] العنف وجدلية المُستعمِرو من هذا القاتل ومن هم عرب الـ48؟ - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 9 كانون الثاني (يناير) 2021

العنف وجدلية المُستعمِرو من هذا القاتل ومن هم عرب الـ48؟

بقلم: د. عامر الهزيل
السبت 9 كانون الثاني (يناير) 2021

- من هذا القاتل ومن هم عرب الـ48؟

لم تتغير الأوضاع كثيرًا تلك التي قادة إلى النكبة كما صورها قسطنطين زريق في كتابه “معنى النكبة” الصادر في آب/أغسطس 1948. فالهزيمة في عمقها التاريخي لم تكن بسبب قلة العدة والعتاد على أهميتها بل لأنّ الصدام كان بين مجتمع صهيوني استعماري حديث جذوره في حداثة أوروبا ودعمها ومجتمع تقليدي متخلف يجترّ أسطورته بعبثية تاريخية تراجيدية حتى في أوج مدنيّته حكمته القبيلة والحمائلية التي انساقت على الحزب والثورة حتى أجهضتها ماضيًا وحاضرًا.

استفرد الاستعمار الإسرائيلي التهويدي بعرب الـ48 واستهدفهم بعملية سلخ مبرمجة عن ذاتهم وشعبهم وأمتّهم في ثلاثة محاور؛ الأول: الأرض والذاكرة التاريخية للحيّز؛ الثاني: مناهج التعليم واللغة العربية ودورها في تشكيل الثقافة والوعي الفردي والجماعي؛ الثالث: في استبطان القيادة والنخب وشريحة الوسط ودمجهم الانتقائي في مؤسسات الدولة، بما فيها الكنيست وإن ارتفع صراخ خطاب أعضاء الكنيست، فما له جدوى هو ما ارتجته وترتجيه الدولة العميقة في تسويق وتعميم وجهها الديمقراطي.

وإن كان هدف الدمج الانتقائي ربط مصير ومعيشة المهني الموظف بما فيهم المعلم/ة ومدير المدرسة وضمان تبعيته والتحكم في موقفه، فإنّ العزل الانتقائي للقوائم السوداء الخارجة على وشم الدولة قصد نفس الغاية. في هذا السياق، ما عجزت عنه الدولة قامت به صناديق الدعم العالمية وأكثرها يهودية حين دمجت واستقطبت الكثير منهم في الجمعيات المختلفة. هكذا حيّدت إسرائيل الطبقة الوسطى التي تمثل تاريخيًا العمود الفقري لحراك المجتمعات وتطويرها. بكلمات أخرى عزل الاستعمار الإسرائيلي بين النخب وقيادة الوسط والعامة وبينها وبين نفسها. في وقت فُرض التحديث القسري كحالة حرق مراحل انهار معها المبنى المجتمعي على المستوى العمودي والأفقي بشكل انهارت فيه قيم توازن الردع المجتمعي ومعها القيادة الاجتماعية التي فرضته دون بديل قيادة وسط تتقدم الصفوف وتشكّل بوصلة لطريق المستقبل، الأمر الذي قاد إلى أزمة أهمّ: معالمها ضعف دور الأسرة والمدرسة كأهم مؤسستين تربويتين. فالأسرة غدت ترعى ولا تربّي والمدرسة تركّزت في التحصيل وغيّبت بلورة الهوية الجماعية وزرع القيم ومعها هدم اللغة العربية بما تعنيه لفهم المقروء والقدرة على الإبداع والجاهزية لعالم روحه تكنولوجيًا، وكورونا، وامتحانات “البيزا” العالمية للغة الأم وفهم المقروء فضحت المستور. هذه الحقيقة تنعكس في تطوّر لغة ثالثة في أوساط عرب الـ48، نطلق عليها “العربريت” وهي خليط من العربي والعبري. نعم هنالك قطاع كبير، وخصوصًا الطبقة الوسطى الموظّفة، فقدَ قدرةَ التعبير عن نفسه بالعربية حديثًا وكتابةً دون الاستعانة بالعبرية، نحن شهّاد على حالة احتلال وعبرنة اللسان الفلسطيني بنفس الوتيرة التي فُرنس فيها اللسان الجزائري وإن لم يكن أسرع. طبعًا هنالك تفاوت بين منطقة وأخرى. حالة تحول النفس والمجتمع إلى حد الانفصام والغربة وأفضل من يسلط الضوء على فهمها فرانز فانون في كتابه الرائع “بشرة سوداء وأقنعة بيضاء”.

