] كوابيس أمريكا - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 16 كانون الثاني (يناير) 2021

كوابيس أمريكا

عبد الحليم قنديل
السبت 16 كانون الثاني (يناير) 2021

محنة أمريكا ليست في خبل شخصية دونالد ترامب، وقد لا يعني زوال رئاسته زوالا للمرض، فقد كان «الرجل البرتقالي» عرضا لمرض أمريكا المتفاقم، واتهامه بالتمرد على المؤسسة الأمريكية في محله تماما، وقد تعرض ويتعرض لمحاكمات برلمانية وجنائية، قد تحرمه من فرصة الترشح مجددا للرئاسة في 2024، ومن دون أن يعني ذلك نهاية «الترامبية» التي قد تكون الإشارة الأبرز إلى تراجع أمريكي لا عودة منه.

قد لا تتحقق نبوءات تفكك أمريكا قريبا، وعلى طريقة تفكك الاتحاد السوفييتي قبل عقود، لكن أمريكا، التي كانت، لن تعود، وسيرة الحلم الأمريكي انتهت إلى زمن الكوابيس، وحادث اقتحام الكونغرس من قبل أنصار ترامب، ونهب محتوياته، وتحويله إلى ميدان لتبادل إطلاق الرصاص، وسقوط قتلى وجرحى بالعشرات، واتهام المقتحمين الأمريكيين بالإرهاب، كل ذلك قد لا يكون مجرد جملة اعتراضية، بل إشارة بليغة إلى ما ينتظر أمريكا في مقبل أيامها، فقد تتسع ميادين الرصاص، وقد تصبح أمريكا على شفا وضع يشبه الحرب الأهلية، ولم يسبق للولايات المتحدة بعمرها الأكثر من قرنين ونصف قرن، أن تعرضت لتفكك في نسيجها، كالذي يجري اليوم، ربما منذ أحداث الحرب الأهلية الأمريكية قبل أكثر من 150 سنة، التي انتصرت فيها ولايات الشمال على ولايات الجنوب، وحولت الرئيس إبراهام لينكولن إلى رمز لوحدة أمريكا، وتحرير العبيد، بعدها جرى اغتياله برصاص المهزومين، وهو يشاهد مسرحية هزلية، كادت تتكرر ايحاءاتها الخطرة في غزوة الكونغرس الأخيرة، فعلى كثرة مشاهد الاقتحام المنقولة مباشرة على الهواء، وتصاعد هتافات شنق مايك بنس نائب ترامب المتهم بخيانته، وصيحات دهس نانسي بيلوسي الديمقراطية رئيسة مجلس النواب، لكن كانت أيقونة الصور كلها في مكتب بيلوسي، وقد احتله مقتحم ترامبي في زي يشبه رعاة البقر، ووضع قدمه على مكتب السيدة الشرسة، وتصدر حذاؤه الشاشات، وبدا الحذاء، وكأنه تاج العار والتحقير الموضوع فوق رأس المؤسسة والديمقراطية الأمريكية.

