] كورونا ( كوفيد 19) وأخلاق الأزمات - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 4 نيسان (أبريل) 2020

كورونا ( كوفيد 19) وأخلاق الأزمات

السبت 4 نيسان (أبريل) 2020 par رجب بن علي العويسي

يعيش العالم اليوم في ظل معطيات مرض كورونا المستجد (كوفيد 19) أزمة عظيمة وحالة عصيبة، وواقعا مريبا، ووضعا صعبا، وأمرا جللا لا يحسد عليه، إنه يعيش الأزمة بكل تفاصيلها، ويتعايش ظروفها ومعطياتها، ويعاني من آثارها وقوة تأثيرها، بما حملته معها من أحزان وما تركته من هواجس وأشجان، وما أوجده من وضع كارثي خانق تطلب مستويات عليا من الجاهزية والاستعداد والتفعيل لخطوط التأثير ذات العلاقة بالأزمة والكوارث، وتعزيز دور القطاعات المعنية بالإسعاف والإغاثة والإيواء أو تلك المرتبطة بجانب التوعية والإعلام ونشر الوعي بين السكان في التعامل مع الجائحة وبرامج التوعية والتثقيف الصحي والاجتماعي والأمني؛ وسيناريوهات العمل والأدوات والآليات التي تمثل خيارات وطنية في الحد من الاضرار المترتبة على هذه الجائحة، وهو أمر وضعته السلطنة في الحسبان وعملت مع دول العالم على اتخاذ تدابير وإجراءات احترازية للحد من انتشار الفيروس، ولعل وجود لجنة عليا مشكلة بأمر سامٍ في هذا الشأن بغية التعاطي النوعي الفعال مع مستجدات فيروس كورونا (كوفيد19)، خطوة استراتيجية في الاتجاه الصحيح، شكلت بمثابة مرجعية وطنية عليا تتفاعل فيها كل القطاعات وتتكاتف خلالها كل المؤسسات بما يضمن الوصول إلى الحكمة في القرار والسرعة فيه، وقد أثبتت فاعليتها وكفاءتها من خلال حزمة الإجراءات الاحترازية وعبر القرارات التي اتخذتها في التعامل مع هذه الجائحة في ظل تشخيص دقيق للواقع الوطني وقراءة فاحصة للمستجدات الدولية في التعامل مع هذه الجائحة، وعبر دراسة واعية لمواطن القوة والضعف التي ارتبطت بجهود الدول وتباينها في هذا الجانب، والاستفادة من المعطيات التي تؤسس لمرحلة القوة في التعامل مع متطلبات الأزمة، ولعل هذه الموجهات الوطنية المرتبطة بعمليات التنظيم والتفعيل ووجود المرجعية الوطنية الحاكمة في الأمر والتقنين والضبط وغيرها من المرتكزات التي انتهجتها السلطنة في إدارة هذه الأزمة والتعامل مع هذه الجائحة؛ شكَّل نواة وطنية لإدارة الأزمات ومدخلا استراتيجيا للوصول إلى الأهداف الوطنية العليا من هذه الجهود، وهي التقليل قدر الإمكان من عدد الإصابات المرتبطة بفيروس كورونا، وتكوين وعي مجتمعي عالي المستوى قادر على امتلاك الأدوات والآليات والتعامل مع المستجدات الحاصلة فيه بروح عالية المسؤولية وسلوك يتسم بالتوازن والمهنية.
