] فلسطين شهيدة تراجيديا العصر؟ - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الأربعاء 31 تموز (يوليو) 2019

فلسطين شهيدة تراجيديا العصر؟

واسيني الأعرج*
الأربعاء 31 تموز (يوليو) 2019

قد يكون العنوان مخيفاً، لكنه أقل بكثير من الخيبة العربية الحارقة. البلاد العربية ليست بخير، تمزق، أحقاد، تواطؤات البعض ضد البعض الآخر، التجويع، التحرك فردياً…. ليست بخير أبداً، وما كان أحلاماً تمت إبادته باليأس المزمن، ويجري الآن الإجهاز عليه بشكل منظم ومدروس، بحيث بعد سنوات قليلة سيعود العرب إلى رمالهم وجمالهم وتمورهم وحروبهم، وفق التخطيط الاستعماري الجديد المسند من الصهيونية الدولية، وسيطلبون من القوي الغربي أن ينجدهم في التغلب على أخيهم العربي، مقابل استغلال باطن الأرض وترابها وسمائها، بل يمكن لعدو الأمس، السالب للأرض العربية، أن يقف مع طرف عربي ضد طرف ثان ليس حباً ولكن إفناء لأية قوة تروم التغيير، بعد أن هُيئت الأرض العربية لذلك خلال السنوات الماضية.

ما يحدث اليوم في فلسطين يستحق من المثقف العربي الكثير من التفكير والتأمل وإعادة النظر في كثير من أوهامه ويقينياته التي تراكمت عبر السنوات حتى أصبح من الصعب تجاوزها لأنها تضاهي المقدس.
المفرط في القداسة والمبني على أوهام التضامن والتعاضد التي أصبحت اليوم قوقعات فارغة وكلاماً للتسويق ليس أكثر. لم يعد العرب اليوم وحدة متجانسة، متفقة، يحكمها المصير الموحد، ولا أصحاب أية مبادرة. يتلقون الأوامر من سيد الأرض والكائنات الترابية (أمريكا ترامب)، ويعملون على تنفيذها برؤوس منحنية وبحثاً عن رضى القوي.

يكفي أن نتأمل جامعة الدول العربية لندرك أنها قوقعة ميتة، لا حرية لها ولا قرار أيضاً، في مهب الخلافات العربية العربية. لم يعد يهمها حتى حفظ ماء الوجه. لا أفق يسمح بالتفاؤل. ردة فعل النخب العربية صفر أو تكاد تكون كذلك، بينما حركة النخب الغربية المتنورة، غير الواقعة تحت الوصاية الصهيونية، كبيرة ضد صفقة القرن التي لا تعمل فقط على إبادة بؤرة الرفض العربي للظلم الصهيوني، فلسطين، ولكن على إنهاء كل فعل مقاوم لغطرسة غير مسبوقة في التاريخ.

لم يعد للعرب ما يقايضون به بعد إسكات صوت المقاومة بالمال الفاسد والشيكات السرية، والاتفاقيات القاتلة والمكبلة. حتى وزير الخارجية الفرنسي الأسبق دومنيك دوفيلبان، وهو مثقف وشاعر في الأصل، اعتبر صفقة القرن خديعة القرن، إذ كيف يمكن أن يطلب من شعب حر لم يظلم ولم يعتد على أحد، وقاتل من أجل حريته، أن يبيع أرضه ووطنه، ويتخلى حتى عن حقوقه الدنيا التي قبلت بها إسرائيل في اتفاقيات أوسلو وتراجعت اليوم عنها، لأنها تريد تنازلات أكثر، ولا يوجد في مواجهتها إلا الخنوع الدائم والقبول بالأمر الواقع.

سابقة خطيرة لم تحدث إلا في البلدان التي سرقت منها أي مبادرة للحياة الحرة، وشلت كلياً قبل أن تباد. لهذا، يسبقنا السؤال الطبيعي والعادي بالنسبة لكل إنسان غيور، أقول إنساناً لأن فلسطين قضية أكبر من كونها قضية عربية وربما من حظها، فهي إنسانية بامتياز، ولهذا إنهاؤها يصبح مستحيلاً إلا إذا تواطأت البشرية قاطبة ضدها: ماذا تعني فلسطين في ثقافتنا اليوم، في الفن، لأنه الواجهة المتبقية، القيمة المتعالية، على الرغم من تآكلها، لكنها موجودة.
وجودها وحده يضمن شيئاً من حياتها، لأن الفن يقاوم في جوهره، كل سبل الإفناء. في ظل زمن صعب وقاس حلت فيه قيم أخرى معادية للسخاء الفني كلياً، وصلت حدّ النهب المعلن وابتزاز الأمم في خيراتها أمام الملأ؟ هل فلسطين استعارة منفلتة عن المعنى وعن كل قدرة على السيطرة كما رسمها درويش؟ وكلما حاولنا وضع حدود لها هربت منا وانزلقت باتجاه سريرها الأبدي: الحرية؟ أم هي أكثر من ذلك كله، حالة ثقافية صعبة ومؤلمة، تحتاج منا إلى أن نتجاوز الوسائل التي اشتغلنا من خلالها حتى اليوم وتجديد رؤانا؟ لقد كانت فلسطين دائماً موضوعة فكرية وحضارية وثقافية تهمنا كثيراً، بل تشكل منشغلاً مركزياً تعاملت معه الفنون باللغة والألوان والحركات بكثير من الحماسة والرغبة في إحداث المنجز الذي يساهم في تغيير الصورة إلى العربي عموماً والفلسطيني تحديداً.

