة مهما قويت أثبت خطأه وفشله، بينما تُنذر البيئة الإقليمية بنزف ديموغرافي للطوائف المسيحية في الشرق، ما يُفقد لبنان جانباً من ميزته. لبنان لا يمكنه أن يبقى منفعِلاً وفاقداً للمعنى والفعل الإيجابي في إقليم في سياق عالم متحوّل ومتفجّر، ويُجمع اللبنانيون على أنّ الكيان الصهيوني هو العدو الوحيد للبنان، وأنّ اللاجئين ضيوف تتحتّم عودتهم إلى ديارهم، وأنّ سوريا كدولة هي معبر لبنان الوحيد إلى البلاد العربية كواقع لا يمكن تجاوزه... وأنّ لبنان يفترض أن يبني تجربة تشبهه ولا تُشبّه بأيٍّ من الغرب والشرق، بل تستفيد من الجميع سواء، وأنّ الإنسان اللبناني وقيَمه أهمّ من المال، فلبنان يتميّز عن الحضارة المادية، وسلّة قيَمه يجب أن تأخذ موقعها في منتظم التربية وثقافة وبنية لبنان السياسية، وأبرزها «العدالة والإصلاح ونزعة المقاومة والتحرّر والتنوّع والمسؤولية الإنسانية والعروبة الحضارية». وأيضاً: إنّ الحالة اللبنانية لا تحتاج إلى مقاربة أحادية تقوم على نواتج موازين قوى ورابح وخاسر، لا سيّما في زمن يزداد فيه تحدّي الهويّات فلا تُبنى الأوطان بهذه الرؤية، إنّما بذهنية بناء الوحدة وتصوّر النموذج المجتمعي وإدراك أهمية العيش الواحد والمشترك، وتبيّن أنّ مصالح أيٍّ من المكوّنات ليست أقوى من مصلحته مع الجميع. لذلك، يُفترض أن تحمل عملية البناء الوطني تصوّراً نظرياً والتماساً لوجهة، فتسعى إلى تصوّر ما نريد إلى جانب مراعاة الفواعل وديناميات القوة وتحوّلاتها الداخلية التي تُأخذ في الاعتبار بحدود! فربّما نحتاج لتصوّر يحدّد أيّ لبنان نريد وكيف يكون لكلّ مكوّن من مكوّناته إسهامه فيه، انطلاقاً من جانب تمايزه وإضافته التي يمكن أن يضفيها، فنوازي بين قيمة الانتماءات الجماعاتية - الطائفة - والعدالة الفردية والحرّية، فلا يكون أحدهما على حساب الآخر، ونلحظ خاصية لبنان لجهة قيمة رسالته وموقعه الجغرافي وجيوبوليتيكيا التحوّل، الذي نتوقّعه بناء على المرتكزات المتّفق عليها.
الاجتماع اللبناني في تحوُّل فعلي وواقعي، لا يمكن تجاوزه، ولو أنّ صيغته النهائيّة لم تظهر، وهذا يفتح ويؤسّس لنقاش كبير على صعيد العلاقة بين النظام السياسي والمجتمع. أمّا في تفسير الضغط وما وصل إليه لبنان اليوم، فيمكن القول إنّه على رغم أهمية مسبّباته الداخلية لجهة بنية النظام السياسي وهوية الاقتصاد ونوعية الطبقة السياسية، إلّا أنّها كلّها كانت بمثابة فرصة لاستثمارها غربياً وأميركياً في سياق الرقعة الأكبر للصراع، أو ما يمكن أن نطلق عليه «سياسة الاستثمار في مواجهة الفساد»، الذي كان هو راعيه - أي الاستعمار - كبنية في دولنا وليس فقط كأفراد. لذلك، لا يمكن تفسير ما يحدث من انهيارات إلّا في سياق محاولات ضغط الحدّ الأقصى ومحاولة التعويض أو الالتفاف الأميركية لردع حالة المقاومة ونزعة التحرّر التي زاد توهّجها وتأثيرها تباعاً، وأهّلها لمصاف أن تكون حاجة إقليمية.