يفكّك فانون المرحلة الكولونيالية من خلال مفهوم الاغتراب الذي “يرتبط بشعور الإنسان بالانفصال والغربة عن واقعه وذاته. يشعر أنّه لا يستطيع التحكم في مصيره ولا يملك القوة لمواجهة الكيانات الأخرى التي تحكم هذا المصير. الأمر الذي يقود المغترب هذا إلى الشعور بعدم وجود قاسم مشترك بينه وبين مجتمعه ولا معنى لحياته فيه”. واقع يقوده إلى تقمص شخصية مُستعمِره متوهمًا أنّه يشبهها وتشبه. غير أنّ الأخطر في مظاهر الاغتراب هو ضعف لغة الأم (احتلال اللسان) وتماثل المُستعمَر تدريجيًا مع لغة مُستعمِره حديثًا وأفكارًا، تصوّرًا منه أنّه يرتقي لمستوى خصوصية حاكمه إذا ما تحكم بلغته. وعليه، فإنّ اللغة في هذا السياق، بحسب فانون، تصنع عقدة النقص والدونية لأنها مفروضة كمفتاح نجاح. وأبعد من ذلك، يؤدّي “الخضوع الكولنيالي” هنا إلى انفصام في الشخصية الاجتماعية والفردية فالمُستعمَر (المحكوم) لديه وجهان في تعامله ومسلكيته. الأول مع محيطة المجتمعي والثاني مع مجتمع ومؤسسات الاستعمار.

نظرة متفحصة لواقع عرب الـ48 تجد أنّ هنالك من اندمج من بين غير المسيّسين في دورة العمل والحياة اليومية الإسرائيلية ويعاني من الدونية في محيط خضوعه الكولونيالي. في المقابل، يتنافخُ كبرياءً مع عودته إلى مجتمعه كتعويض عن مهانة الشعور والدونية وإنْ أنكرَ هذا الانفصام وحاول الهروب منه وتمويهه تحت راية الحيادية المهنية. ظاهرة الدونية هذه تمتد أبعد إلى الكل المجتمعي في لقائه مع مجتمع الشعب السيد اليهوديّ كجماعة وأفراد. التعويض المرضي هنا يعبّر عن نفسه في حالة انتفاخٍ وتعالٍ موزعة مناطقيًا وحمائليًا وطائفيًا بين بعضهم البعض وبين باقي شعبهم الفلسطيني من الضفة وغزة تحت مسميات ضفاوي وغزاوي، كتجلٍّ تراجيدي لحالة الانفصام والخضوع الكولونيالي والتي نطلق عليها وجوه فلسطينية أقنعة إسرائيلية.

وإنصافًا للتاريخ، تحدّث ابن خلدون عن ذلك في قوله:

“المغلوب مولعٌ أبدًا بالاقتداء بالغلب في شعاره وزيه ونِحلته وسائر أحواله وعوائده.. والسبب في ذلك أن النفس أبدًا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه”، نظرية ساقها مالك بن نبي في حلّتها المعاصرة تحت عنوان “القابلية للاستعمار”.

