هل يأتي نظام عالمي جديد بعد أن افترست “الإنسانية”؟

جودة مرسي

السبت 4 نيسان (أبريل) 2020

خيمت الانعزالية على العالم، وصارت شبحا ظاهرا للعيان، النظام الدولي انفرطت حباته، والدول أُرهبت، والشعوب ابتليت، والمجتمعات اندثرت في محيطها المحلي، والأسر حبست، والأفراد ارتعدت، وظن غالبية البشر أن اقتربت الساعة وانشق القمر، وهاجس الخوف حشر الأرواح في الحناجر، وأبناء آدم باتوا عن أمور دنياهم غير عابئين، ومن الموت بالوباء جزعين.
إنها ليست القيامة، بل النظام العالمي ينضح علينا بمكنوناته، فالإنسانية التي كانت هدفا ساميا وأبقى، دنَّسها النظام فأظلم وأطغى، فأسكنها المقابر ورفع الرأسمالية فوق المنابر، ولا يجد بدا في الاستمتاع بقطبيته الأحادية إلا عبر نصب المهالك، واقتلاع القيم من جذورها، واستعباد الضعاف للدولار، والزج بالكبار إلى شفا حفر النار.
أزمة فيروس كورونا المستجد صاحبها مشاهد توحي بأن النظام العالمي، بقواه وتكتلاته وإمكاناته وقدراته، لا يضع للإنسانية أولويات، ولا يولي الاعتبار إلا لمصلحته، ولكن الدول الضعاف ومحدودي القدرات ما زال منها من يتمارى، ولا يجد بدا للخلاص إلا للولوج تحت عباءة هذا النظام، ومنها من يتمسك بأواصر عروة الإنسانية.
إن إيطاليا ـ الدولة العضو في الاتحاد الأوروبي ـ ما زالت تصارع الوباء، وحين بلغت ذروة المأساة في حربها مع الفيروس لم تجد من يقف بجانبها من دول الاتحاد، ولم تجد اهتماما من الولايات المتحدة التي تمثل شرطي العالم وترعى دول الاتحاد الأوروبي وتخضعه لسياستها سياسيا واقتصاديا فقدت حتى معاونة حلفائها، حتى يوم أن أرسلت الصين لإيطاليا بعض المساعدات الطبية، وأثناء وقوف الطائرة في التشيك تم الاستيلاء على المعدات وتوزيعها على المستشفيات التشيكية، فما كان رد الفعل من البعض في إيطاليا إلا أن قاموا بإنزال علم الاتحاد الأوروبي واستبداله بالعلم الصيني جزاء وفاقا على مساعداتها السخية.
إيطاليا لم تستقبل أي مساعدات من دول الاتحاد الأوروبي، بل استقبلتها من دول تعاني أيضا من الوباء، فبخلاف الصين، أرسلت مصر بعض المساعدات الطبية، كما استقبلت روما طواقم طبية من روسيا وكوبا، وكل هذه الدول من خارج الاتحاد الأوروبي وبعيدة عن راية ولاء الراعي الرسمي للنظام العالمي.
ثمة مشهد آخر يستحق أن نقف أمامه، ففيه الكثير من المعاني، حين وقف الرجل الأول في صربيا ألكسندر فوتشيتش باكيا ومهاجما الاتحاد الأوروبي بعد قرار الأخير عدم إرسال معدات طبية إلى الدول غير الأعضاء، وقال إنه طلب من الصين جميع أنواع المساعدات حتى إرسال الطواقم الطبية، وانتقد بشدة تخلي الأوروبيين عن بلاده، رغم أنهم سابقا كانوا يطالبون صربيا بعدم شراء البضائع الصينية، وأوضح أن المساعدات التي أرسلتها الصين لبلاده في مواجهة فيروس كورونا “ستساهم في إنقاذ حياة آلاف المواطنين الصرب.. وأن الصينيين لم يظهروا لشعبه فقط الصداقة والحب، بل أظهروا التضامن”، مشيرا إلى أن بلاده لا ترد على ذلك فقط بشكل عاطفي بل بشكل عقلاني، وأنها لن تنسى هذا الموقف أبدا.
الصين لديها قدرات اقتصادية هائلة، وربما أنها لم تنجرف لمستنقع الرأسمالية المتشددة، فكانت أكثر الدولة التي مدت يد العون والمساعدة للعديد من الدول دون شروط سياسية أو إملاءات اقتصادية ـ رغم أنها أصيبت بالوباء ـ بل أوجدت علاقة ثنائية على نيران الخبرة الإنسانية في رحلة الحياة، فقبل أزمة كورونا مدت يد العون اقتصاديا للعديد من الدول في إفريقيا وآسيا، للتكامل بلا إقصاء، وبلا وضع أجندة سياسية لتلك الدول، وفي سبيل ذلك سعت إلى تفعيل وإنشاء الحلم القديم بربط العالم ببعضه عبر طريق الحرير والذي يعود إلى القرن الثاني قبل الميلاد.
أوضحت التأثيرات المباشرة لفيروس كورونا المستجد أن هناك معاني إنسانية أُهينت، ومحارم بشرية دُنِّست، وقيم طُويت، وسلوكيات وُئدت، وانتُهكت قواعد التعاون الدولي مع النظام العالمي الحالي، مما ينبئ أن العالم مقبل على شيء جديد، ربما يكون فيروس كورونا المستجد بداية له، قد تكون الصين هي القاعدة فيه بفكرها الممزوج بالاشتراكية مع الرأسمالية، وبدورها المؤثر في العالم اقتصاديا وماليا، ولم لا؟ فقد أطفأت من قبل العديد من الأنظمة التي فرضت على العالم أيديولوجيتها (الخلافة الإسلامية، التحكم الكنسي، الشيوعية، استعمار فرنسي وإنجليزي.. إلى آخره من هذه الأنظمة التي حكمت العالم) ولكن علينا ألا نتعجل النتائج كمن يرى المزارع يزرع مع شروق الشمس ويتوقع الحصاد قبل غروبها، وإنما مطالبون أن نقبض على القيم الإنسانية والروحية حتى لو كانت جمرا، وأن تقف المجتمعات أمام رياح النظام العاتية حتى لو كانت صرصرا، لأنه لا منجى من براثنه إلا تماسك البشر والوقوف ضد مخطط افتراس العالم.