على أن من أخطر وأشد التحديات التي تواجه الحكومات في إدارة الأزمات إنما يتعلق بما يصاحب هذه الجوائح والأزمات من ممارسات خاطئة أو يتداول من أفكار مغلوطة، وينشر من معلومات تفتقد للموضوعية والمصداقية، والتي ينشط فيها مروجو الإشاعة بشكل منقطع النظير، وتصبح عقدة الممارسة نتاجا لما يرتبط بهذه الجائحة من أحداث أو يتصل بها من قضايا وإشكاليات وما تواجهه عملية ضبط هذه الجهود وتفعيل خطوط التأثير المجتمعية المختلفة في الحد منها من إشكاليات أخرى تتعلق بمستوى الوعي المجتمعي بأخلاق الأزمات، ومدى قدرة المجتمع في ظل ما أتاحته منصات التواصل الاجتماعي والفضاءات المفتوحة من فرص شيوع المعرفة وسرعة الحصول على المعلومة وتداول انتشارها، في رسم صورة مكبرة للحدث والتي تتجه في أغلب الأحايين إلى سرعة الأحكام والحصول على المعلومات دون التقصي عن مصادرها الأصلية أو انتظار الحصول على المعلومة من جهات الاختصاص الرسمية المخولة بهذا المهمة؛ وما أوجده هذا التباين في ضبط هذه المنصات من تأصيل ثقافة الخوف والقلق وزيادة مساحة السلبية التي توصف بها الحالة، خصوصا في ظل تزايد مساحات القيل والقال واللغط واللغث وتداول المعلومات غير الموثقة التي أسهمت في زيادة حدة الأزمة وعطَّلت الكثير من الجهود الوطنية، وأسهمت في تشبع الشارع والجماهير بالأفكار السوداوية المغلوطة التي زادت من حدة الهلع بين الناس، وأسهمت في رفع درجة القلق لديهم أو نتيجة للتناقض في البيانات والاختلاف البيِّن في التعبيرات وكثرة الكلام المحبط والتفاسير الضيقة والآراء الشخصية التي باتت تدلي بدلوها في الحديث عن فيروس كورونا ومنشئه وأضراره ومسبباته وعلاجاته وطريقة انتشاره، كل ذلك وغيره أدى إلى هشاشة هذه المعلومات التي يتلقاها الشارع، وضعف مستوى اهتمامه بها أو تطبيقه للإجراءات نظرا لعدم ثقته فيها، والذي كان له انعكاساته السلبية في ظل فقه الأزمات على مستوى الجدية والحرص في الاستفادة من كل التوجهات الرسمية المطروحة والعمل بالتعليمات الواردة من جهات الاختصاص، فارتبطت التعامل مع هذه الجائحة بتزايد القلق والخوف وكثرة الشائعات والتأويلات والتفسيرات، وما يحصل فيها من تجاذبات وأحداث تجاوزت المقبول من القول والمحكَّم من الممارسة في ظل ما يسودها من غوغائية واندفاع وصراخ وتهريج ومزايدات وتكهنات ونكات وأضاحيك، وإثارة للأيديولوجيات في تفسير الجائحة ومصادرها ومسبباتها، فتداخلت حينها الأوراق، كل يصف الحدث ويقرأه بحسب لغته الخاصة ومذهبه ومدرسته واتجاهاته الفكرية.
من هنا جاء الحديث عن أخلاق الأزمات لضمان تأصيل ثقافة إنسانية قيمية مشتركة متوازنة قادرة على استيعاب ظروف الأزمة والاستعداد لها عبر استنطاق منظومة القيم والأخلاق والمبادئ والاستراتيجيات والآليات التي تضمن قدرة الفرد على التعاطي الواعي مع متطلباتها بمهنية عالية وعقيدة إيمانية راسخة تقلل من حجم الأضرار المترتبة عليها والمخاطر الناتجة عنها، وتظهر فيها أخلاقيات المواطن والمقيم في التعامل مع الأزمة والتكيف مع ظروفها والسلوك الذي يرافقه في كل مراحلها للوصول إلى إنتاج واقع جديد يتجاوز الأزمة ويزيل آثارها السلبية، فإن رهان العالم اليوم على الشعوب في رسم أخلاق الأزمات الخيار الاستراتيجي في التعاطي مع كورونا والحلقة الأقوى في الحد من انتشاره، بهدف