] حفنة من غبار - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 14 أيلول (سبتمبر) 2019

حفنة من غبار

بقلم: عبدالحليم قنديل
السبت 14 أيلول (سبتمبر) 2019

العنوان أعلاه ليس لكاتب السطور، بل للشاعر الفلسطيني محمود درويش، كان درويش قد استقال من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، فعلها احتجاجا على توقيع اتفاق أوسلو سيئ الصيت، وكتب منفعلا مصدوما بما جرى قبل ربع قرن ويزيد، تحدث عن الوضع الذي سننتهي إليه بعدها، ووصفه بأنه السلام الذي سيتركنا «حفنة من غبار»، رحم الله درويش، الذي رحل عنا قبل أن يختنق بغبارنا.
قفزت عبارة درويش ونبوءته البليغة من قاع الذاكرة، وبدت كأدق وصف لما نراه، من ردود الفعل الرسمية الفلسطينية والعربية والإسلامية على قرار نتنياهو الأخير، القاضي بالضم النهائي الرسمي لوادي الأردن وشمال البحر الميت إلى كيان الاغتصاب الإسرائيلي، أي ضم ثلث أراضي الضفة الغربية، بعد ضم القدس المحتلة رسميا، والتمهيد لضم بقية أراضي المستوطنات اليهودية، التي يعيش فيها 400 ألف مستوطن، إضافة إلى 200 ألف مستوطن في القدس، أي ضم ما يزيد على نصف الضفة الغربية، التي يعرفها نتنياهو باسمها التوراتي «يهودا والسامرة»، ولا يجد حرجا في إعلان رغبته بالضم النهائي للضفة الغربية بكاملها، ومن دون أن يخشى شيئا، فالسلطة الفلسطينية اكتفت بإدانة إعلان نتنياهو رئيس وزراء العدو، ووصفته بأنه يقتل فرص السلام، وسجلت رضاها عن ردود فعل الدول العربية، التي اكتفت هي الأخرى بالشجب والإدانة والتنديد، ونعت على نتنياهو تهديده لجهود السلام، ووضعت في نهاية بيان اجتماع وزراء الخارجية العرب عبارة بليت من كثرة استنساخها، تتحدث عما يسمونه «مبادرة السلام العربية» الموروثة عن قمة 2002 في بيروت، وكأنها بذلك تفحم نتنياهو وزمرته، وتضع حدا لعدوان واحتلال إسرائيل، وهذا ما ستفعله غالبا دورة اجتماعات وزراء خارجية منظمة التعاون الإسلامي، التي دعت إلى عقدها المملكة السعودية خادمة الحرمين، وكأنها بذلك تغلق القوس المفتوح، وتعبر بما يكفي عن الغضب وبرو العتب، وتسيل الحبر الكافي على ورق بيانات الإدانة، رغم انشغالها بما هو أهم عندها من القضية الفلسطينية، التي صارت على هامش التلاوة الفعلية، بينما المتن محجوز للقضية الأم، وهو إحلال العداوة لإيران محل العداوة لإسرائيل، بل والاستعانة بإسرائيل نفسها، وبالصديق نتنياهو نفسه، في مجهود التعبئة الحربية ضد إيران.
ولا نريد بدورنا، أن نستنكر ونشجب بيانات الدول العربية والإسلامية، ولا أن نحمل على ما فيها من ضعف وتهافت، ولا أن نسترسل في التعبير عن اليأس من أحوال أمة، تحول المتحكمون بأمرها إلى «حفنة من غبار»، فالضرب في الميت حرام، ونفض الغبار، قد لا يولد إلا غبارا جديدا، يصيب العين بالرمد على ما فيها من وهن قديم، فليست القصة في تقصير ينسب إلى هؤلاء، وحاشا لله أن يكونوا من المقصرين، بل هم جادون جدا، ومنهمكون في ما يمليه عليهم الواجب تجاه إسرائيل وربتها وربتهم أمريكا، ويؤدون أدوارا تكاملية محسوسة، يكون فيها الفعل اليومي لكيان الاحتلال، والمساندة التلقائية من أمريكا، وبيانات العرب والمسلمين الرسمية من لزوم ما لا يلزم، ففعل إسرائيل العدواني والاغتصابي، يحتاج إلى من يسنده عمليا من العرب، حتى لو بدت الألفاظ صوريا في خانة الإدانة، فالمهم عمليا هو الأفعال لا الأقوال، وأقوال هؤلاء لا تتبعها أفعال، بل يعتبرون الأقوال هي ذاتها الأفعال، ويغلقون الدكان، ويغسلون أيديهم من القضية كلها، بعد رصف البيانات المعتادة.

