] هل “الاتجاه شرقا” هو ترف أم ضرورة قصوى؟ - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 2 كانون الثاني (يناير) 2021

هل “الاتجاه شرقا” هو ترف أم ضرورة قصوى؟

السبت 2 كانون الثاني (يناير) 2021 par عبدالحي زلوم

لبنان بلد مُثقل بالديون والفساد . مديونيته قد تجاوزت المئة مليار دولار كان جزء كبير منها لتغطية نهب المال العام والشعب عبر ادارة خاطئة للاقتصاد وعبر احتكار استيراد بعض المواد الأساسية كالمحروقات والتي كان يتقاسمها ملوك الطوائف اللبنانيين وعبر نظام بنكي فاسد. ولم يحتكر لبنان ( شرف ) الفساد والمديونية لوحده فشاركه العديد من دول النظام الرسمي العربي النفطية منها وفقيرة الموارد على حد سواء. فبعد أن كان العراق ينتج 2 مليون برميل يومياً من النفط كان يمتلك أقوى الجيوش في المنطقة ، و يمتلك افضل نظام صحي ، ويمتلك من أفضل البنى التحتية من شبكات توليد وتوزيع الكهرباء والماء والطرقات ، كان له بالرغم من كل ذلك فائض يزيد عن 40 مليار دولار في بداية 1980 . وكان الدولار يساوي اقل من ثلث الدينار العراقي ليصبح اليوم يساوي 1450 دينار عراقي للدولار ، كل ذلك بفضل شمولية النظام ونرجسية قيادته التي ساهمت في تمكين الاحتلال الامريكي منه . أمّا اليوم وقد اصبح انتاج العراق أكثر من ضعف ما كان ينتجه وبأسعار اكثر بأضعاف ما كانت عليه ، انهار الاقتصاد العراقي بحيث انه بعد 17 سنة من الاحتلال اصبح الدين العام يقارب مئتي مليار دولار ، واصبحت الدولة غير قادرة على توفير الكهرباء بل وماء الشرب النظيف ، واصبحت العراق بحاجة الى خبراء امريكان لحمايتها من ( الارهاب ) الذي خلقه الامريكان !
عندما اقترح بعض اللبنانين التوجه شرقاً سواء الى الصين أو روسيا او ايران لمعالجة المأساة الاقتصادية والمالية والنقدية التي يعيشه وعندما اتجه فعلا ً ‏رئيس وزراء العراق عادل عبد المهدي شرقاً الى الصين ووقّع اتفاقيات لاعادة بناء العراق الحديث مع الصين قام الفاسدون الذين اوصلوا البلدين( العراق ولبنان ) الى ما هو فيه بالانتفاض بل بالثورة ، وجاء المتعاونون الفاسدون الى الواجهة مرة اخرى لمنع مثل هذا التوجّه، وكأنهم يقولون انه لا يحل الفساد الا طغمة الفاسدين تجسيداً لما قاله شعراؤنا العرب ( وداوني بالتي كانت هي الداء ) !
كثيرون مثلي معجبون بالتجربة الماليزية التي أطلقها رئيس الوزراء الاسبق الدكتور مهاتيير محمد ، ذلك لأن ماليزيا بلد مسلم صغير نسبياً لا يتجاوز عدد سكانه 32 مليون نسمة ، بها تنوع عرقي مثير حيث ان نسبة اهل السكان الملاويين الاصليين هي 62 % ، ونسبة من هم من اصل صيني 24% ، ونسبة الهنود 8% .
وكما الحال في لبنان مثلاً كانت ماليزيا بالأساس بلدا زراعيا ً . لم يكن الدكتور مهاتير محمد استاذا او خبيراً بالاقتصاد ولكنه كان طبيباً وطنياً مؤمناً مخلصاً ويستطيع ان يحصل على الخبرة اللازمة من خبراء مخلصين وطنيين مثله ، وهذه الصفات وحدها تكفي لان تكون الاساس لأي قائد في أي حركة اصلاحية . لكن ما قام به من انجازات قل نظيرها خلال اقل من ربع قرن استقال بعده طوعاً بالرغم من شعبيته وانجازاته التاريخية حيث انه ارتقى ببلاده لتصبح في مصاف ما يسمى بالنمور الاسيوية الاقتصادية .