إنتاج سلوك واعٍ رشيد، ومنهج أخلاقي حميد، وإدراك فكري يتسم بالقوة والمنهجية وحس الخطاب ومصداقيته، إنها مساحة تقارب فكري وأخلاقي لقياس مستوى الوعي المتحقق لدى المواطن ومدى قدرته على إعادة إنتاج المواقف والأحداث وقراءتها بطريقة إيجابية تحفظ للمجتمع هيبته وقوته، وتبرز أخلاقيات المواطن في قدرته على صناعة التحول وإدارة الأزمة وترقية الوعي وتصحيح المسار وتقويم اعوجاج الفكر ونقل صورة مكبرة للواقع النوعي الذي يعيشه الشارع في التعاطي مع كورونا وإيجابيته وثباته وتعاونه وتكاتفه وولائه وانتمائه، سواء عبر ردود أفعاله أو في طريقة تعامله مع قرارات اللجنة العليا، وما اتخذته من أطر ومسارات في التعامل مع هذه المواقف والأحداث والتعاطي معها بروح قوية وعزيمة وثابة وتجديد مستمر ونشاط هادف وأنموذج ريادي رائع في وضع القرارات الصادرة موضع التنفيذ، وثبات على المبدأ وقوة الوعي وسمو الفكرة ونضوج الثقافة وحس المسؤولية، وأخذ المعلومات من مصادرها الرئيسية، والابتعاد عن التكهنات والأفكار والوساوس التي تحاول أن تزرع في سلوك المواطن هواجس الخوف والقل، وزيادة مساحة الابتعاد عن الهدف أو تشتيت الانتباه وإثارة الرأي العام بقضايا أخرى قد تتقاطع مع أولويات وتوقعاتها نحو انحسار المرض والمؤشرات التي رسمتها في القضاء عليه، والإجراءات التي اتخذتها وتوصي به، سواء بالتقيد التام بإجراءات العزل الصحي، وعبر البقاء في المنزل وهو الأساس، بالإضافة إلى تعزيز مساحات التباعد الاجتماعي ومنع الاختلاط والتجمعات العائلية والاختلاط المباشر بالمصابين أو القادمين من خارج السلطنة، بالإضافة إلى التزام الثقافة الصحية والتعليمات الواردة من جهات الاختصاص المتعلقة باتباع العادات الصحية عند العطس والسعال والمداومة على غسل اليدين بالماء والصابون واستخدام المعقمات وغيره.
وعليه فإن قدرة المواطن على صناعة التحول في سلوكه والإيجابية في قناعاته حول الأزمات وحسن إدارته لها عبر استنهاض روح المبادرة نحوها وتعزيز حصن المسؤولية تجاهها وتوفير مساحات أمان لنمو المفاهيم الداعمة للحد من تأثيراتها على الوطن والمواطن، وعبر تأصيل فقه التكامل والتعاون وحس المسؤولية والالتزام بتعليمات اللجنة العليا والانقياد الطوعي لها لما فيه الصالح العام وتحقيق السلامة والأمان وتقليل المخاطر المترتبة عليها، وتقوية عنصر المناعة لدى المجتمع عبر تكاتف الجهود وتعاونها وارتقائها، بما يعزز في ذات الفرد قيم الأمانة والمصداقية والإخلاص وحب الخير والتطوع والولاء والانتماء والالتزام، والتي بدورها تؤسس لمرحلة متقدمة من الوعي وإدراك المخاطر وانتزاع حاجز الرهبة والخوف والانطوائية على النفس والتواكل أو الاستهتار وعدم المبالاة بالخروج من المنزل والتجمعات العائلية أو الاجتماعية أو الشللية بين الأصدقاء؛ إلى اتخاذ كافة إجراءات الحماية والاحترازات الوقائية بعدم الخروج من المنازل واتباع الإرشادات الصادرة من جهات الاختصاص ومعرفة خطوط الاتصال وقنوات التواصل في حدوث أي طارئ أو التعامل مع أي موقف، فإن تكوين هذا الشعور الإيجابي وتأصيل فقه إدارة الأزمات والحالات الطارئة الناتجة عن انتشار الأمراض والأوبئة وتقوية حس المسؤولية الاجتماعية في التكيف مع مستجدات الواقع ومنع أي مجال للإشاعة وتهويل الوضع؛ سوف يوفر مسارات