الأَرض والدم

السبت 6 نيسان (أبريل) 2019 par علي عقلة عرسان

“مِنْها وإليْها”، يلخِّص هذا القولُ علاقةَ بين الإنسان والأرض.. وبتجاوز المُطلق “إنسان وأرض” كَرَّس البشر علاقات بين شعب وأرض، فأصبحت علاقة الإنسان بالأرض مرتبطة بجغرافية وحدود ووطن وانتماء، ومن ثم بهوية تتداخل في تكوينها البيئة الطبيعية والمكونات البشرية والتجربة، تداخلا حيويا عُضويا مَديدا خلاقا.. في مسيرة حياتية يعطيها الإنسان وتعطيه، يحميها وتحميه. وحين تتعرض الأرض “الوطن” لغزو واحتلال واستلاب، يجد ابن الأرض نفسه مُستلَبا مُهانا مُجردا من أهم مقومات حياته وهويته وأمنه وعيشه وكرامته.. فيهب للدفاع عن ذاته ومقومات عيشه، عن أرضه ونفسه.. يناضل ويضحي، ويجود بدمه ليحرر أرضه، وليسترد مقومات وجوده.
لذا ليس غريبا، ولا مُستنكرا، أن نرى شعوبا وأمما تضحي بالملايين من أبنائها دفاعا عن الوطن “الأرض”، ولنيل الاستقلال وصونه، وتثابر على ذلك رغم الضائقات والمِحَن ونزف الدم وخسارة الأرواح والطاقات والثروات.
نحن في سوريا الطبيعية، “بلاد الشام”، التي ما زال أحرارُها يرفضون معاهدة “سايكس ـ بيكو” التي قسمتها إلى دويلات أربع، وأقامت حاجزا بين عرب آسيا وعرب إفريقيا.. نحن نعيش أزمة العدوان على أرضنا وأمتنا منذ أن تعرضنا للغزو والاحتلال والتقسيم والاغتصاب والاستيطان، ولاقتطاع أجزاء من وطننا ومنحها لآخرين.. في أعوام:
١ – ١٩٢١ – “اتفاقية أنقرة بين فرنسا والحكومة التركية، مقابل اعتراف تركيا بالانتداب الفرنسي على سوريا”.
٢ – ١٩٣٨، ١٩٣٩ ـ “سلخ لواء اسكندرون عن سوريا باتفاق فرنسي ـ تركي، لكي لا تدخل تركيا الحرب العالمية الثانية ضد الحلفاء”.
٣ – ١٩٤٨ ـ “إقامة كيان للإرهاب الصهيوني العنصري في فلسطين من قبل بريطانيا والأمم المتحدة تنفيذا لوعد بلفور”.
٤ – ٢٠١٨ و٢٠١٩ قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب “منحَ؟!” القدس والجولان، لكيان الإرهاب والعنصرية “إسرائيل”.
نحن في سوريا الطبيعية “بلاد الشام”، ندافع عن أرضنا وعنا وعن أمتنا العربية.. نَنْزِف ونُسْتَنزَف بصور شتّى منذ قرنٍ ونيِّفٍ من الزمن، نتعرض للمؤامرات، والعدوان والحصار والتشريد، وتسيل دماؤنا، وتدمَّرُ مدننا وقُرانا.. لكنا نبقى وسنبقى متمسكين بحقوقنا التاريخية في أرضنا، ونطالب بتحرير المحتل مِن “وطننا”، ونعمل على إنجاز استقلالنا وحمايته، وصون وحدة أرضنا وشعبنا في إطار أمتنا العربية.
في فلسطين “الانتدابية”، يعيد شعبنا العربي الفلسطيني كتابة حقوقه بالدم، ويجدد وفاءه للأرض بالجراح والأرواح، ولا يبخل بالتضحيات والشهداء.. ومنذ أربعين عاما حدَّد يوم غضب ضدَّ اغتصاب ما تبقى له من أرض.. وفي كل عام ينزف دما ويزداد تعلقا بالحق والأرض.
وفي سوريا “السياسية”، مُنتَج “سايكس ـ بيكو”، بدأ التأسيس ليوم أرض ذي ديمومة، يوم استقلال ووحدة وكرامة، في اليوم الأول الذي دخلت فيه قوات الجنرال غورو البلاد. وفي ميسلون أسس للمقاوَمَة.. ورسم يوسف العظْمة ورفاقُه بدمهم الطريق.. كانوا أربعة آلافٍ معظمهم مدنيون غير مدربين، بمواجهة أربعين ألفا من الجيش الفرنسي المنتصر في الحرب العالمية الأولى.. وكانوا يعرفون النتيجة، لكنهم قرروا المقاوَمة.. وقفتهم تلك، ركَّزَت شيئا في عمق وجدان السوريين وأمتهم العربية.. شيء غاية في الأهمية، نحتاج لتذكره اليوم، ولتربية أجيالنا عليه، تربية وطنية ـ قومية أخلاقية، واتخاذه درسا في كل الأوقات والأزمات، ومنها ما نواجهه اليوم من محاولات العدوين العنصريين “الصهيوني والأميركي”، سلخَ أجزاء من جغرافية بلدنا وتاريخه.. درسٌ مفادُهُ: “أن شعبنا قاوم المُحتل، ولم يدخل الاستعمارُ بلادنا إلا على جثثنا وسيل دماء وبطولة شهدائنا.. وأنه بالمقاوَمة والقوة والتضحية يُدْحَرُ العدوان، ويُجْتَثُّ المُحتل، وينتصر الشعب، ويُحمَى الوطن، وبالدم يُكتَبُ التاريخ.”.. على هذه الأسس والثوابت انطلقت المقاومة واستمرت إلى أن خرج المستعمِرُ المُحتلُّ من البلاد.
إن سوريا العربية المجيدة، سوريا الشعب.. هي التي قاومت وضحَّت وصبرت واستمرَّت تقاوِم حتى انتصرت.. لم تنل استقلالها دفعة واحدة، وإنما صنعته على دفعات، الأبرز الأهم: ” 8 آذار 1920، 24 تموز 1920،22 أيار 1930،8 أيلول1936، حزيران 1941، و17 نيسان 1946.‏.”. ولم تنقطع مواجهة الشعب للاستعمار الفرنسي، واستمرت في شمال البلاد وجنوبها، في شرقها وغربها.. الشعب هو الذي قرَّرَ وقاوم وحرَّر ودفع الثمن الأكبر، وحقق الاستقلال بوحدته وتضحياته وإيمانه بحقه في الكرامة والسيادة في أرضه وطنه.. سوريا الشعب هي التي حدَّدت الطريق منذ يوم ميسلون.. وعلينا اليوم أن نتذكَّر ذلك، ونُذكِّر، ونتابع.. ونضحي دفاعا عن القدس والجولان وفلسطين، وكلِّ المحتل مِن أرضنا، أرض الأمة العربية.