بعد الازمة التي عصفت ببلدان جنوب شرق اسيا وأصبح لها تداعيات عالمية نتيجة تلاعب الرأسماليين الوحوش بالعملات والمضاربات والتي نتج عنها انهيار اقتصادات دول النمور الاسيوية خصوصاً ، حيث جاءت الشركات الامريكية بعدها لتشتري جواهر الشركات بتلك البلدان وبنوكها بـأبخس الاسعار بعد انهيارها . وعلى سبيل المثال انهارت 260 شركة في سوق جكرتا المالي من اصل 282 شركة وهبطت العملة الاندونيسية بحيث تضاعف الدين الخارجي على اندنوسيا اكثر من مرتين بالعملة المحلية بين عشية وضحاها . حارب المضاربون الوحوش واعلامهم مهاتير محمد لانه لم يلتزم بتعليمات صندوق النقد الدولي والذي اعترف الصندوق نفسه لاحقاً ان توصياته بشأن تلك الازمة كانت خاطئة وقاتلة ، وأن ماليزيا اصابها أقل الاضرار لعدم التزامها بتلك التوصيات !
لمعرفة معلومات أكثر عن ماليزيا وثورة مهاتير محمد الاقتصادية قررتُ الذهاب الى ماليزيا أواخر تسعينات القرن الماضي مع زوجتي وعائلتي في رحلة استقصاء وإجازة أتعرف خلالها على تلك التجربة . كان أول انطباع مُبهر لي هو ضخامة مطار كوالالمبور الجديد ثم حداثة وترتيب وجمال المدينة. ويمكن من المطار ومن سائق التكسي ومن الطريق أن تجد التنوع العرقي بوضوح . كان أحد معارفي في كوالالمبور الجنرال زين هاشم قائد الجيش الماليزي السابق . اتصلت به وقمت مع زوجتي بزيارة عائلية الى منزله المتواضع بكافة المقاييس وخصوصاً بفيلات جنرالات العالم العربي الأشاوس الذي لا يسألهم أحد من اين لك هذا ! بعد السلام والكلام بدأتُ بالحديث عن التجربة الماليزية . الجنرال زين كان من خريجي الاكاديميات العسكرية البريطانية وهو من أصل هندي ( باكستان اليوم) .عندما قلت له مهاتير صححني فوراً وقال اسمه الصحيح بالعربية هو ( مُحاضر ) وتم تحريفها بالانجليزية . لم افهم ذلك للوهلة الاولى وقال لي بالانجليزية معنى اسمه LECTURER .
كان الجنرال زين أيام زيارتنا له يشغل منصب رئيس مجلس ادارة أكبر بنك حكومي ماليزي ، وكان أيضا رئيس جمعية رجال الاعمال الماليزية. رتّب لي الجنرال زين لنزور تلك الجمعية ، وقال لي ايضاً انت رجل بترول دعني أرتب لنا موعداً مع رئيس مجلس ادارة شركتنا الوطنية للنفط PETRONAS . وهكذا كان. كانت اول مفاجئة لي حين ذهابنا لزيارة الشركة ان ناطحتي السحاب اللتان كانتا أطول ناطحات سحاب في العالم آنذاك هما ملك شركة النفط وتحملان اسمها، كما كان انطباعي عن انجازات تلك الشركة في ذلك البلد المتواضع في احتياطاته النفطية والتي هي اليوم أقل من 4 مليار برميل مقابل مثلاً احتياطي السعودية الذي يزيد عن 260 مليار برميل . يمكنني أن أقول بموضوعية ان انجازات شركة صغيرة كانت في العالم الثالث وباحتياطات متواضعة جداً( حتى ان احتياطات السودان اكبر من احتياطاتها) ، ومع ذلك قامت بمد نفوذها الاقتصادي والنفطي الى العديد من بلدان العالم كفيتنام وكمبوديا وباكستان