في هذا السياق، واستكمالًا لذلك ولعملية الهدم التي أدى إليها التحديث القسري في ظلّ الخضوع الكولنيالي و“قابلية الاستعمار”، استغلّت إسرائيل المبنى الاجتماعي التقليدي وغلبة الولاءات القبلية، الحمائلية، الطائفية والمذهبية على الولاء الوطني في ظلّ غياب الوطن نفسه، لتعزيز سيطرتها من خلال تعميم الحالة وتوسيعها بخلق مشيخات ومخترة جديدة. لكن الأخطر على الإطلاق هو توصية أذرع الأمن الإسرائيلية بإجراء انتخابات للسلطات العربية المحلية واستغلال غطاء الديمقراطية هذا لتغذية هذه النعرات وفق قاعدة “عد رجالك ورد المي” وحكم الحمولة والقبيلة للقرية والمدينة، وإن لبست قناع الأحزاب والحركات والقوائم العصرية لتصل إلى سدة الحكم. هكذا أوجدت إسرائيل حالة استدامة وتكرار التفتيت كل خمسة سنوات... نعم، كل دورة انتخابات للسلطات المحلية.

وإن كان هذا لا يكفي، فإنّ هدم إسرائيل مقومات الاقتصاد العربي وربطه بعجلة الاقتصاد الإسرائيلي كأيدٍ عاملة على الأغلب خلق واقعًا أفقر المدن والبلدات والقرى في إسرائيل. واقع العوز والفقر هذا، مع كل العوامل التي ذكرت أعلاه، كان دفيئة تفاعل الأزمة التي نمت تحت أعين أهلها إلى أن انفجرت في طورها الأول كفلتانٍ أخلاقي شكّل تهديدا للفرد، للمجموعة والمجموعات. هنا تعمدت الدولة عدم ضبطه طالما يعمّق الهدم والتآكل الذاتي ويدفع بالجميع إلى حضنها أكثر وأكثر لحمايته. ولكل حماية ثمن ليس آخرها استنجاد النائب منصور عباس برئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، لإنقاذ العرب من أنفسهم.. والإنسان الأبسط منه عرض خدماته الإخبارية على أجهزة الأمن مقابل تسليحه لحماية نفسه وأهله.

هكذا أصبح الجلاد المُستعمِر ملاذ الضحية المُستعمَرة والمتحكم في سيرورة تطوير اللاتطور في سياق عزل النخب وشريحة الوسط وتحييدها وتعميق مراوحة العامة في المكان الذي حصلت فيه كارثة النكبة؛ مع فارق هو أنّ نخب الحداثة قبل النكبة، على قلّتها، كانت تحاول بانخراطها في صفوف العامة تأهيل تربة اجتماعية لزرع بذورها وقادت وقاتلت واستشهدت في حضن أهلها. وحينما حصلت النكبة كانت باثنتين الأولى ضياع الأرض والوطن والثانية انهيار المجتمع ومعه سيرورة حداثته.

كارثة أوسلو وتجزئتها للشعب الفلسطيني استكملت المهمة وكما استبطن الاستعمار الصهيوني نخب عرب الـ48 وعزلها عن التأثير في العامة خاصة بعد أوسلو، كرّر ذلك مع عرب الضفة الغربية بتصفية النخب القيادية بالاغتيالات والسجن والدمج الانتقائي الوظيفي عبر السلطة الفلسطينية وهو يتقدّم بثبات نحو الهدف. وما ظاهرة استفحال المناطقية والردة العشائرية والقبلية والطائفية في الضفة الغربية إلّا مقدمة لمأسستها ديمقراطيًا في نظام المجالس المحلية ودولة إسرائيل الكبرى بين النهر والبحر.

وإن كان الاستعمار الصهيوني كدولة ورافده المال الأجنبي واليهودي كجمعيات، استهدف الشعب الفلسطيني في عموده الفقري (النخب وشريحة الوسط أساس حراك المجتمعات والتغيير في التاريخ)، فعلى هذه النخب وقيادات التغيير إدراك هذا الاستهداف. وحقيقة أخرى يجب فهمها، هي وصول عدد اليهود الإسرائيليين في الضفة عام 2025 إلى 750،000 نسمة موزعين في ثكنات سكنية ذات طابع عسكري، مقطّعةً التواصلَ العربي جغرافيًا. وعليه لن تكون دولتان ولا دولة واحدة فيدرالية أو دولتان في وطن لأن الاستعمار الصهيوني لن يقبل بذلك. ستكون إسرائيل الواحدة دولة الفصل العنصري وديمقراطية الشعب السيد بين النهر والبحر.

