] صبية التطبيع… عن مناوشةٍ تافهة في حرب التطبيع الكبيرة - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020

صبية التطبيع… عن مناوشةٍ تافهة في حرب التطبيع الكبيرة

يحيى مصطفى كامل*
السبت 28 تشرين الثاني (نوفمبر) 2020

هناك شخص شاب، تصلني أخباره على صفحات الجرائد وقد يطل عليّ من شاشات التلفزيون، يقال إنه ممثلٌ ومغنٍ، وثمة من وصفه أو يبدو أنه وصف نفسه بـ»نمبر وان» ولا بد أن أعترف بأن ذلك أغاظني بقدر ما أثار تعجبي المستنكر، لا لرأيه في نفسه، أو من شاركه فيه ولا من «نجمه» بل لأني لما كنت شاهداً متابعاً لركاكة الإعلام والمذيعين اللغوية، ناهيك من السيسي (هذا لم يصل إليه بعد مفهوم «الجملة المفيدة») والسياسيين والقضاة الذين لا يستطيعون أن يكملوا جملةً واحدةً بعربيةٍ سليمة، من دون أن يرفعوا مفعولاً وينصبوا فاعلاً، فإذا بنا والفلاحة، ما شاء الله قد «قطعت بعضها» فصرنا نستعير ألفاظا من لغاتٍ أخرى، نحن أقل إجادةٍ لها في برج بابل الذي نعيش فيه، وهي في حقيقة الأمر كلها شواهد عن حالة السيولة والتخمر والتيه، الذي يسيطر على مجتمعاتنا، نتيجة عوامل عديدة أدت في النهاية إلى تمكن عقدة الخواجة منا (حتى حين يكون وضعه متأزماً) وإلحاحنا اليائس على الاقتران به، على الرغم من احتقاره لنا وفق المثل الشعبي المصري (بتصرف) «ضعني في ركاب من لا يحس بي».
ولكي أثبت أنني لست معزولا في برجٍ عاجي، فسأعترف بأنني أيضاً أوليت قضيته التي ورط فيها طياراً طرفاً من اهتمامي وتركيزي، لا لشيءٍ سوى شعوري بالأسف على ذلك الطيار الذي أوذي بسبب صبيٍ تافهٍ يلعب. لقد اخترت إرادياً أن أنصرف عن هذا الشاب وما يمثله، لأنني وإن كنت أدرك وأقر بأنه يعبر عن واقعٍ، وأن له جمهوراً إلا أنه وذلك الواقع لا يعجبانني ويرمزان إلى كثيرٍ (إن لم يكن كل) ما أراه قبيحاً وأرفضه، مما آل إليه أمرنا، لاسيما وأنه سوق في بداياته (وربما إلى الآن) على كونه شبيهاً بالراحل أحمد زكي، فمن ناحيةٍ للراحل مقدرةٌ فذة ومكانةٌ بين جيلي لا أرى رمضان يقاربها، ومن ناحيةٍ أخرى لا أحب حكاية «الأشباه» هذه فأحمد زكي لم يعجبني مقلداً لعبد الناصر والسادات، كما أننا لدينا ما يكفي من «الأشباه» تشهد بها وفرةٌ من أشباه المعارك وأشباه الانتصارات، وأشباه الرجال وأشباه المواقف، وأشباه الآراء وأشباه الدول، ليس أكثر من «الأشباه» لدينا فنحن نعيش عليها وفيها.
المهم، في زيارةٍ دُعي إليها إلى الإمارات التقطت صورٌ له مع مغن إسرائيلي، وأيضاً وهو يرقص الـ»هافا ناجيلا» الرقصة الإسرائيلية المميِزة والأشهر ربما، التي تكاد أن تكون رقصة قومية كالدبكة لدى شعوبنا على سبيل المثال، فلم يلبث أن صار محل هجومٍ وغضبٍ حتى من قبل إعلاميي النظام، ما وصل حد أن كانت نقابة المهن التمثيلية في سبيلها إلى شطبه وقت كتابة المقال.
للحق لقد تعجبت من حدة رد الفعل هذه، التي إن كانت محمودة من ناحيةٍ ما وواجبة من منطلق المبادئ بكل تأكيد، إلا أنني أرى السمة الغالبة عليها هو الهزل، وانعدام الجدية في التعامل مع الواقع، سواءً أكان ذلك من المهاجمين من إعلاميين (تابعين للنظام في الحساب النهائي) أو من المبدأيين الذين رأوا في ردة الفعل الغضوب هذه هبةً شعبيةً رافضة للتطبيع.