ما من حقوق تستعاد بغير المقاومة، والحق الذي لا تسنده القوة والمقاومة ضائع بالتأكيد

وكلما أعلنت إسرائيل حربا جديدة، يردون عليها بإعلان السلام، في إشارة طمأنة لنتنياهو وأمثاله، تدعوهم لمواصلة فعل ما يريدون، ومن دون التحسب لرد فعل عملى واحد، ولو في أبسط الصور، اللهم سوى ذر الغبار في العيون، وكسب المزيد من الوقت للحبيبة إسرائيل، وإلى أن تستكمل عملية قضم الضفة الغربية، والتهام القدس وهدم المسجد الأقصى، وساعتها يعود وزراء الخارجية أو الحكام للاجتماع، ويصدرون البيان نفسه، ويذكرونك بحكاية السلام ومبادرة السلام إياها، وكأن السلام في عرفهم، هو الخضوع غير المشروط لمنطق القوة الإسرائيلية، والتسليم بأحكامها التي لا ترد، وكأن القصة وصلت إلى نهايتها، ولم يعد أمام العرب، سوى الوقوف عند «حائط مبكى»، يسمونه بالسلام، والبكاء بين يدى وثن اسمه مبادرة السلام، التي صارت لفظا محنطا رذيلا، منقطع الصلة بعالم الأفعال والتطورات الملموسة.
وهذا «السلام» هو بيت الداء، الذي نهشنا وفتت أرواحنا، ويكاد يجعلنا «حفنة من غبار»، كما حذر محمود درويش، صحيح أن السلام كلفظة مجردة، هو مطلب وحلم إنساني نبيل، لكن السلام لا يأتي بغير حرب، وبغير استرداد لحقوق، وبغير استعادة النجوم لمداراتها الأصلية، وهذه خبرة الأمم كلها، وفي كافة عصورها، وفي أحوال الصراع الممتد مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، فقد جرت حروب، وجرى توقيع ما أسمي باتفاقات ومعاهدات سلام، لم تسلم بها الشعوب أبدا، وإن استسلم الحكام، فالمعاهدة المصرية الإسرائيلية مثلا، جرى توقيعها رسميا بعد سنوات من حرب أكتوبر 1973، ومضى على توقيعها إلى اليوم نحو الأربعين سنة، لكنها لم تغير أبدا من عقيدة ووجدان الشعب المصري، الذي يظل أكثر الشعوب العربية كراهية ورفضا لوجود كيان الاغتصاب الإسرائيلي، وما من داع لحديث كثيرعن المعاهدة الأردنية الإسرائيلية، فهى لم تعقب حربا، ولم تعد شبر أرض، ولم تغير بالطبع شيئا من عقيدة ووجدان الشعب العربي في الأردن، وغالبيته من الفلسطينيين المكتوين بنار الغزو والطرد والاغتصاب الإسرائيلي، ولا بأس من إضافة اتفاق أوسلو، وقد كان عنوانا لاتفاق سلام ثالث، أتى بعد انتفاضة الفلسطينيين المعاصرة الأولى، ولم يغير بدوره شيئا من عقيدة ووجدان الشعب الفلسطيني، الذي توالت انتفاضته الثانية بعد الأولى، ويواصل تصديه بالصدور العارية لوحشية الاحتلال الإسرائيلي، بينما تواصل الدوائر الرسمية حديثها المريب عن سلام لا وجود له، فقد تحول المتحكمون بالأمر إلى حفنة من غبار، لا عمل لهم سوى نثر ونشر أحاديث الغبار، بينما شعوب الأمة ليست من غبار، بل من لحم ودم وتضحيات وأمل وألم وطوابير شهداء أحياء عند ربهم يرزقون.