الرد المطلوب هو أخذ شريحة الوسط والنخب في فلسطين التاريخية وخارجها دورها التاريخي كعضو وحليف فاعل ومحرك لشعبها وللشعوب العربية من خلال التحالف مع النخب العربية القيادية المطالبة بالتحرر من الأنظمة المستبدة، بما فيها سلطة أوسلو كجزء من النظام العربي الرسمي وصنيعته. من هذا الموقع التشبيك عالميًا مع قوى الديمقراطية والعدالة والمساواة ومنها اليهودية أيضًا في إسرائيل. هذا إذا اقتنعنا أن لا سلام ولا مساواة أو عدالة مع الصهيونية الإحلالية. وكذلك استوعبنا أن فلسطنة القضية كانت مصيدة قادت لكارثة أوسلو وسلطة التبعية لإسرائيل التي شرعنت تتبيع النظام العربي الرسمي لإسرائيل ومعه اغتصاب فلسطين. نعم، مهمّة التحرر من النظام العربي التابع ومعه سلطة أوسلو غدت واحدة. هنا ساحة المعركة وليس سياسات الهروب إلى الأمام كالمستجير من النار بالرمضاء. فالقاتل نحن ومنا بعد ما أوغل الاستعمار في ذبحنا وتشوهينا بتثبيت اللاتطور كسيرورة اجتماعية هجينية تعيد اجترار نفسها بآلية تأكل ذاتي اجتماعي عامودي يفتت المفتت وأفقي يعمق الفلتان والفوضى والقتل وقد تصل إلى أشكال من الحرب الأهلية. وما اغتيال وقتل 111 ضحية هذا العام 2020 إلا مقدمة للقادم الأبشع. إسرائيل وشرطتها وميزانياتها لن تحمي عرب الـ48، إذا لم يحموا أنفسهم منها ومعهم كل الشعب الفلسطيني والعربي كتف على كتف.

- العنف وجدلية المُستعمِر والمُستعمَر نموذج عرب الـ48

خلص مقالنا الأخير “من هذا القاتل ومن هم عرب الـ48؟” إلى نتيجة مفادها أنّ واقع الخضوع الاستعماري وسياسة الدمج الانتقائي الفردي، كأداة سيطرة بنيوية، قادا إلى تشويه التطوير المجتمعي وتفتيته على المستوى العمودي والأفقي، ومنعا بذلك تطوّرًا طبيعيًا للطبقة الوسطى من كيانية في ذاتها كأفراد ومصالح إلى طبقة من أجل ذاتها كجماعة واعية لدورها التاريخي في قيادة التغيير والتحرر لأنه أولًا وأخيرًا في مصلحتها.

واقع جرّ خلفه تحولات اجتماعية وسياسيّة وسيكولوجية عميقة، تُوِّجت بقابلية الاستعمار وشخصية اجتماعية فردية مسخة أطلقنا عليها “وجوهًا فلسطينية - أقنعة إسرائيلية”، كحالة انفصام وتجلي “لديالكتيك” صراع الأضداد الذي يخضع فيه الطرفان، بسبب طبيعة وجودية الصراع، لمبدأ الثنائي المتبادل غير المتصالح بمعنى “أنّ أحد الطرفين زائد يجب أن يزول”.

