] بلسانٍ عبريٍ أرعن! - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الأربعاء 24 نيسان (أبريل) 2024

بلسانٍ عبريٍ أرعن!

الأربعاء 24 نيسان (أبريل) 2024 par محمد هلسة

أظهرت الحدة والغضب الإسرائيليان، اللذان صاحبا مداولات مجلس الأمن، خلال مناقشة طلب فلسطين منحها العضوية الكاملة في الأمم المتحدة، أحد عوارض الموقف الإسرائيلي القديم الجديد، القائل “إننا نستطيع أن نفعل أي شيء ولن يحدث لنا أي شيء”.

أثارت التعبيرات التي استخدمها سفير “إسرائيل” في الأمم المتحدة، عبر وصفها بـ“منبر للإرهاب”، حالة من الاشمئزاز من مدى ما يمكن أن تذهب إليه “إسرائيل” في تحقير المنابر والهيئات الدولية المتعددة ورموزها، حين تحاول هذه المنابر التغريد، ولو كلامياً، خارج السرب الإسرائيلي وسرديته. هذا السلوك الإسرائيلي الأرعن، الذي ميّز زعماء “إسرائيل” وممثليها في الهيئات الدولة، قادهم على مدى أعوام إلى الهوس والغرور بشأن سلوكهم، عسكرياً وسياسياً، وكشف الغطرسة والسخرية الكاملتين واللتين يتعامل بهما هؤلاء مع الأجهزة والهيئات القضائية الدولية.

ولعل ما قاله نتنياهو لوزيرة خارجية ألمانيا في المكالمة الهاتفية المُحتدمة، والتي جرت بينهما قبل أيام، يعبّر عن اجتماع ذروتي الكذب والاستعلاء معاً، بحيث نُسب إليه قوله لها: “نحن لسنا كالنازيين الذين أنتجوا صوراً مفبركة عن واقع مُتخيَّل”! فمن في هذا الكوكب يُنتج صوراً مفبركة، ويعيش ويبني حياته ووجوده على التضليل واصطناع الأساطير والأكاذيب، إن لم يكن “إسرائيل”!

فهل يقف الشعور بفائض القوة، مقترناً بالدعم والتغطية الغربيين، فقط في خلفية هذا السلوك الإسرائيلي الأرعن، أم أن هناك كوامن من العُقد النفسية والأيديولوجية، التي تُحرك شعور الغرور هذا؟

يعتقد اليهود أنهم شعبٌ مُقدَّس، وأن الله اختارهم وفضّلهم على سائر شعوب الأرض، معتمدين، في هذا الزعم، على بعض نصوص التوراة التي كتبوها بأيديهم، فأغرقوا العالم في مصطلحاتٍ فِكرية تُوحي في أنهم حقاً جنسٌ مُميز وشعبٌ نقي، ناسين أنهم خليطٌ من شعوبٍ شتى، وأن كبار الكُتاب والمفكرين اليهود أنفسهم أنكروا ذلك، وسَخِروا مِن مجرد هذه الفكرة، وأثبتوا بالأدلة الدامغة أن الشعب اليهودي هجينٌ، فلا يُمكن أن يكون شعباً مميزاً أو جنساً نقياً، ناهيك باعتقاد الاختيار والاصطفاء من الله.

هذا الاعتقاد ليس أمراً عرضياً أو ظرفياً في سلوك “إسرائيل”، بل هو مُركّب عضوي أساسي في الصيغة اليهودية، وهو ما يتضح من رصد الأساليب الفكرية والعقائدية والنفسية، التي تربى عليها اليهود عبر العصور والأزمان، وما أفرزته من ممارسات سلوكية مع الذات اليهودية، ومع الآخر تحديداً، بحيث يبدو جلياً هذا الترابط عند الصهاينة بين الفكر والسياسة، والعقيدة والسلوك، كما بين الخرافة والأسطورة من جهة، والواقع والحقيقة من جهة أخرى. وهذا ما يكشفه البحث في مُركبات الذهنية الإسرائيلية المعاصرة، بأصولها الصهيونية ومرجعيتها التوراتية التلمودية.

تلك إذاً هي العقيدة المؤسِّسة للغطرسة، والتي تدعي الصهيونية أنها تستلهم ما تفعله منها، على قاعدة “الشعب المختار”، والتي تحوَّلت إلى مرجعية عقدية تزعم الاصطفاء والاستثناء، وتدّعي القداسة، وتمارس الاستعلاء والعداء تجاه الآخر، “الغوييم”، من غير اليهود. إن قراءةً متأنيةً في هذه الأفكار تُظهر بوضوح الترابط المُحكم بين المرجعية التوراتية والتلمودية والنماذج السلوكية للسياسة الإسرائيلية، التي أنتجت الاستعلاء والكراهية لكل ما هو غير يهودي، حتى أصبح الأمر ثقافةً أكثر من كونه أيديولوجيا وسلوكاً كامناً في صميم الشخصية الإسرائيلية وبنيتها الأساسية، أو رد فعل أو خياراً أو إجراءً موقتاً أو ظرفياً مرتبطاً مثلاً، نظراً إلى تصاعده وغلوّه، بالحرب التي تخوضها “إسرائيل” اليوم ضد قطاع غزة.