وقد بدا الافتراق ظاهرا، حتى في لحظة إعلان نتنياهو الصادم الأخير، كان نتنياهو يتباهى بإعلانه ضم وادي الأردن في حفل انتخابي جرى في مدينة «أسدود» المحتلة، بدا نتنياهو في حالة طاووسية منتفشة، ناوله أحد حراسه البيان المكتوب، وما كاد نتنياهو يعلن متعجرفا عن قرار الضم، حتى أحاطه الحراس الغلاظ من جديد، وشدوه بعيدا عن المنصة، وهربوا به مذعورا إلى مكان طوارئ مجهول، فقد دوت صافرات الإنذار من حوله، وكان السبب، إطلاق قذائف صاروخية من غزة المحاصرة المجاورة، بدت الواقعة ناطقة بذاتها، وصاغت ببلاغة طبيعة الرد المطلوب على جرائم الاحتلال الإسرائيلي، فالحرب هي الحل، والمقاومة بما ملكت الأيدي من حجارة وقذائف، وما من سلام يتحقق بغير هروب المحتلين، والواقعة في رمزيتها ظاهرة المغزى، فلم يسبق لسلام أن تحقق بغير حرب، وما من حقوق تستعاد بغير المقاومة، والحق الذي لا تسنده القوة والمقاومة ضائع بالتأكيد، وطلب الحقوق شيء آخر مختلف عن تسولها، والسلام الحقيقي، يتحقق بالتضحيات، لا بالمبادرات إياها، ولا ببيانات الغبار التي تصدر عن حكام العار.
وقد يقال لك، إن مبادرة سلام أعادت سيناء، ومساحتها تعادل ثلاثة أمثال ونصف مثل مساحة فلسطين التاريخية بكاملها، وهذا قول صحيح شكلا، لكنه يتجاهل الحقائق الأهم، فقد سبق أن عادت سيناء ـ ومعها غزة وقتها ـ لمصر بعد حرب 1956، ومن دون عقد معاهدة سلام ولا تطبيع، هذه واحدة، الحقيقة الأخرى الصلبة، أن سيناء عادت بعد حرب ومقابل ثمن فادح، هو خروج مصر بثقلها المركزي الحاسم من خط المواجهة مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، ثم إنها عادت بشروط نزع السلاح في غالب أراضيها، وهو ما تدفع مصر ثمنه مضاعفا من دماء بنيها إلى اليوم، في حرب استرداد سيناء الثانية الجارية، بينما المقاومة الشعبية المسلحة فعلت وحررت بكرامة، وأعادت جنوب لبنان بدون اتفاق سلام ولا صك تطبيع، واستعادت غزة بعدها، وفككت المستوطنات اليهودية فيها، بدون اتفاق سلام ولا صك تطبيع، وأجبرت إسرائيل على الانسحاب الذليل في الحالتين، فالمقاومة ليست فقط تعبيرا عن رفض الاستسلام، بل هي الطريق الوحيد لاسترداد الأرض المحتلة، وهو ما جرى في تجارب كل الشعوب الحية، وفي تجربة الكفاح ضد الاحتلال الإسرائيلي الاستيطاني الإحلالي، وهو ما يؤكد عليه درس القذائف التي هرب منها نتنياهو، وأطاحت بنشوته الطاووسية.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 53 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات وقضايا   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

29 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 30

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28