هذه حالة اضطرابيّة جمعت بين نرجسية المُستعمِر الذي غدا “جنون القتل عنده حالة من اللا شعور الجمعي للمُستعمِرين لسبب بسيط أنّ هذا الشخص المتجبّر طاش صوابه وأسكرته قوة وسلطة كاملة يخاف عليها وعليه فهو لا يتذكر أنّه كان إنسانًا، وإنّما يحسب نفسه سوطًا أو بندقية”، على حد تعبير جون بول سارتر. ومن جهة أخرى نفسية الدونية عند المُستعمَر “الذي ترسّبت في عضلاته روح الهجوم والعدوان، يصبّها أولا على أهله. هذه الفترة التي يقضي فيها الزنوج (العرب في حالتنا) على بعضهم البعض لأن المُستعمِر يخلق حالة توتر وغليان داخلي عند المُستعمَر وقد تنفجر من حين إلى حين بشكل دامٍ كمعارك قبلية ونزاعات بين الأفراد. نعم في وقت يضربه ويهينه المُستعمِر نجد المُستعمَر يطعن ويقتل أخيه لأتفه الأسباب محاولًا إقناع نفسه أن لا وجود للاستعمار، وهذا كسلوك هروبي يتحرّر به من توتر عضلاته لأنه عاجز عن مواجهة عدوه.. الأمر الذي قد يقود إلى انتحار جماعي”، على حد تحليل فرانز فانون لواقع الاستعمار الفرنسي للجزائر وأفريقيا في كتاب “معذّبو الأرض”.

ويستطرد فانون بذكره لأحد ملاذات “معذّبي الأرض” هؤلاء بلجوئهم للدين والقضاء والقدر. وكذلك استفحال ظاهرة المسّ والسحر والدروشة وطقوس الشعوذة لتأمين سكون عالمهم الداخلي. في وقت يستفرد الاستعمار بنخب شريحة الوسط بزرع “الفردية في طليعة القيم الذي يزرعها المُستعمِر في المثقف والأكاديمي. المجتمع هنا مؤلف من أفراد لكل منهم ذاته وأنّ الغني هو غني الفكر والمكانة.. الاستعمار لا يكتفي بأن يفرّغ عقل المُستعمَر من كل شكل ومضمون بل هو يتّجه، أيضًا، إلى ماضي الشعب المضطهد فيحاول بنوع من فجور المنطق أن يهدمه وأن يشوّهه وأن يبيده”.

وكل هذا يجري تحت غطاء إزالة بعض المظالم في إطار مطالب تحسين الوضع الاقتصادي وهامش الديمقراطية في سياق ما يطلق عليه جون بول سارتر عملية التفريغ. وهي “إفساح المجال للمُستعمَر بالتنديد والتشهير بالسياسة ووصف البؤس والتعبير عن الانفعال الجامح كعملية تفريغ لكي يتحاشى المُستعمِر الانفجار ويساعد على الانفراج”. مع هذا، لا يتوقف المُستعمِر عن إنهاك المُستعمَر لتحطيمه وتجريده من إنسانيته حيث القيمة المحسوسة عنده الاستيطان والأرض والاستعباد.

حالة وجوه فلسطينية - أقنعة إسرائيلية التي أوصل فيها الاستعمار الصهيوني قطاعات كبيرة وواسعة من عرب الـ48 لا تختلف كثيرًا عن فعل الاستعمار الفرنسي في أفريقيا والجزائر. فغير قتل بعضهم البعض يوميًا تفشّت بينهم الأمراض النفسية وتفسيرها بالمس والجن والسحر وكهذه لا علاج لها إلّا بطقوس الشعوذة، والعلاج بالقرآن على أهميته. وكذلك الهروب إلى الدين والتطرّف في المواقف ثم ترك ذلك والعودة مجدّدًا لسابقه وهكذا دواليك كتعبير عن بركان الغضب والخزي والعار والهزيمة الذي يغلي في داخلهم. ظواهر تختلف من منطقة إلى أخرى بقدر اختلاف ممارسة العنف الاستعماري اليومي. فمثلًا تتفشى هذه الظواهر في النقب أكثر حيث هدم البيوت، مصادرة الأرض والتحريش وحرث المحاصيل والمواجهات اليومية مع المراقبين ووحدة “يوآب” العسكرية.