وهذا بالضبط ما يفسّر سلوك ممثلي “إسرائيل” تجاه النقد، من أي جهة كان، حتى لو كان من الأميركي، الحليف الاستراتيجي، الذي ما كان لـ“إسرائيل” أن تتنفس هواء فلسطين من دونه، فهي لا تعيش إلا في مناخ العدوان والحقد وكراهية الآخر، على نحو لا يُفسح مجالاً لأي مستوى من التساهل والرحمة. ففي هذا النوع من المشاعر نفي للذات وإعدام لمبرر الوجود الإسرائيلي القائم على مثلث العنف والاستيطان والعنصرية. ومن هنا، جاءت ردود الفعل تعصباً في الفكر وشذوذاً واستعلاءً في الممارسة.

ولعلَّ أهم مظاهر سيكولوجيا الغطرسة الإسرائيلية تتبدى في حالة عدم اكتراث الرأي العام الإسرائيلي لكل ردود الفعل التي تثيرها أعمال القتل الجماعية للآلة الحربية الإسرائيلية في قطاع غزة، إذ يتشكل نمطٌ سلوكي لدى الإسرائيلي يقوم بإزاحة القلق وحل الأزمة عن طريق التغاضي عن المشاعر “الغيرية”، من خلال إنكارها وإلقاء المسؤولية على الضحية نفسها. ومن يخرجْ من الإسرائيليين عن آلية الاستعلاء هذه يُنعَتْ بالخيانة ويجرَّم. ومن يندمجْ ويتماهَ معها، يصبحْ بطلاً أو “مواطناً” صالحاً.

ولأن المنظومة الفكرية “التوراتية التلمودية”، التي يستند إليها الصهاينة، تقوم على أن اليهود هم شعب الله المختار، أما سائر الشعوب فهم “غوييم”، أي أغيار أغراب، خلقهم الله على هيئة بشر ليكونوا في خدمة بني إسرائيل، فإن هذه الثقافة الانغلاقية تجعل “الأغيار” شعوباً من الدرجة الثانية، خارج دائرة القداسة، وليس ثمة ما يمنع هدر حقوقهم أو تحقيرهم، في حال تعارضت مصالحهم مع مصالح “شعب الله المختار”، أو سمحوا لأنفسهم بمجرد انتقاد هذا الشعب!

مع كل ما سَلف، لم يكن للنفس الصهيوينة أن تصل إلى هذه الحالة المنفلتة من الاستعلاء والغطرسة لولا أن قيادة الحركة الصهيونية أدركت، منذ البداية، استحالة إقامة دولة صهيونية في فلسطين وحمايتها من دون اعتماد لغة القوة والسلاح والعنف.

واليوم، باتت القوة والعنف تقليداً يُقتدى به في “إسرائيل”، جيلاً بعد جيل، وباتا محوراً مهماً وأساسياً في صياغة السياسة الإسرائيلية على الصعيدين الداخلي والخارجي، تغزو وتسطو وتعلو عبرهما. وغني عن القول أن ما ساعد على تفشي هذه الروح الاستعلائية وهيمنتها في المجتمع الإسرائيلي إنما هو القوى التي تُمول أوهام “إسرائيل” وأساطيرها، وتجتهد للتغطية عليها وعلى جرائمها في كل المحافل الدولية، انطلاقاً من حرص هذه القوى على دور “إسرائيل” في الدفاع عن المصالح الإمبريالية الاستعمارية في المنطقة.

يدرك الدارسون للمجتمع الإسرائيلي عمق مواقف الكراهية والغطرسة تجاه “الأغيار” كافةً، في مجتمع يؤمن بأن الحق للقوة، التي تبدو في نظر “مواطنيه” أفضل حل لجميع المشاكل. فخلال الأعوام الماضية عاشت “إسرائيل” في حلم، بحيث آمنت حقاً بأنه لا توجد قوة في الشرق الأوسط يمكنها هزيمتها، وهو استنتاجٌ تتحمل مسؤوليته الحصرية الانظمة العربية الرسمية، والتي خاض بعضها حروباً خاسرة ضدّ “إسرائيل”، ضخّمت لديها عُقدة الاستعلاء والازدراء للعرب تحديداً.

لذلك، لا غرابة في أن نتنياهو، الذي أمضى أعواماً طويلة في اللامبالاة والعمى، وحكومته اليمينية المتطرفة، يُبديان اليوم قدراً كبيراً من الازدراء، الذي لم يسبق له مثيل، تجاه المجتمع الدولي بعد أن أصابتهما الغطرسة وأسكرتهما السلطة المطلقة، فباتا يهاجمان بكل صلف حلفائهما، تماماً كما خصومهما، داخلياً وخارجياً.

ترتكب “إسرائيل” خطيئة الغطرسة مراراً وتكراراً، تماماً كما لو كانت طفلاً صغيراً يجد نفسه في غرفة أمام مرآةٍ مُكبِّرة، ويخطئ في الاعتقاد أن الصورة المشوَّهة “للعملاق” الذي يقف في مواجهته حقيقية.

لقد حان الوقت لـ “إسرائيل” أن تفيق، وأن تتوقف عن هذه الغطرسة العمياء، والتي تجعلها تظهر لنفسها في كل مرة، ولو للحظة، كعملاق، في حين تتبدى، مع مرور الوقت، في عيون الفلسطينيين والعرب، وربما سائر العالم، قزماً صغيراً.

وبالتأكيد، لن تتعلم “إسرائيل” النزول عن رأس شجرة الغطرسة هذه إلا بالطريقة الصعبة والمؤلمة جداً، وهي تعلم بأن أغلبية الكوارث والمآسي، التي تحل بالشعوب والأمم، وحتى انهيار الإمبراطوريات، مصدرها الغطرسة الرعناء.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 56 / 2340553

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 19

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28