واندونيسيا بل والصين ، وتشاركت مع شركات عالمية عملاقة كشركات النفط الحكومية الصينية في الصين وخارجها ، بل في بلدان عديدة كالجابون وتشاد والكاميرون الخ .. وتشاركت مع الشركات الامريكية الكبرى في مشاريع مشتركة على سبيل المثال لا الحصر أنبوب نفط بطول حوالي 1000 كم من DOBA في جنوب تشاد الى الكاميرون غرب افريقيا بالمشاركة مع شيفرون وشركة موبيل اكسون . لكن بسياستها الاقتصادية الحكيمة واستثمار عوائدها النفطية اصبحت تضاهي الشركات العالمية في ملائتها المالية وتصنيفها كشركة نفط عالمية وعلى سبيل المثال كان دخلها الصافي سنة 2018 يزيد عن 20 مليار دولار وأصبحت توظف حوالي 50 الف من مواطنيها ،واصبح لها احتياطات نفطية في استثماراتها الخارجية تزيد عن احتياطها داخل ماليزيا ! ولقد كان معظم هذه الانجازات مع حكومات مهاتير محمد .وبالمناسبة فقد قامت شركتي بعمل استشاري في احدى استثماراتها في افريقيا ( شركة بترودار في السودان المملوكة من الحكومة السودانية والصينية وبتروناس ) .
عندما تولى مهاتير محمد رئاسة وزراء بلاده سنة 1981 كان قد كتب عن قناعته بأن مستقبل ماليزيا هو ليس مع الغرب وانما بالاستفادة من تجارب الشرق وتحديداً اليابان حيث كتب قائلاً ان اليابان قامت بمعجزة اقتصادية أخرجتها من دمار الحرب العالمية الثانية الى ان تصبح انذاك ثاني أكبر اقتصاد في العالم . فكان مهاتير محمد اول من استعمل سياسة ( اتجهوا شرقاً- Looking East ) وبدأ ينمّي علاقته مع اليابان بإرسال البعثات اليها وبزيادة استثمارات ماليزيا المشتركة معها . كان مهاتير محمد يملك الرؤيا ولكنه كان ايضاً يملك الايمان و العزيمة ، وبالرغم من انجازاته المميزة في التاريخ الحديث الا انه استقال ليفسح المجال امام غيره .
عندما نشبت الازمة الاقتصادية التي سببها المضاربون العالميون سنتي 1997 و 1998 وقف انور ابراهيم نائب مهاتير ضد رئيسه طالبا الالتزام التام بمتطلبات صندوق النقد الدولي ، وبعد ان أصر النائب بمخالفة رئيسه قام بسجنه. عندما كانت وزيرة الخارجية الامريكية مادلين اولبرايت في كوالالمبور في مؤتمر اقتصادي اقليمي في تلك الاوقات طلبت من الوزيرة الماليزية رفيدة عزيز ان تقابل زوجة ( بطل صندوق النقد الدولي ) أنور ابراهيم لتبدي مؤازرتها . قالت لها الوزيرة الماليزية لا مانع من ذلك لو تسمحي لنا بزيارة كِن ستار القاضي الذي يحاكم رئيسك كليتنون في فضيحته الجنسية مع لوينسكي . كنت قد قرأت ذلك في احدى المجلات الامريكية ،وصادف ان قابلت تلك الوزيرة وسألتها ان كانت هذه الحادثة صحيحة . فقالت نعم وما الغريب في ذلك ؟
عندما يتمكن وزراء الخارجية العرب أن يقابلوا أي وزير خارجية امريكي غير مطأطئي الرؤوس بل منتصبي القامة ويمتلكون شجاعة امرأة ماليزية ستصبح دنيانا بخير


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 7 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

6 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 6

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28