أفضل في فهم مؤشرات تحقق واضحة حول مستوى انتشار المرض وآلية التعامل معه من قبل جهات الاختصاص، كما أن استثمار هذا الرصيد القيمي والأخلاقي والسلوكي والاجتماعي المعزز بخبرات سابقة وتجارب ماضية ومواقف رسم المواطن العماني فيها صورة أنموذجية من العمل الوطني المسؤول وتكاتفه مع قيادته والتزامه التعليمات والعمل بها؛ فإن ما عايشه العمانيون من أزمات وعاصروه من حالات مدارية وأنواء مناخية أنتجت فيهم قوة الإرادة وروح التحدي في إثبات حضور لهم في تعاطيهم مع الأزمات، حتى أصبحت شواهد إثبات على صبرهم وعطائهم واندماجهم والتزامهم، بما مكَّنهم من امتلاك مفاهيم إدارة الأزمات وآليات التعامل معها، وعزز من الأطر التشريعية والتنظيمية والبني المؤسسية في اتخاذ أسباب القوة والكفاءة في التعاطي معها حتى أصبحت بيت خبرة بالمنطقة وصاحبة شأن في ذلك، وهو النهج الذي يجب أن يقرأ فيه العمانيون تعاملهم مع كورونا (كوفيد 19)، مرحلة لإعادة الأنفاس والتفكير خارج الصندوق والعمل معا في سبيل خلق تحول في طريقة المعالجة وآليات العمل، وتجريب المجتمع وتهيئته وإعداده للتعامل مع كل الظروف التي تتطلب منه أن يمارس دور التنفيذ والطاعة للأوامر والالتزام بها؛ تعبير صادق عن مستوى الوعي الذي وصل إليه والقيم التي يحملها في ذاته ويترجمها في ممارساته، وهي الطريق السليم لمعالجة الأزمة والخطوات الرئيسية في الحد من انتشار الخطر أو زيادة مستوى التأثير الناتج منها على المجتمع، عندها سيقل عدد الإصابات الناتجة عنها، ويزيد وعي المجتمع بمسؤولياته نحوها، وثقته بما اتخذته الجهات المختصة بالدولة من إجراءات لأنها تصب في صالحه، وتستهدف وصوله إلى أقصى درجات الأمان والسلامة والصحة، كما يقلل من مستوى الهدر الحاصل في الجهود أو التشتت فيها، وما ينتج عنه من قلة الاكتراث واللامبالاة وحالة الاستهتار بما يتخذ من قرارات أو يصاغ من توجيهات أو يتخذ من إجراءات.
من هنا فإن الطريق الأنسب لإدارة أي أزمة أو جائحة يبدأ من كفاءة الإجراءات وفاعلية التوجهات وقدرتها على سبر أعماق المشكلة وإدارة واقع العمل وتماثل الجميع من مواطنين ومقيمين لهذه التوجيهات والتزامهم بها، فهي العامل الرئيسي في قدرة هذه الجهود الحكومية والقطاعية والمؤسسية على تحقيق تقدم نوع في الحل، والوصول إلى نتاج عملي واضح ينعكس على سلوك المواطن والمقيم وتعاطيه معها وتفاعله مع قرارتها، وبالتالي تهيئة المجتمع لتقبل الواقع القادم وموضع التحدي المتوقع، وتهيئته للظروف الأصعب التي سيتعامل معها بكل أريحية ويلتزم بتعليماتها بكل مهنية بما يعني تهيئة المجتمع والرأي العام لكل مراحل الأزمة ما قبل الأزمة ومستوى الجاهزية الوطنية والاستعدادات ووضوح مرجعية العمل والأدوات والآليات وكفاءة الإعلام في نقل الصورة، وكفاءة أجهزة الرصد الفوري لأبعاد الجائحة وفق ما تقوم به وزارة الصحة من حالات التقصي والرصد، وجهود اللجنة العليا المكلفة بمتابعة مستجدات مرض كورونا كوفيد 19، إذ من شأن وضوح الآليات وتكامل الأدوات وتقاسم المسؤوليات وتناغم أجندة العمل ووضوح أدوات الرصد الإحصائي والإعلامي وغيره؛ أن يصنع القوة في التعامل مع الحالة أثناء وجود المشكلة ذاتها، وهي المرحلة التي عززت جهود اللجنة العليا بما اتخذته من قرارات وإجراءات أصبحت حيز التنفيذ، وتعامل