] المصالح بين الصراع والتسوية - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الاثنين 22 نيسان (أبريل) 2019

المصالح بين الصراع والتسوية

الاثنين 22 نيسان (أبريل) 2019 par عبدالاله بلقزيز

لمّا كان مبْنى السياسة على المصالح؛ ولمّا كانت هذه متباينة غير متجانسة، وأحياناً، متضاربة تضع قواها المختلفة في مقابل بعضها، فإنّ تبايُن المصالح هذه وتَعارُضَها يترجم نفسَه في تبايُن السياسات وتَقَابُلها، وفي اصطفاف قواها في حالٍ من الاستقطاب. هذه من حقائق السياسة التي تُلْحَظ في العلاقةِ بين الدّول، مثلما تُلْحَظ في العلاقة بين القوى ذات المصالح المتباينة داخل المجتمع الواحد؛ وهي ممّا لا تتهدّد به السياسةُ ولا المصالح إنْ أُفْلِحَ في الاهتداء إلى سبلٍ مأمونة إلى بلوغ فَضٍّ متَوافَقٍ عليه للمنازَعات بين القوى على المصالح. وهكذا بمقدار ما تقود السياسةُ إلى الصراع على المصالح، بما هي فعاليّةٌ إنسانيّة مدارُها على المصلحة، تقود - في الوقت عينه - إلى فكّ الاشتباك بين المصالح وقواها، وتوليد تسوياتٍ واتفاقات وتفاهمات (وأحياناً تنازلات متبَادَلة) تَلْحَظ مصلحةَ كلِّ فريقٍ من المختلفين أو من المتنازعين ولا تهدره. وكُلَّما حُكِّمت قواعدُ السياسة في السياسة أنجبت تسويةً مقبولَةً من المتنازعين، وهي لا تُخْفِق في المصير إلى التفاهم والتسوية إلاّ حين تُخالِفُ القواعدَ تلك وتُجافيها؛ ومن قواعد السياسة السِّلمُ (المدنيّة) والمنافسةُ السلميّة على المنافع، حيث لا مكان للإلغاء والإقصاء وانتزاع الخيْرات وتحصيل الحقوق من طريق القوّة والعنف والإكراه، وحيث لا قيام للسياسة - في معناها العصريّ - إلّا على التوافق والتراضي.
ما الذي يضمن بأن لا يُفضيَ التنازُع على المصالح، بين الدول أو داخل الدولة الواحدة، إلى انفجاره في شكل صراعاتٍ، مدنيّة أو مسلّحة، غير قابلة للضبط أو الاحتواء؟ أليستِ الخبرة التاريخيّة تشهد، بغير قليلٍ من الشواهد، بأنّ مجتمعات عدّة عجزت عن استيعاب صراعاتها الداخليّة على المصالح، فأدّى بها ذلك إلى حروب أهليّة وانقسامات عميقة أو في الأقلّ، إلى أزمات سياسيّة دوريّة مفتوحة طوّحت بالاستقرار فيها؟ أليست تشهد، أيضاً، بأنّ دولاً عدّة أخفقت في إدارة صراعاتها على المصالح، فانتهى بها ذلك إلى خوض حروب طاحنة زادت من ُمَباَعَدة الشقّة بينها؟
الأسئلة هذه مشروعة وتمتح مبرّراتها من التاريخ الإنسانيّ وتجاربه. والجوابُ عنها يبدأ من التسليم بالقاعدة التي انطلقنا منها، والتي تقول إنّه لا سبيل لدينا إلى معالجة مشكلات السياسة وأزماتها إلاّ بالسياسة؛ إذِ السياسةُ التي تشطح أو تتهوّر أو تحيد عن معناها الأصل، في حينٍ من شططها، لا يُعادُ لها رشدٌ إلاّ بالسياسة؛ أعني بمنظومةِ قيم السياسة: السِّلم، التوافق، التسوية، الاعتراف بمصالح الجميع... إلخ، أي القيم التي قد تذهل عنها فتقودها إلى التعبير عن نفسها بعيداً من قواعدها. مداواةُ السياسة بالسياسة هي الحلّ؛ تماماً كما تقول القاعدةُ الطبيّة: «الدواءُ من جرثومة الداء». يقودنا هذا إلى صميم الجواب: يمكن السيطرةُ على صراع المصالح إذا كانت هذه تخضع للقانون؛ أي إذا كانت مشروعة معتَرَفاً بها، وبالتالي، يجري تحكيمُ القانون ومقتضياتُه لفضّ النزاع حولها. وبالقدر عينهِ، ما من مصلحةٍ خارج القانون - أو تضع نفسَها فوق القانون - قابلة لفرض نفسها لأنّها، ببساطة، مجرَّدة من كلّ شرعيّة قانونيّة ويُنظَر إليها بوصفها عدواناً على الآخرين.
قد يقال إنّ في الرؤية نظرة طوباويّة، رومانسيّة إلى السياسة فيما هذه تُضمِر جميعَ أنواع المَكر والخداع والمغافَلة، وتتوسّل الوسائل كافّة بما فيها أقذرُها وأسفكُها، وإنّ الصراع على المصالح قانون اجتماعيّ يقارب أن يشبه قانون البقاء للأقوى الداروينيّ. لم نقُل إنّ التسويات تُنهي الصراع على المصالح وتوحِّد المجموع الاجتماعيّ، أو المجموع الإنسانيّ، في نطاقٍ واحد. قد تكون السياسةُ قذرة ووسائلُها قذِرة إنْ هي حادت عن مضمونها السلميّ، أو خرقت قواعدها الحاكمة: التوافُق، الاعتراف بمصالح الجميع؛ وما أكثر ما مالتِ السياسةُ إلى التعبير عن نفسِها في هذا الشكل المُنْحَطّ، فأتتْ شططاً وعسفاً وقهراً وحيْفاً.
تعتقد الماركسيّةُ، مثلاً، أن الصراع (الطبقيّ) قانونٌ حاكمٌ للمجتمعات لوجود طبقات اجتماعيّة متعارضة المصالح. ماذا تكون الديمقراطيّة، مثلاً، إن لم تكن ذلك النظام السياسيّ الذي ينظّم تلك الصراعات على المصالح فيمنعها من التعبير عن نفسها في شكلٍ انفجاريّ، ويُجْبِرها على الانتظام تحت سقف القانون الواحد والكيان السياسيّ الواحد؟ قد يقال: وماذا عن الحرب؛ أليست، هي نفسُها، من السياسة أو امتداداً للسياسة؟ نردّ: نعم، هي امتدادٌ للسياسة، ولكنّها ليست من السياسة، ولا هي تجري بأدوات السياسة. وذلك، بالذات، ما يجعل السياسةَ دواءً لداء الحرب، وتسويّةً تُنهيها كي يعود أطرافُها الخائضون فيها إلى السياسة.
لم تُجانب حنّة أرندت الصواب حين ذهبت إلى تعريف السياسة بأنّها ضدّ العنف، وأنّ هذا فعْلٌ سابقٌ للسياسة أو فعْلٌ قبل- سياسيّ؛ ذلك أنّ العنف قانونُ الأقوى الذي يقع على الضعفاء، وهؤلاء لا يسلّمون لصاحبه بالحقّ في إيقاعه بهم لأنهم يختارونه بإرادتهم، ولا سَلّموا بمشروعيّته، ولا توافقوا عليه قاعدةً، والسياسة وحدها الفعل الذي يُتَوافَق على قواعده؛ لأنّ بواسطتها تتأمّن مصالح الجميع.

abbelkeziz@menara.ma


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 61 / 2336793

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

16 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 18

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28