وعليه، يمكن فهم محاولات هزّ البنية الداخلية اقتصادياً ومالياً، وربّما أمنياً، كتعبير عن مسار تراجعي تعانيه الولايات المتّحدة الأميركية وحلفاؤها وأدواتها في الإقليم، فالنظرة للبنان والاستراتيجية المعتمدة تجاهه غير مجمع عليها في الغرب، فضلاً عن تبايُنٍ حتّى بين الأجنحة الأميركية كما يتأكّد تباعاً من غياب سياسة متماسكة وخطّة واضحة حيال لبنان والممكن فيه.
بناءً عليه ربّما يرى حزب الله، أنّ الأداء الأميركي في مواجهة حزب الله أتاح مساحة نفوذ أو فرصة لإطلالة جديدة له على المعادلة الداخلية، بعدما ساهم في التوازن الخارجي، وبالتالي إنّ حزب الله الذي تحاشى الانخراط في الساحة الداخلية ومسألة الدولة، من بنيتها الجزئية، تساعده الظروف والمجريات تباعاً ومن باب حماية الوطن والمقاومة والمجتمع لمزيد من الحضور باعتبار أنّ التصدّي أصبح جزءاً من مواجهة الولايات المتحدة لا شبقاً إلى السلطة... أو منافسة لحليف أو خصم داخلي، وهذا ما يفتح له فرصة الاجتهاد وتوظيف بعض جوانب علاقاته وحضوره الخارجي للنهوض بالتحدّي إذا اضطر - كأن تذهب الولايات المتحدة الأميركية أبعد في مواجهة لبنان - ويسهم في نقل لبنان إلى نظرية تعدّد الخيارات الاقتصادية والمعرفية، يساعده في ذلك أنّ غالبية قوى الداخل اعترفت بعجزها عن مجاراة التحوّلات ومنع الانهيار وتحمّل تبعات الواقع الذي وصل البلد إليه بمعيّتها، فضلاً عن أنّ غالبيتها انفضح أمرها، وسقطت هيبتها وانكشفت سوءاتها، كما أثبتت وقائع ما بعد 17 تشرين.
تراجعت الحروب العسكرية رغم استعدادات القوى وضرورة التهيّؤ وبناء القوة، لكنّ القوة المادية بمفهومها وتوظيفاتها الغربية تتّجه لتبلغ مداها ومحدوديتها في إنتاج وقائع سياسية معتدّ بها، وإنّ الحروب النفسية وتشويه صورة حزب الله لم تعد ذات نتيجة يعوّل عليها، والتعويل على حدوث الفتنة السنية الشيعية في تراجع كبير، وأداة الإرهاب قادرة على أن تؤذي لكن غير قادرة على خلق معطى جديد. لذلك، ستكون المقاربة الدائمة لأميركا بالضغط الاقتصادي كأداة فاعلة وإتعاب المجتمعات وإنهاكها لتأليبها والأهم أنّها ستعمد إلى اختلاق شرعيات، انطلاقاً ممّا ما زالت تفترضه لنفسها من حق، او ستضطر إلى اعتماد استراتيجية الانفتاح مجدّداً لتخفيف حدّة الصراع وتبريده وتقديم المعونة لتخفيف الأيديولوجيا على المدى الطويل، وبخطٍّ موازٍ تُعزّز من مسار التحالفات بين أنظمة عربية والكيان الصهيوني، بغضّ النظر عن فرص نجاح هذه الاستراتيجية ومتانتها وثبات أرضيّتها!
يبقي حزب الله على أولوية الاستقرار، وبالتالي يعمد السير بخطين: خط مواجهة الفساد وخطّ بناء الدولة مميِّزاً عملياً بينهما بحيث لا يتوقّف أحدهما على الآخر. ويرى أنّ حضوره الإقليمي، وربما أكثر يعطيه هامشاً مناوراً وكبيراً يمكّنه من دعم لبنان وتعزيز موقعه ومنع انهياره في نهاية المطاف. وبالنسبة إليه، إنّ التحدّي الاقتصادي إذا ما تحوّل إلى تهديد وجودي للكيان سيدفع قسراً بعض قوى لبنان الفاعلة، كحزب الله، إلى الاستجابة على غرار ما حدث إبّان الاحتلال الإسرائيلي أو التهديد التكفيري، ما سيؤدّي إلى تآكل ما تبقّى من نفوذ أميركا والغرب بالنتيجة.