المجتمع معها بوعي ومهنية، وما ارتبط بها من تشريعات ولوائح وأنظمة أصلت لمفهوم الالتزام والضبطية وتطبيق العقوبات الرادعة لكل التجاوزات التي تخل بهذا الاتفاق الحاصل بين المجتمع والدولة في التعاطي مع هذا الوباء، ورصد هذه الحالات لإحالتها إلى جهات الاختصاص القضائية والضبطية والقانونية، إن من شأن النجاح في هاتين المرحلتين أن يؤسس لنجاحات قادمة لمرحلة ما بعد الأزمة أو الجائحة والتي عبر عنها بإنشاء صندوق وطني للتعامل مع الوباء يكون بمثابة محفظة مالية وطنية توجه إليها التبرعات المقدمة من المجتمع ليكون داعما للجنة العليا في تنفيذ قراراتها القادمة واتخاذ إجراءات أكثر عملية في هذا الشأن تعزز من رجوع الأمور إلى نصابها والأوضاع إلى حالتها الطبيعية.
وعليه، فإن الحديث نجاح وطني في التعامل مع هذه المرحلة الحرجة والأوقات العصيبة يرتبط بمدى ما يمنحه المواطن والمقيم من سلوك ويترجمه من مبادئ ويعايشه في ذاته من أخلاق وقيم وسلوكيات، ويرتبط بممارساته من استثمار للفرص وإنتاج للسلوك وتعزيز فقه إدارة الأزمات، فإن التحديات التي تواجه الدول في التعامل مع هذه الجائحة إنما يرتبط بالوعي المجتمعي والسلوك الأخلاقي والقيمي أكثر من توافر الموارد والممكنات، فقد رصدت الدول المليارات من الريالات لهذا الغرض حتى وصل بعضها إلى أكثر من 20% من الموازنات العامة، ويبقى نجاح هذه الموارد المالية مرهونا بتوافر عنصر أخلاق الأزمة في ذات المواطن وسلوكه وأولوياته، كونها تعبيرا عن مستوى التناغم القيمي والأخلاقي ومنظومة المبادئ والمفاهيم التي يلتزم بها الفرد في التعاطي مع الأزمة، فيقف عند حدوده ويعي مسؤولياته ويصنع في نفسه قدوة، ويؤطر في واقعه سلوكا نوعيا يتسم بالتوازن والاعتدال في الممارسة، وعندما تتوافر هذه المعايير وتتفاعل مع متطلبات الواقع وتنسجم مع الظروف والأحداث، عندها يصبح الالتزام الأخلاقي مدخلا للمعالجة وخيارا استراتيجيا يفوق كل الخيارات الأخرى، وهو امتداد لنجاحات متحققة ونواتج تعكس مستوى التقدم الذي وصل إليه المواطن في تعاطيه مع هذه الجائحة، وأخلاق الأزمات بذلك الطريق لاحتواء الأزمة وإنتاج قوة المجتمع في التعاطي معها وتشخيص واقعها وتوليد البدائل والحلول المناسبة وتعزيز بناء الفرص التي من شأنها صناعة الفارق في الممارسة، فتعمل في ظل ما تحويه من مفاهيم ومفردات وموجهات وفضائل ومبادئ وحقوق وواجبات والتزامات، على تكوين مساحات التقاء تتناغم فيها التوجهات باعتبارها رابطة مشتركة ومؤتلفا إنسانيا في قراءة هذه الجائحة والتعامل معها بوعي وصبر مع أخذ بالأسباب والالتزام بأساليب النجاح وأسباب الفلاح، بما تحمله الأخلاق من أدوات التصحيح وممكنات المعالجة، فتبني في المواطن عوامل القوة، وتنتج فيها مقومات الفعل الصائب والسلوك الحسن والممارسة الهادفة، وتؤسس فيه أرصدة التميز ومعايير النجاح؛ وتصبح أخلاق الأزمات عقيدة ومنهجا وسلوكا ومبدأ وسيرة ومسار عمل وفرصة للمنافسة والتسابق في بلوغ الفضل وتحقيق الجودة في السلوك، فإن التملص من الالتزامات الأخلاقية والقيم الإنسانية المرتبطة بالأزمة والجائحة جريمة لا تغتفر ومسارا يعاقب عليه المجتمع قبل القانون، إذ الجميع مشمول بالواجبات، مأمور بالطاعة، ملزم بالتنفيذ الطوعي والقسري إن لم ينفذه بالاختيار أو يلتزم به طواعية.