ولن ينجح الرئيس الجديد جو بايدن غالبا في وقف اندفاع تيار المأساة، صحيح أنه فاز انتخابيا بفارق ظاهر، وحصل على أصوات 80 مليون ناخب أمريكي، وعلى أغلب أصوات المجمع الانتخابي، وتسانده أغلبية تناقصت في مجلس النواب، وأغلبية حرجة في مجلس الشيوخ، الذي حصل فيه «الحزب الديمقراطي» على 50 مقعدا من مئة، يضاف إليهم الصوت المرجح لنائبة بايدن كامالا هاريس، وبما يسهل عملية إقرار مجلس الشيوخ لترشيحات الإدارة الجديدة، وقد سبق لبيل كلينتون وباراك أوباما، أن حظيا بهذه الميزة في أولى فترات رئاستيهما، لكن متاعب بايدن المنتظرة في مكان آخر خارج المؤسسة، فليست القصة في فوز بايدن وهزيمة ترامب انتخابيا، بل في انقسام اجتماعي وسياسي وعرقي غير مسبوق، فنحو 75 مليون ناخب أعطوا أصواتهم لترامب، ولا يعترف أغلبهم بفوز بايدن، ويعدونه فوزا مزورا، وسرقة للانتخابات، ومؤامرة من المؤسسة أو «الدولة العميقة» حسب تعبيراتهم، وجماعاتهم الأكثر تشددا مثل «ماجا» و»الأولاد الفخورون» وغيرها في 16 جماعة عنف إرهابي، كما تقول تقارير «أف. بى. آي» وكلها لا تتردد في إبداء الاستعداد للقتال كما يقولون، وحق حمل السلاح متاح لكل أمريكي حسب الدستور، وهو ما يقلق بايدن، الذي تعهد بجعل معالجة الانقسام أولوية لإدارته، بينما لا يملك الرئيس العجوز (78 سنة) فرصة مواتية، فقد فاز بأصوات كارهي ترامب، وليس بأصوات مغرمة بشخصية بايدن الباهتة، وكان ترامب هو محور الحوادث، وصعد بايدن على كف الأقدار، التي قلصت شعبية ترامب، من نوع أقدار جائحة كورونا، ومعها كثافة وامتداد مظاهرات رفض عنصرية الشرطة البيضاء القاتلة للمواطنين السود، وليس بوسع بايدن ترميم الفجوات المتسعة، ولا ردم الشروخ العميقة في صورة المجتمع الأمريكي الراهن، فسيكون بايدن على الأغلب رئيسا لفترة واحدة، وأربع سنوات لا تكفي لإنهاء انقسام، تعمق عبر عشرات السنوات الأخيرة، وربما كان المفكر الأمريكي اليساري نعوم تشومسكي مصيبا، حين ذكر قبل أسابيع بوضوح، أنه لا فرصة لأي رئيس أمريكي مقبل في استعادة الإجماع الوطني، وقد لا تخفى الأسباب التي قادت لتوقع تشومسكي، فقد ولدت الولايات المتحدة الأمريكية على تلال من المظالم الدموية، بدأت بحرب إفناء الهنود الحمر سكان البلاد الأصليين، وكان جورج واشنطن أول رؤساء أمريكا من ملاك العبيد الأفارقة، ولم ينجح إبراهام لينكولن في تحرير العبيد إلا ظاهريا، وظلت مظلمة السود ممتدة بطول وعرض التاريخ الأمريكي، قبل وبعد الحرب الأهلية، وإلى أن صدرت قوانين المساواة المدنية، أواخر ستينيات القرن العشرين، لكن القوانين وحدها لا تصنع مجتمعا عادلا متفاهما، وهو ما جعل السود الأمريكيين على أهبة التمرد دائما، وفي مناسبات لن تكون آخرها واقعة مقتل الشاب الأسود جورج فلويد، ولا الاستطراد في مظاهرات وحركة «حياة السود مهمة» التي قد تعاود انتعاشها مع تغول حضور حركات تفوق العرق الأبيض، خصوصا من تيار «الواسب» أي البيض الأنكلوساكسون البروتستانت، وهم يعتبرون أنفسهم أصل التكوين الأمريكي، بعد إفناء الهنود الحمر، وقد داخلهم خوف متزايد من هجرات متنوعة لاحقة، تهدد مكانتهم المميزة، وتخلق مظلمة أخرى للبيض هذه المرة، خصوصا غير الحاصلين على شهادات تأهيل جامعي وتكنولوجي، وقد تضاءلت فرصهم بعد تحولات الاقتصاد الأمريكي في العقود الثلاثة الأخيرة، وتراجع الاقتصاد الإنتاجي العيني، وتوسع رأسمالية المضاربات، وهيمنة شركات