من هذا المعطى الثقافي الكبير، تجلت فلسطين بكل صورها في النصوص الدينية، في الأيقونات الخالدة، في النصوص الأدبية وغيرها، بقوة بالخصوصيات نفسها. لكن المتأمل للجيل الثقافي العربي والفلسطيني الجديد الذي يفاجئنا بمنجزه الفني، يشعر بأن شيئاً عميقاً قد تغير أو هو بصدد ذلك.
يذكرنا بوسائله الفنية الحية بأن انقلاباً عميقاً وقع في العالم الذي يحيط بنا، تغيرت معه رؤانا. ويعيد النظر في الرؤيتين اللتين تتجاذبان الصراع، رؤية عربية ثابتة وقانعة بما يدور حولها وكأن العالم لم يتغير، وكأن ميزان القوى ما يزال على حاله، وكأن العولمة لم تفرض شروطها، وكأن العالم الذي أصبح قرية صغيرة لم يغير شيئاً فينا؟ وهي رؤية مرتاحة ليقينها المسبق.

ورؤية عربية ديناميكية ترى كل شيء في حراكه وفق الشرطيات المحيطة بقضايانا الكبيرة. وربما كانت النظرة الشابة الناشئة من دمار الخيبات واليأس هي ما يسترعي الانتباه الفني والنقدي، إذ إن هذه الرؤية تخرج بقوة من دائرة التكرار والاستعادة والاجترار، التي لا تقدم شيئاً جديداً في عالم يسير بسرعة ويترك وراءه من لا يستطيع اللحاق به ويحاول فهمه حتى داخل التراجيديا واليأس، وأحياناً الاستحالة. رهان الفن الأساسي في تعامله مع القضية الفلسطينية هو أن يخرجها من كونها قضية عربية فقط، عرضة للانتكاسات والصراعات والمصالح والحسابات التي ترهق الفلسطيني والعربي المحب أيضاً لهذه الأرض، أن يوصل صرختها إلى أبعد نقطة على هذه الأرض. وإذن، كيف ينتقل الفن في تعامله مع قضية قومية كبيرة إلى التعامل مع فلسطين كقضية تضع الفنان أمام رهان الإنسانية، بحيث تصبح قضية أشمل بامتياز، تهم الفنان العربي بالقدر نفسه الذي تهم فيه الفنان الأمريكي، الفرنسي، الصيني، الأرجنتيني، الياباني، السويدي الخ…

الانتقال من الإحساس الضيق إلى الإحساس الأشمل. تحويلها كذلك يحتاج بالضرورة إلى فن يرتقي إلى الحالة الإنسانية ويمزق بقوة غشاء القومية الضيق الذي لم يعد كافياً لإقناع عالم معقد مبني على المظالم، ولكن مبني أيضاً على قيم عليه أن يعيد تأملها ورؤيتها وقراءتها. الفن هو الوسيلة الأسمى التي تضع العصر أمام قيمه التي خلقها واخترقها بلا تردد. التراجيدية الفلسطينية لم تحدث في القرن الباليوليتكي حتى ننساها؟ الكثير من محركيها ما يزالون إلى اليوم أحياء. فهي الاستعارة المثلى التي تضع العالم المتحضر ليس فقط أمام قضية إنسانية تهم بشراً شردوا من أراضيهم، ولكنها تصفعه أيضاً بقيمه التي تخلى عنها في هذه الأرض بالذات، المخترقَة بمختلف القيم والأديان والتي كان عليه أن يكون فيها حيوياً وخلاقاً، لا أن يبرر هلوكوستاً كان هو (الغرب) وراءه، بهلوكوست آخر يصنعه اليوم بممارساته التدميرية، ويصمت عليه ليتذكره بعد قرن بدموع تماسيح تكون هي نفسها قد انقرضت، في ظل الانهيار البيئي اليوم الذي تتزعمه أمريكا، التي لا يهمها من البشرية إلا ما يخدم غطرستها. عنف الغد المدمر لكل توازن بشري، يتم تصنيعه اليوم في الأرض العربية، وقتها يصبح الحديث عن أية إنسانية غير نافع.

* كاتب جزائري


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 107 / 2342227

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات وقضايا   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

34 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 34

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28