] حائط الصد المصري - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020

حائط الصد المصري

عبد الحليم قنديل*
السبت 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020

لا أذكر اسمه، ليس تعاليا ولا ازدراء يستحقه، بل التزاما بقرار نقابة الصحافيين المصريين، التي دعت منتسبيها إلى عدم نشر اسمه وأخباره وصوره، وتضامنت مع نقابة الممثلين المصريين، ونقابات المهن الفنية، التي أصدرت قرارا بوقفه عن التمثيل والغناء، وإحالته للتحقيق النقابي في جريمة تطبيع مع كيان العدو الإسرائيلي، ارتكبها بالظهور والتصوير في «دبي» مع مطرب ورجل أعمال إسرائيلي، وأقامت عليه الدنيا فلم تقعد بعد في مصر، وهو ما أثار غضب ورعب الخارجية الإسرائيلية رسميا.
ورغم مرور نحو 42 سنة على عقد ما تسمى «معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية» وقدوم أول سفير إسرائيلي لمصر في 26 فبراير 1980، فقد ظل التطبيع جريمة سالبة لشرف مرتكبيها الشخصي والمهني، ليس رسميا بالطبع، فالقانون الرسمي يصادق إسرائيل، وهو وضع شائن مرفوض شعبيا على توالي العهود والعقود، وفي كل دوائر عمل وحركة النقابات العمالية والمهنية، ففي أرشيف النقابات جميعها، وفي تراثها الوطني المرجعي، قرارات لجمعياتها العمومية بالإجماع، تلزم الأعضاء بعدم التطبيع الشخصي والمهني، وإلى أن تعود للشعب الفلسطيني كل حقوقه وأراضيه، وقد جرت أحيانا اختراقات لحائط الصد الشعبي، كان بعضها للأسف بطلب مباشر من السلطة الفلسطينية نفسها، لم يعتد به أبدا لدى تيارات الحركة الوطنية والنقابية المصرية، التي داومت حرصها على ازدراء المطبعين، وعقابهم بالشطب أحيانا، كما جرى للكاتب المسرحي الراحل علي سالم، أو الإحالة لمجالس التأديب النقابي، كما جرى للكاتب الراحل لطفي الخولي، وغيره من أعضاء «جماعة كوبنهاغن» التطبيعية، وإن لم تطل أيدي النقابات آخرين غير نقابيين، من نوع المتوفى مؤخرا أمين المهدي، أو مراد وهبة أستاذ الفلسفة تسعيني العمر، الذي انقطعت صلته من زمن بنوادي هيئات التدريس الجامعي، وهي الأخرى ملتزمة بقرارات رفض التطبيع، وعلى نحو جعل وهبة يشعر بقوة الحصار المضروب حوله، ويشكو في مقالاته المخزية الناضحة بمحبة إسرائيل، ويقول بألم مفتعل «لقد صرت وحيدا» و»أحاور نفسي».