التكنولوجيا، وهجرة الشركات الأمريكية الأكبر إلى خارج الحدود، وأيلولة مراكز صناعية كبرى إلى مدن أشباح، وقد تكون من هؤلاء جمهور ترامب الأساسي، مضافا إليهم جمهور واسع من الإنجيليين الأصوليين، وكل هؤلاء متأهبون لاسترداد ما يتصورونه حقوقا ضاعت من أيديهم، ويبدون شراسة وعنفا مضاعفا، ولا يتردد الكثير منهم في العودة لمناخ الحرب الأهلية القديمة، خصوصا مع تدني مكانة أمريكا الكونية، وضعف قيمة الانتساب لأمريكا، التي كانت «القوة العظمى» بألف ولام التعريف، ثم تجد نفسها تصارع مع آخرين صاعدين باطراد في مجالات الاقتصاد والسلاح والتكنولوجيا، ودونما أمل أكيد في العودة إلى المجد الامبراطوري المتقادم المتزايل.
ومنذ نحو ثلاثين سنة، تدافعت نبوءات تحلل أمريكا، وكان أكثرها عمقا، نبوءة المؤرخ الأمريكي من أصل بريطانى بول كينيدي، وبالذات في كتابه الأشهر «صعود وسقوط القوى العظمى» وركز فيه على توقع انحسار الامبراطورية الأمريكية، بسبب تراجع قوة اقتصادها، وتدنى مقدرته على الوفاء بتكاليف السلاح الأمريكي المنتشر على رقعة عشرات البلدان، وفي وقت مقارب لصدور كتاب كينيدي، ظهر كتاب إلفن توفلر «الموجة الثالثة» الذي توقع انهيار الولايات المتحدة، على طريقة ما جرى للاتحاد السوفييتي، وتفككها إلى عدد من الدول المستقلة، وكانت عينه وقتها على شرارة ثورات السود، وقبل شهور، عادت فكرة التفكيك نفسها إلى السطح، ونشر المفكر الكندي ويد ديفيس مقالا مهما في مجلة «رولينغ ستون» الأمريكية، ركز فيه على المظالم الاجتماعية المدمرة للنسيج الأمريكي، وتفاقم ظاهرة انعدام المساواة، التي نهشت عظام الطبقة الوسطى، وأتاحت لواحد بالمئة من الأمريكيين وحدهم نحو 30 تريليون دولار، مع تزايد عبء الدين الأمريكي العام، ووصوله لأكثر من 27 تريليون دولار، وقد يصعب حصر نبوءات التحلل والتفكك الأمريكي المتوقع، وأغلبها يركز على الأثر الجوهري لانحدار أرقام الاقتصاد وغياب العدالة، فلا شيء يجمع الأمريكيين سوى حجم الناتج الاقتصادي ومعدلات النمو والدخل الفردي، كما أكد مبكرا المؤرخ الأمريكي شليزنجر، وإخفاق الاقتصاد يثير النزاعات التفكيكية، وقد صارت تيارات الانفصالية في أمريكا محسوسة أكثر فأكثر، ليس فقط في ولاية غنية جدا مثل كاليفورنيا، التي صار البيض أقلية فيها، بل في تكساس وغيرها، وانتشار حركات انفصال في 15 ولاية، وإلى حد دفع محللا في «واشنطن بوست» أن يكتب مفزوعا عن سوء المصير الذي ينتظر أمريكا مع انتفاخ ظاهرة «الترامبية» وعودة أعلام الولايات الكونفدرالية، التي كانت طرف الصدام الآخر في الحرب الأهلية زمن لينكولن، وقد ظهرت هذه الأعلام بكثافة في غزوة الكونغرس الأخيرة، وقبلها في عام 2019، نشر مركز أبحاث «بيو» استطلاعا لآراء الأمريكيين، كان سؤاله المحوري عن رؤيتهم لصورة أمريكا عام 2050، وكان غالب الآراء يشير لتوقع ضعف دور أمريكا في الخارج، مع تزايد مصاعبها الاقتصادية في الداخل، والمغزى أن أمريكا ربما تحتاج إلى قلب المصائر لا قلب نتائج الانتخابات، وهذه معجزة تبدو مستحيلة، في زمن نهايات لا في وقت معجزات.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 4 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات وقضايا   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

24 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 24

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28