في هذا السياق، أثبتت الأبحاث أنّ التدمير النفسي لهذه الممارسات، خصوصًا بين الأطفال، مريع ويوازي انعكاسات الحروب على أطفال غزّة وأكثر. على هامش هذا الواقع، نشأت مجموعات من المشعوذين والمشعوذات التي تعالج بطقوس “الحجاب” وفك السحر وكذلك قُرّاء القرآن الذين يعملون بوتيرة وربح لا يقلّان عن الأطباء الفعليين.

هذا الواقع يأخذه جون بول سارتر إلى مداه الجدلي في وحدة صراع الأضداد باتفاقه مع فانون بقوله “إنّ الأبناء من الجيل الثاني والثالث ما فتحوا أعينهم حتى رأوا آباءهم يهانون ويضربون، وبذلك تكوّنت فيهم صدمات مدى الحياة، على حد علم الأمراض النفسية. وهذه العدوانية التي ما تنفك أن تتكرّر لا تحملهم على الخضوع وإنما تلقيهم في تناقض لا يطاق سيدفع المُستعمِر الأوروبي ثمنه آجلا أم عاجلا. إنّ المذلة والعار والألم يثيرون فيهم غضبًا يغلي غليان البراكين وتساوي قوته قوة الضغط الذي يقع عليهم.. لقد أصبحوا هكذا بسبب المُستعمِر الذي أراد لهم أن يكونوا أناسًا معذّبين كما أصبحوا كذلك من أجل أن يقاوموه.. في هذه الحالة، على المُستعمِر أن يناضل ضدّ نفسه من أجل أن يناضل ضد الاستعمار. هذان النضالان ليسا إلا نضالًا واحدًا. ينبغي لكل الصراعات الداخلية أن تنصهر في نار المعركة”.

نعم، لقد أوصل الاستعمار عرب الـ48 إلى حالة من التآكل الذاتي تستوجب عليهم النضال الداخلي أولًا، بمفهوم العودة إلى الجماهير وتنظيمها لصهرها كمجتمع في جبهات المواجهة مع الاستعمار الصهيوني. هكذا يصبح المُستعمَر إنسانًا منتميًا لمجتمعه، غير قاتل بمقدار ما يحقّقه من عمل لتحرير نفسه وفرض العدالة والمساواة.

غير أنّ المشكلة هنا تكمن في ما يشخصه فانون النخب. إنّ النخب القيادية في هذه المرحلة تقوم بدور المُستعمِر حينما تروجّ فكرة بأن الحلول تكمن في عدم المواجهات، والتي يسلّط عليها الضوء جان بول سارتر أكثر بقوله “المُستعمِر يمتلك الكلمة والمُستعمَر يستعيرها وبينهم يقوم بدور الوساطة برجوازية زائفة ملفقة تلفيقًا”.

نعم، إنّ المثقف (والأكاديمي) - الذي تبع الاستعماري على مستوى العموميات المجرّدة والمصلحة - يريد أن يعيش المُستعمِر والمُستعمَر في سلام في عالم جديد. ولكنّ الأمر الذي يعمى عنه هذا المثقف والحزبي أنّ الروح الاستعمارية تريده عبدًا - في حالته - منفصمًا معذّبًا إلى الأبد. فلا خيار أمامه في هذا السياق إلّا الانسلاخ التام عن شعبه وهو ما لا يقبل به كيان الاستعمار الصهيوني الذي حصّن نفسه أمام هكذا حالة مسخة بسن قانون الجنسية والعودة وقانون القومية اليهودية وغيرها من القوانين التي منحت المواطنة الحقة والدولة لليهودي وتركت العربي رعية أجنبية بلا أرض ووطن ولا دولة أو مواطنة حقة ولا أي قانون يمنع عنه “الترانسفير” القسري أو حتى الإبادة في اللحظة التي يرتئيها الاستعمار صحيحة.