وقد لا نحتاج إلى مراجعة دفاتر النقابات المصرية، فأعضاؤها يختلفون في كل شيء، تماما كما أعضاء الأحزاب الطليقة منها والمحاصرة، لكنهم يداومون الاتفاق ضمنا وتصريحا على رفض التطبيع مع العدو الإسرائيلي، ولا يجرؤ مطبع على إعلان تطبيعه من دون ثمن احتقار شعبي مدفوع، بل يفعلها المطبعون خلسة، ومن وراء ستار المهام الرسمية، على طريقة المتورطين في اتفاقات «الكويز» و»الغاز» الرسمية، التي لا تلقى رواجا ولا تأييدا في البيئة الشعبية المصرية، ما يدفع المطبعين غالبا إلى إنكار جريمتهم، والتنصل من الفعلة بادعاء الغفلة، وعلى طريقة ما فعله ويفعله الفنان إياه، المدان بواقعة تطبيع «دبي» وادعاؤه أنه لم يكن يعرف هوية الذين ظهر معهم في الجرم المشهود.
وقد لا يتسع المقام لذكر العشرات من تجارب ولجان مقاومة التطبيع في مصر، ولا تظاهرات واحتجاجات المثقفين بالمئات، فلم تكن القصة أبدا عملا نخبويا معزولا، بل معركة وطنية كبرى، سقط فيها الشهداء، وحجزت حريات المئات، بل الآلاف، وجرى تعميدها بقداسة التضحيات، بدأت المعركة من أول يوم تطبيع، فوقت تسلم الرئيس الأسبق أنور السادات لأوراق اعتماد إلياهو بن أليسار، أول سفير للكيان الإسرائيلي إلى مصر، وفي اللحظة ذاتها، ظهرت بطولة أول شهداء الحرب ضد التطبيع، وبفعل مقاوم تلقائي من سعد إدريس حلاوة، وفي قرية على بعد ثلاثين كيلومترا من قلب القاهرة، اسمها «أجهور الكبرى» خرج فيها سعد، الذي كان يعمل فلاحا، وحمل حقيبة وضع فيها مسدسه المرخص، واحتل المجلس المحلي للقرية، وطالب بطرد السفير الإسرائيلي من مصر، وإلا قتل نفسه مع الموظفين في المبنى، الذي أذيعت منه خطب جمال عبد الناصر وأغاني عبد الحليم حافظ الثورية، وإلى أن شنوا عليه حملة أمنية بقيادة وزير داخلية السادات وقتها اللواء النبوي إسماعيل، وسقط الشهيد مضرجا في دمه الطاهر، وأطلق عليه نزار قباني وقتها لقب «مجنون مصر الجميل» ولم يحل استشهاده الدامي دون تدفق نهر الفعل المقاوم، حتى مع اغتيال السادات نفسه في حادث المنصة، لتتوالى بعدها التحركات الشعبية السلمية والمسلحة، وكانت في غالبها من إرث ومعين جمال عبد الناصر، فقد جاء موسم محمود نور الدين، وهو ضابط مخابرات سابق، استقال من عمله في السفارة المصرية في لندن، اعتراضا على زيارة السادات للقدس المحتلة في نوفمبر 1977، وأصدر مجلة «23 يوليو» واستعان بعدد من الكتاب الناصريين، كان أبرزهم الراحل الكبير محمود السعدني، وسرعان ما توقفت المجلة لنفاد التمويل، وعاد نور الدين إلى مصر عام 1983، وراح يؤسس منظمة سرية مسلحة، حملت اسم «ثورة مصر» جعل هدفها مطاردة وتصفية رجال المخابرات الإسرائيلية في القاهرة، ونفذت عمليات موجعة دقيقة، قتلت وأصابت رجالا ونساء من «الموساد» من مثل زيفي كيدار وألبرت تراكشي وإيلي تايلور وغيرهم، ثم طورت نشاطها باستهداف رجال المخابرات الأمريكية في القاهرة، إلى أن جرى كشف المنظمة بعد ثلاث سنوات، بخيانة أحمد عصام شقيق نور الدين نفسه، وبتعاون «الموساد» و»سي. آي. إيه» مع السلطات المصرية وقتها، وجرت محاكمة نور الدين ورفاقه، وكان المتهم الثاني في القضية الدكتور خالد جمال عبد الناصر، وحكم على نور الدين بالأشغال الشاقة المؤبدة، ومات في سجنه في طرة عام 1998، وكانت عقيدته ألا يغتال مصريا مهما كانت درجة الخلاف والخصومة معه، ثم كان إلهامه متدفقا.
وتوالت أعمال بطولية لجنود مصريين في الخدمة، خالفوا الأوامر الرسمية، واستخدموا سلاحهم «الميري» في قتل الإسرائيليين الغزاة، على طريقة الشهيد سليمان خاطر، الذي قتل سبعة إسرائيليين في شرق سيناء، خالفوا نداءاته بعدم السير في منطقة محظورة عسكريا، جرى الحدث في 5 أكتوبر 1985، وحوكم سليمان، ومات في سجنه في ظروف غامضة، وادعت السلطات وقتها أنه مات منتحرا، لكن فيض الإلهام الوطني لم يتوقف، رغم النهايات المأساوية.
وتفاعل جندي مصري آخر اسمه أيمن حسن مع كفاح الشعب الفلسطيني، وقرر الرد على مجازر العدو في الأرض المحتلة، وعبر الحدود بسلاحه وقنابله، وقتل في عملية فدائية واحدة مباغتة 21 ضابطا وجنديا إسرائيليا، جرت العملية في 26 نوفمبر 1990، واستشاطت إسرائيل غضبا، وحوكم أيمن حسن، وصدر الحكم بسجنه لمدة 12 سنة، خرج بعدها ليواصل حياته كالمعتاد، ولتلهم بطولته مواطنا مصريا آخر من محافظته نفسها «الشرقية» اسمه أحمد الشحات، عرف إعلاميا بلقب «رجل العلم» تسلق عمارة من 25 طابقا، لينزع العلم الإسرائيلي ويرفع العلم المصري، كان ذلك في ذروة اقتحام وحرق السفارة الإسرائيلية على نيل الجيزة، جرت الواقعة في 9 سبتمبر 2011، وشارك فيها الآلاف من المتظاهرين، سقط منهم ثلاثة شهداء وجرح 1049 مصريا، ولم ينقذ المحاصرين بالنيران من موظفي السفارة الإسرائيلية، سوى تدخل الرئيس الأمريكي وقتها باراك أوباما، وطلبه من السلطات المصرية التصرف بسرعة، وكانت تلك نهاية قصة وجود مقر خاص للسفارة الإسرائيلية في مصر، تعمدت إسرائيل اختيار موقعه، بحيث يكون غرب النيل، في إشارة ظاهرة لشعار العدو «من الفرات إلى النيل.. أرضك يا إسرائيل» ومن وقتها، صار منزل السفير الإسرائيلي في ضاحية المعادي، هو نفسه مقر السفارة المفترض، المحاط بحماية أمنية مكثفة طوال الوقت، فالسفير لا يزور ولا يزار، وعندما قابله أحد أعضاء مجلس النواب المصري، كان عقاب العضو الطرد من البرلمان فورا، فلا يسمح باللقاء مع سفير العدو إلا عبر قنوات أمنية مغلقة، وكل زائر إسرائيلي عليه ألف عين تراقب، وحوادث اعتقال جواسيس لإسرائيل، لم تتوقف يوما في مصر، بعد أن نجحت الحركة الوطنية المصرية في حصار التطبيع العلني، ومنع مشاركة إسرائيل في أي مناسبة ثقافية أو اقتصادية مفتوحة، وغلق «المركز الأكاديمي الإسرائيلي» قبل حرق واقتحام السفارة، وكان المركز المريب يحتل مكانا مميزا في عمارة سكنية، كان يقيم فيها كاتب مصر والعرب الصحافى الأشهر محمد حسنين هيكل.
تلك مجرد إشارات عابرة لملاحم الشعب المصري في رفض التطبيع، وهي التي صنعت حائط الصد العظيم لاختراقات المنبوذين، من نوع الفنان الذي لا نذكر اسمه، وتلال الإغراءات المبذولة لتلويث سمعة مصر والمصريين، وهم الذين قدموا مئة ألف شهيد وجريح في حروب الدم مع كيان الاحتلال.

كاتب مصري*


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 10 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات وقضايا   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

35 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 35

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28