مبدئياً يتعين علينا أن نسأل: من هو المطبع بـ«أل التعريف»؟ من الذي أوصل رمضان وغيره للرقص على هذا المسرح؟ من الذي ابتذل صراعنا مع الكيان الصهيوني حتى صار التعامل والتطبيع، ومن ثم العمالة والوكالة له مجرد «وجهة نظر» وأسلوب حياة؟
آمن السادات بأن 99% من أوراق قضية الصراع في الشرق الأوسط بيد أمريكا؛ أعرب عن رأيه هذا وأعلنه في العديد من المناسبات، حين صار رئيساً، وتتضافر الشواهد والوثائق على علاقته السابقة بالولايات المتحدة من قبل، عبر وساطة سعودية متمثلة في كمال أدهم رئيس مخابراتها آنذاك، لذا فقد اتجه صوبها وغازلها، محاولاً تجنب الحرب، ولم يفعل إلا حين دفعه صدودٌ أو عدم اكتراثٍ أمريكي. في المحصلة أتم فك الارتباط مع الاتحاد السوفييتي، وارتمى تماماً ونهائياً في حضن الولايات المتحدة التي «نجمته» (كمحمد رمضان) وصولاً إلى كامب ديفيد، ثم لم تلبث دولٌ عديدة أن حذت حذوه، وتبين لاحقاً أن علاقاتها مع الكيان الصهيوني (الأردن خير مثال) أسبق وأمتن من السادات. من مستتبعات الانضمام لهذا المعسكر الرأسمالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة، التسوية، ومن ثم التطبيع مع إسرائيل، على الأقل في السر، ريثما يتم الإعداد والتمهيد للخروج للعلن، فتلك باقة، أو حزمة تأتي مجتمعة فتحكم العلاقة، بل وبلغ من السذاجة وانعدام الفهم لطبيعة الأمور بالسادات أن تصور أن بمقدوره أن يحل محل إسرائيل.
أما في التاريخ الأقرب فهناك الاتفاق الحديث جداً بين الإمارات وإسرائيل، ولقاء بن سلمان مع نتنياهو. ربُ البيت ممثلاً بالأنظمة، متصالحٌ مستسلمٌ مطبع. على صعيدٍ آخر هناك إشكالية (والأدق أن نقول جريمة وخطيئة) هذه الأنظمة في إداراتها وتحليلها لطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، حين كانت تقاوم، أو على الأقل تتظاهر بذلك، فقد غرست في الشعوب وعياً زائفاً مزوراً ورديئاً سيقت الشعوب بموجبه لصراعها على أرض الهوية، ممثلة في القومية (عربي ضد إسرائيلي) والدين (مسلم ومسيحي ضد اليهودي) أو دفاعاً عن حقوق الفلسطينيين، فلم تلبث أن انفجرت إشكاليات الهوية في وجوه شعوبنا جميعها، في صورة أقلياتٍ كبيرة لا تحسب نفسها عربية خالصةً، أو رافضي الفكر القومي العربي برمته، في ظل جرائم الأنظمة المتوحشة – المسوخ التي أفرزتها تنظيماتٌ، قوميةٌ عروبيةٌ كالبعث في العراق وسوريا، على سبيل المثال، ونتيجة سلسلة من التفاعلات السلبية مع بعض الفلسطينيين، كما حدث في الأردن ولبنان وتلال التشنيع من قبل الأنظمة، تحور الفلسطيني في خطاب بعض الشرائح والطبقات المستفيدة والحاكمة فصار هو the villain أو»الشرير» في سرديات تلك الأنظمة، ثم تسربت تلك الفرى والمفاهيم المغلوطة للجمهور الأوسع، عبر وسائل إعلامٍ تسيطر عليها بصورةٍ شبه تامة هذه الأنظمة والنتيجة فريدة: تشويهٌ وتزييفٌ لوعي مزيفٍ ومشوهٍ من الأصل! أما رافضوالتطبيع على أرض الهوية الدينية، فيتم التأثير فيهم والحوار معهم بألعاب الفتاوى، والفاصلة في النص، والمعاني المستبطنة، والقراءات المختلفة إلخ، وإن كنا نقر بأن كثيرين منهم ربما أصعب مراساً وأعند، إلا أن تأثيرهم في المحيط الأوسع ما يزال محدوداً، نظراً لحدتهم وتطرف مزاجهم وأفكارهم.

