] نحو إعادة بناء الفكرة الجنوبية - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الاثنين 30 كانون الأول (ديسمبر) 2019

نحو إعادة بناء الفكرة الجنوبية

عبد الإله بلقزيز
الاثنين 30 كانون الأول (ديسمبر) 2019

حين انتهت وقائعُ الحرب العالمية الثانية إلى تدمير النظام النازي في ألمانيا، وتكوُّن قوة العظميَيْن (الولايات المتّحدة الأمريكيّة والاتحاد السوڤييتيّ) وتشكُّل معسكرين عالميين بقيادتهما، كان السواد الأعظم من مجتمعات الجنوب ما زال يرزح تحت نيْر الاحتلال الاستعماري (البريطاني، الفرنسي، البرتغالي، الإسباني، الإيطالي، الهولندي، البلجيكي ...)، وتناضل حركاتُ التحرر الوطني فيه من أجل دحر الاحتلال الأجنبي، ونيْل الاستقلال الوطني وتقرير المصير، ولذا لم يكن قد تَشَكّل بعدُ أيُّ قطب جديد في العالم ينافس القطبين الرئيسيْن السائدين، أو - على الأقل - يَحُدّ من مفعول تَحكمهما في المصير العالمي. على أنه يمكن الاعتقاد أن إلحاق الهزيمة بالمشروع النازي، وتحرير أوروبا منه، كفيل بأن يُطْلِق مسلسل إنهاء الاستعمار من الجنوب (على نحو ما ادَّعتْهُ دول استعمارية جندت أبناء المستعمرات في جيوشها للحرب ضد ألمانيا، واعدةً بالاعتراف باستقلالها بعد نهاية الحرب). لذلك كان على الحركات الوطنية، في المستعمرات، أن تكثف نضالها المسلح والسياسي لحمل المستعمرين على التسليم بحق بلدانها وشعوبها في الحرية والاستقلال. وهكذا كان نضالها يفتح الطريق أمام إحداث تعديلٍ حاسم في صورة التوازنات التي تولدت من الحرب.
والأنكى في ذلك أنه كان على شعوب أن تدفع، من أرضها ومصيرها الوطني، ثمن جرائم ارتُكِبت في الحرب العالمية الثانية - ليست هي المسؤولة عنها - على نحو ما حصل للشعب الفلسطيني الذي اغتصبتِ الصهيونيّة وطنَه فلسطين، بدعمٍ مباشر من الاستعمار البريطاني، وأقامت عليه دولتها الإحلالية العنصرية؛ فيما كان على شريك النظام الصهيوني في جنوب إفريقيا (نظام الميز العنصري) أن يستمر في اضطهاد شعوب تلك البلاد، منذ مئات السنين، من دون أن يَلقى العقاب الدولي المشروع على جرائمه العنصرية البغيضة. وبكلمة، كان على العالم أن ينتظر الحلقة الأعلى في مسلسل تصفية الجرائم التي بدأت بتصفية النازية، وهي (حلقة) تصفية الاستعمار حتى تكون البشريّة قد قطعتْ، فعلاً، الشوط الضروري نحو انعتاق شعوبها من ربقة الاستعباد والاضطهاد.
وتحققت هذه الحلقات على دفعات وفي موجات متعاقبة أظهرُها في سنوات الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين، ثم في موجات متقطعة بين أوائل الستينات وأوائل التسعينات باستقلال الجزائر ثم اليمن ودول الخليج العربيّ، وصولاً إلى تفكيك نظام الأبارتهايد في جنوب إفريقيا. ولم يبقَ من فصولها غير تحرر الشعب الفلسطيني من الاحتلال الصهيوني وتقرير مصيره. ولقد فَتَح تحقُّق ما تحقق منها الباب أمامَ تكون تدريجي لفكرة سياسية جديدة، في العلاقات الدولية والنظام الدولي، هي الفكرة الجنوبية؛ الفكرة التي تم التعبيرُ عنها، أحياناً، بمقولة «العالم الثالث» - تمييزاً له من العالمين الرأسماليّ الميتروپولي (الغربي) و«الاشتراكي»، والتي أدخلت إلى ساحة العلاقات الدولية لاعباً جديداً سرعان ما تبيّنَتْ قدْراتُه على إحداث التأثير السياسي الكبير في مجرى تلك العلاقات، وفي التوازنات - السياسية والاقتصادية والعسكرية، التي استقرت عليها. ولأن عالَم الجنوب كان في حاجةٍ إلى قيادة سياسية تقود حركتَه وتؤطرها في أطرٍ مؤسسية تحقِّق صيرورَتَه إلى منظومة عالمية موحدة وفاعلة، فقد وجدها في كتلة من الدول قامت على أمرها أنظمة وطنية مستقلة وذات طموحات تحررية (مصر، الهند، يوغسلافيا)، نهضت بأبلغ الأدوار في إخراجها إلى حيّز الوجود في صورة كتلة عالمية لدول عدم الانحياز ابتداءً، وصولاً إلى صيغة الحياد الإيجابي.
ساعد في صيرورة دول الجنوب منظومة عالمية فاعلة - إلى جانب توفّر القيادة السياسية التحررية - وجودُ أنظمة سياسية وطنية على رأس الدول تلك، معظمها قاد حركة التحرر الوطني فيها ضد الاستعمار ولنيْل الاستقلال. وكما أن ذلك سهّل لغة التفاهُم على مشترَكات بين قادة دول الجنوب، فتح الباب أمامها للدفع بفكرة التحرر الوطني إلى مداها المنطقي. ولفترةٍ مديدة أمكن لهذه المنظومة، بسياساتها التحررية، أن تفرض على القطبين الكبيرين في العالم احترام مصالح دولها وشعوبها وأخذها في الحسبان، وإحراز انتصارات حاسمة على صعيد ترجمة الاعتراف بحقوقها في القوانين والسياسات الدولية.
كان ذلك فصلاً حاراً من فصول البناء الوطني التحرري الذي صنعتْه منظومة الجنوب، بين نهاية الخمسينات وأوساط السبعينات من القرن العشرين الماضي، قبل أن تتبدل المعطيات الدولية فتتبدد المنظومة نتيجة الميل التدريجي لمعظم أنظمة دولها نحو الانحياز، ثم يتبدد معها - في ما بعد - ما كان يُعرف باسم المعسكر «الاشتراكي». وكما كان تبدد الفكرة الجنوبية ومنظومتها العالمية وبالاً عليها، كذلك لا يستقيم لها أمر في الرّاهن والمستقبل إلا من طريق إعادة نفسها: فكرةً وهياكل ومؤسسات؛ ذلك أن مستقبلها ليس وراءها، بل أمامها.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 51 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات وقضايا   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

10 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 7

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28