تتعامل الأحزاب السياسية العربية في مسلكيتها الحزبية العملية اليومية مع هذا الواقع الاجتماعي والسياسي والقانوني بشكل انتهازي يُسوق للجماهير في حلة البرغماتية السياسية وبراعة الفهلوية القيادية. وعليه، فإنّ عدم تنظيمها الجماهير وتوعيتها للصدام مع جوهر الاستعمار والصهيونية بهدف صهرها كمجتمع واحد في نار المعركة السلمية ردًا على إستراتيجية “الفردنة” والتفتيت، يجعل هذه القوى في صفوف مجموعات الدمج الانتقائي الأخطر لأنها القيادة اليومية التي تعمق ظاهرة تسيس وتجذير حالة وجوه فلسطينية - أقنعة إسرائيلية. وأبعد فإنّها تروج عالميًا، من أين لا تعلم، لوجه إسرائيل الاستعماري البشع كواحة للديمقراطية في المنطقة.

وعليه، فنجاح إسرائيل في تنفيذ إستراتيجيتها التي قادت العرب لقتل بعضهم البعض لا يرجع فقط إلى أنّ النظام الاستعماري وإفساده الإنسان العربي المُستعمَر وإنّما يرجع، أيضًا، إلى أداء الأحزاب الوطنية والنخب “الكوسموبوليتي” في مسلكيتها اليومية.

ليس الحل في المظاهرات واستنجاد شرطة إسرائيل لإنقاذ العربي من أخيه أو رصد الميزانيات فهي في هذا السياق بمثابة “دية” قتلاكم يا قادة. وأبعد، فهذه السلوكيات تسبّب متعة المتفرج للمُستعمِر الإسرائيلي لأنه نجح وانتصر أيضًا باجترار العرب لهزيمتهم بشكل لا واعٍ وبهذه السلوكيات.

الواقع اليوم تقوده قوى الدمج الانتقائي ومعها الأحزاب الممثلة في الكنيست المنشغلة بالانتخابات والتمثيل أكثر من التنظيم. هي عنيفة في الأقوال عاجزة عن التنفيذ ليس لأنها ليست صادقة ولا ترغب بذلك، بل لأن واقع الدولة اليهودية ونظامها السياسي والقانوني يمنع منهم ذلك، وإِنْ تفاخروا بعدد المقاعد وتسابقوا إليها فسقفهم السياسي يقزّم أي تغيير في جوهر معادلة المُستعمِر والمُستعمَر. نضيف إليهم النخب المثقفة الأكاديمية المندمجة كأفراد في المؤسسات والمنشغلة في الترقية الشخصية والمهنية وسلسلة المقالات العلمية والسياسية والفلسفية. وكلّه تباركه الدولة طالما يصب في إستراتيجية التفريغ الاستعمارية المذكورة أعلاه. نعم، فإذا كانت الأحزاب تبحث عن تحسين الأحوال والتمثيل الانتخابي الجماعي، فإنّ مثقفين وأكاديميين ومهنيين يبحثون عن مصالحهم الفردية. هكذا تنشأ طبقة من العبيد المحررين فرديًا على حد تعبير فرانز فانون.

والحال كذلك، كيف يُغير هذا العنف والتآكل الذاتي تجاهه؟

نعم في هذه الحالة “على المُستعمَر أن يناضل ضد نفسه من أجل أن يناضل ضد الاستعمار. وهذان النضالان ليسا إلا نضالًا واحدًا. ينبغي لكل الصراعات الداخلية أن تنصهر في نار المعركة”.

بمعنى، في اللحظة التي يعود فيها الحزب والمثقف والأكاديمي لبناء وتنظيم وتوحيد شعبه على جبهة النضال الصدامية مع جوهر الصهيونية كاستعمار إحلالي، فإنّ هذا الحارس لثقافة المُستعمِر يتهشم ومعه يصبح المجتمع واحدًا لا يقتل بعضه البعض. وأبعد بفهمه وحدة الشعب والأرض والتاريخ يعيد للقضية بدايتها كجزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني وأمته العربية.

لكن السؤال يبقى هل هذه القوى بطبيعتها اليوم قادرة على ذلك، أم حان الوقت لبناء القاعدة قمتها بخروجها على الوشم المألوف حتى اليوم؟


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات وقضايا   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

29 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 27

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28