ويبقى أن نشير إلى أن أخلاق الأزمات ليست مجرد التزامات مكتوبة أو لوائح معلقة أو قرارات منشورة، بل هي استراتيجية حياة، ومسار عمل يقوم على بناء الإنسان الواعي والمساهم في إعادة هيكلة الواقع الناتج عن الأزمة، عبر ما يحققه من إنجازات وما يؤصله من قدوات وما يبنيه من قيم وأخلاقيات وما يبتكره من أدوات أو يساهم به في سبيل درء المخاطر ومعالجة الأزمة والوقاية من الجائحة، فهو يبدأ بالتزام الفرد وإعادة إنتاج سلوكه وإحداث التغيير في ذاته ونقلها من حالة الأنا والذاتية إلى المجتمعية والصالح العام؛ إذ إن الأزمات ليست حالة شخصية بقدر ما هي مرتبطة بالكل، وهو سلوك يرتبط بالتقارب الاجتماعي والتكاتف المجتمعي، إذ لا يصح معها المثل القائل “يوم تسلم ناقتي ما علي من رفاقتي” بل تحمل في ذاتها رسالة التعاون والتكاتف والتكافل وروح المجتمع الواحد في التفوق على نكباتها، والإيمان بالقدرة على تجاوزها، وإحياء الضمير المؤدي إلى نمو الهاجس الوطني في النفس وترقيته في الممارسة، فيصبح رهن وطنه، إذ كل ما يملكه إنما موجه لخدمة وطنه والذود عن حياضه ومساعدة المحتاجين والضعفاء وتعزيز العمل التطوعي عبر الانخراط في لجان الإسعاف والإغاثة والإيواء والدعم وغيرها، إنها تجسيد عملي للمبادئ الأخلاقية ووصف دقيق لها وتأطير فعلي لمتطلباتها في الواقع العملي، وكما يقال: “في الأزمات والشدائد تظهر معادن الرجال”، و”الصديق عند الضيق” مفاهيم وشعارات ترتبط بأخلاق الأزمات، وتتناغم مع إطارها العام، فعندما يقوى هذا المفهوم ويصبح سيرة مواطن وسلوكه، عندها تتجه الأزمات إلى التلاشي وتذهب إلى بلا رجعة، إذ وجدت في المجتمع أسباب القوة التي تدحض جبروتها، وتزيل أثرها، وتكبح جماحها، وتضبط غرورها، وتنشئ منها مرحلة جديدة لبناء القوة، لتنفرج الغمة وتزول الجائحة، لذلك كانت كل القرارات الصادرة عن اللجنة العليا والإجراءات المتخذة من قبل القطاعات والجهات المعنية بهدف الوصول إلى أقل عدد من الإصابات بالفيروس إنما تحمل في ذاتها منصات لبناء المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية والوطنية في سلوك المواطن، كونه المنتج لهذه القيم والأخلاقيات والمبادئ، ومن يمتلك القدرة للمنافسة فيها والتسابق على تحقيقها؛ فلا يقتصر دوره على التنفيذ لها، بل يصنع من الأزمة منهجا يسير به في الناس، وسيرة طيبة تؤسس لمرحلة التحول القادمة في الخلاص من الوباء.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 10 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

23 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 23

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28