الأفضل بعد أن نسخر وننتقد رمضان ومن سيحصله بعد بالون الاختبار هذا، أن نصوب سهام نقدنا وغضبنا نحو الأنظمة التي هزمتنا وأذلتنا

كان من المفترض أن يُخاض ذلك الصراع لا على أرضية العداء لليهود، كأصحاب ديانة فهم بشر، بل على أرضيةٍ أوسع، أرضية الحق، حق الجميع (بما يشمل العرب والفلسطينيين) في الحرية والحياة الكريمة والحقوق والحريات السياسية المتساوية، على أرضية كون إسرائيل هي القلعة المتقدمة لرأس المال الغربي، زرعت في منطقتنا لتمتص الثروات وتتيح السيطرة على الممرات المائية الأهم، وتعرقل مشاريع الاستقلال والتحرر والتنمية والتطور، صوب بناء مجتمعاتٍ حرة تستوعب كل المواطنين على اختلاف عروقهم ومذاهبهم.
من رحم تلك التشوهات وانطلاقاً من مصالح سلالاتٍ حاكمةٍ في الخليج، ورأسمالٍ يتمترس وراء طغمٍ عسكريةٍ متسلطة، يتحالف معها، ترسخت قناعةٌ بأن إسرائيل هي خير محامٍ، أو من يقوم بدور «اللوبي» في أمريكا نيابةً عن هذه الأسر، خاصة في صراعٍ يرونه مقبلاً وحتمياً مع إيران، ومن جانبها تراهن إسرائيل لا على تلك المصلحة الآنية الضيقة، وتهافت الأنظمة على البقاء فحسب، ولكن على معرفتها الجيدة بضعف هذه المجتمعات المُجهلة مشوهة الوعي، التي أنهكها الفقر والمعارك والحروب الخائبة.
محمد رمضان ليس الفاعل ولكن الممثل، والنتيجة لتلك الحالة «المستنقعية» والطرح لغرس التجهيل واللبس والوعي أو اللاوعي الرديء؛ جل ما يعرفه أن يرقص ويغني على زمر الطبال الجالس على الكرسي، بذكاءٍ غريزيٍ ضيق، يركض وراء أكل عيشه ولقمةٍ بدت شهية، هدايا ثمينة و»إقامةٍ ذهبية».
وعلى صعيدٍ آخر أكثر منهجيةً تتشارك فيها الأنظمة العربية مع الكيان الصهيوني برعايةٍ غربية (أمريكية في المقام الأول) فهناك مشاريع دؤوبة للتطبيع، رُصدت لها ميزانيات ضخمة كـ«المجلس العربي للتكامل الإقليمي» رصدها جيداً بتأن وتحرٍ ودقة الصحافي المصري ماجد عاطف، في مقاله «بين ليلةٍ وضحاها.. كيف يعمل البعض على تحويل التطبيع من وصمةٍ إلى واجب». قد لا يعجب بعض كلامي (أو كله ربما) الكثيرين ممن يريدون أن يروا تصرفاً فردياً من قرة جوزٍ تافه في مقابل شعوبٍ راسخةٍ كالجبال، والحقيقة، للأسف أبعد ما تكون عن ذلك. لقد هُزمت ثوراتنا، نتيجة عدم الاستعداد تنظيمياً، ولا الإيمان بإمكان حدوثها من ناحية، وفي مرحلةٍ لاحقة لعدم فهم واقع الناس وطريقة تفكيرهم وأولوياتهم واحتياجاتهم، لعدم الوقوف على مدى البؤس الذي وصلوا إليه، لذا فنحن لا نملك الآن رفاهية توهم شعبٍ بصفاتٍ معينة وتصور ردود أفعالٍ لن تحدث نتيجة الإرهاق والوعي المزيف؛ أما في الشأن التطبيعي فالأفضل بعد أن نسخر وننتقد رمضان ومن سيحصله بعد بالون الاختبار هذا، أن نصوب سهام نقدنا وغضبنا نحو الأنظمة التي هزمتنا وأذلتنا، وعوضاً عن البردعة فلنتشطر على الحمار، وهم ذلك بالفعل.

كاتب مصري*


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 88 / 2342227

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات وقضايا   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

33 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 33

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28