نظرة في البيئة الإقليمية والدولية
إنّ حالة الولايات المتحدة عالمياً والكيان الصهيوني والنظام السعودي في الإقليم، كلّها تؤكّد حالة تضعضع في الرؤية فضلاً عن ضعف قدرتهم على إنشاء مسارات ضغط مستدامة. وإنّ ضغط الحدّ الأقصى الذي يُمارس اليوم على دول محور المقاومة محكومٌ بسقف الحرب أو التفاوض، وحيث إنّ الأوّل غير متوافرة فرص الانتصار فيه للعدو، فلذلك يرجَّح أن تكون غاية الضغط هي التفاوض الذي لم تنضج شروطه ولا يستعجل محور المقاومة عليه، في ظلّ ما يترقّبه من تغيّرات حتمية نتيجة تصدّعات الجبهة المعادية له وإرباك سياستها وتناقضاتها. لكنّ أيّ مسار تفاوضي لو قبل به محور المقاومة سيعني ضمناً اعترافاً متزايداً بدور قوى المقاومة وتأثيرها في الإقليم. فهل كان سيحصل ذلك لولا أنّ المقاومة قوّة إقليمية فاعلة لا يمكن تجاوز اعتباراتها حيال أيّة قضية؟ وإذا ما ازداد التنافس العالمي على لبنان، سيكون لبنان المتين والقوي داخلياً قادراً على الإفادة من لعبة المتنافسين الدوليين لتعزيز موقعه وأوراقه.
تؤمّن فرصة التوازن والردع الناشئة في الإقليم والتحوّل النسبي على أثر الخروج من نظام الأحادية فرصة أيضاً لنهوض لبنان ذاتياً، مستفيداً من التوازنات التي استجدّت ومراكِماً عليها. إنّ الديناميكية الجديدة التي تولّدت على أثر التحالف بين بعض دول الخليج والكيان الصهيوني بقدر ما يُنظر إليها على أنّها تهديد، ففي الوقت ذاته ينظر حزب الله إليها على أنّها فرصة كونها تقوّي من شرعية خطابه ومقاومته وربّما تفتح أمامه هوامش ومساحات جديدة لبناء علاقات لم تكن متوافرة من قبل كما يتبدّى.
يدرك حزب الله أنّ القديم قد مات ويعلم كلّ العلم أنّ الجديد يواجه صعوبة ليولد، لكنّه مصرّ على أن يكمل وبثقة أكبر مع الكتلة الراجحة في المجتمع اللبناني المؤمنة بالمقاومة وجدوائيتها وفلسفتها وحتمية أثرها الداخلي ولو بالتدرج. يدرك أنّ أميركا اليوم هي الأخرى، وليست أميركا ويلسون 1920، التي كانت هي وحلفاؤها قادرين على اجتراح تصوّرات ورؤى فكرية وسياسية مكّنتهم من المبادرة والسيطرة لقرن من الزمن. أميركا اليوم تعرف ما لا تريد لكنّها لا تعرف ماذا تريد، وأميركا اليوم تمتلك القوّة لكنّ فاعلية القوة هي الأهّم، وأيضاً أميركا لديها نفوذ لكن أيضاً تواجهها قيود، وأميركا تريد وترغب لكن تتضيق عندها مساحات الكيف تباعاً في مواجهة يقظة خصومها وأعدائها، بينما هو يعرف ماذا يريد وكيف ومتى، وقدراته على المبادرة لا تزال واسعة ومتنوّعة.
خلاصة القول إنّ حزب الله دخل الساحة كحزب وتجربة لها رصيدها، وتباعاً ستتيح الوقائع حضوراً متزايداً له، يساعد في ذلك إفلاس غالبيّة الطبقة الداخلية وفسادها، واستعجال الأميركي وحنقه. يبدو أنّه مسار قسري ووجهة تسير الأمور إليها، وربّما ستسأل أميركا وزير خارجيّتها المقبل أو بعد حين من الزمن: كنّا في الماضي نريد نزع الشرعية عن المقاومة فأصبحنا اليوم بحاجة إلى مواجهة شرعية حزب الله المتنامية، كحاجة للمقاومة وحاجة للدولة وقيامها.

* باحث لبناني


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 13 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات وقضايا   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

15 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 15

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28