بداية، لقد أدرك صناع القرار الأمريكي، منذ سنوات، أن ما حظيت به واشنطن لعقدين ويزيد من التفرد في السيطرة على العالم، قد شارف على نهايته. بات ذلك واضحاً، في أدناه، بعد انفجار الأزمة المالية، عام 2008، التي تحولت إلى أزمة اقتصادية عالمية، هي الأكثر كارثية، بالمعنى الشامل للكلمة، منذ أزمة «الركود العظيم»، في نهاية عشرينات وبداية ثلاثينات القرن الماضي. لكن، ورغم ذلك، لم تسلِّم واشنطن بالأمر، ولا قبِلت حتى بمكانة القطب الأقوى ضمن أقطاب. وفي السياق يدير الثلاثي: نائب الرئيس بينس، ووزير الخارجية بومبيو، ومستشار الأمن القومي بولتون، كأركان في إدارة الرئيس دونالد ترامب، محاولة إطاحة سلطة النظام الشرعي المُنتخب في فنزويلا، وإعادة السيطرة عليها والتحكم فيها، كبنية اجتماعية وثروات وموارد ومقدرات، في إطار محاولة لإعادة هيكلة، والتحكم في مصائر سائر بلدان أمريكا اللاتينية. وكل ذلك في إطار محاولة، (رؤية)، أشمل لبقاء نظام عالم القطب الواحد في السياسة الدولية ومؤسساتها وقراراتها، والحيلولة دون تكريس نظام عالم متعدد الأقطاب، هو، شاء من شاء وأبى من أبى، آخذ بالتشكل في الواقع، منذ سنوات، حتى إن لم يتبلور كلياً بعد.
الكلام أعلاه مهم لاستشراف، لا التنبؤ، بمآل التدخل الأمريكي في أزمة فنزويلا الداخلية، استناداً إلى المآلات والنتائج والارتدادات والكوارث التي جلبتها محاولات الولايات المتحدة لإبقاء سيطرتها على العالم عبر التدخل في الأزمات الداخلية في كل من أفغانستان والعراق وليبيا وسوريا وأوكرانيا، وغيرها من دول العالم. وهي التدخلات التي ظلت مجرد محاولات، كي لا نقول أحلام يقظة، للحفاظ على مكانة «شرطي العالم» الذي يأمر فيطاع. فقد دمرت الولايات المتحدة أفغانستان، وأعادتها قروناً للوراء بذريعة القضاء على نظام «حركة طالبان»، فيما هي، الآن، تكتفي من الغنيمة بالإياب. كيف لا، وهي تفاوض الحركة وفق قاعدة عودة الأخيرة للسلطة مقابل انسحاب آمن للقوات الأمريكية. أما العراق الذي دمرته الولايات المتحدة، دولة وجيشاً ونسيجاً اجتماعياً ومجتمعياً، بذريعة، (كذبة)، امتلاكه أسلحة دمار شامل، فقد بات ما تبقى لها من نفوذ وقواعد عسكرية فيه، أي العراق، مهدداً، بصورة فعلية، يشي بذلك أن يزور الرئيس الأمريكي، ترامب، قاعدة قواته هناك بصورة سرية. ولعبت، أيضاً، دور القائد في تدمير الدولة الليبية، بذريعة وقْف المجازر، أما النتيجة فتحويل ليبيا إلى دويلات متصارعة، بل وإلى مرتعٍ للجماعات الإرهابية التي باتت تهدد الدول المجاورة لليبيا، أيضاً.
وبالعودة إلى التدخل الأمريكي في أزمة فنزويلا الداخلية، تجدر ملاحظة المؤشرات الأولية التالية: أولاً احتوت السلطة الشرعية المنتخبة القائمة في البلاد سيناريو إطاحتها عبر محاولة واشنطن اغتيال رئيسها، مادورو، في أغسطس/ آب الماضي. ثانياً، فشلت واشنطن في استمالة أجزاء من قيادة الجيش الفنزويلي، بهدف توريط هذا الجيش في انقلاب عسكري يطيح سلطة رئيس البلاد، الأمر الذي ينطوي على إدخال الشعب الفنزويلي في أتون حرب أهلية لا تبقي ولا تذر. ثالثاً، نبهت محاولة الاغتيال واستمالة الجيش السلطة الشرعية في فنزويلا إلى أهمية تعزيز وتقوية دور الجيش الشعبي القائم، وتهيئته للدفاع عن البلاد في حال تجرأت الولايات المتحدة على التدخل العسكري المباشر، أو غير المباشر. رابعاً، يواجه التدخل الأمريكي في أزمة فنزويلا الداخلية، بأشكاله، موقفاً مناهضاً من أقطاب دولية وإقليمية لا تستطيع واشنطن تجاهلها، في مقدمتها روسيا والصين.
ولو شئنا القبض على الاستخلاص الجوهري والأهم، هنا، لقلنا: إن الولايات المتحدة تواجه، مرة أخرى، حقيقة أنه لا «نهاية»، ولا «محطة أخيرة» للتاريخ، وإن غير ذلك هو مجرد لغو أيديولوجي، ما انفك يردده، بلا كلل أو ملل صقور البيت الأبيض، «بينس»، و»بومبيو»، و»بولتون»، تجاه أزمة فنزويلا الداخلية. دع عنك أن للتاريخ مكره الذي أطاح إمبرطوريات ودولاً عظمى، طالما اعتقد حكامها أنهم سيبقون أسياد العالم إلى الأبد. حدث ذلك في التاريخ القديم، والحديث، والمعاصر، ويمكن أن يتكرر في فنزويلا في حال أقدمت الولايات المتحدة على التدخل العسكري لإطاحة نظامها الشرعي المنتخب، لكن هذا، في رأيي، مستبعد.
الأحد 17 شباط (فبراير) 2019
أزمة فنزويلا.. تقدير موقف
الأحد 17 شباط (فبراير) 2019
par
الصفحة الأساسية |
الاتصال |
خريطة الموقع
| دخول |
إحصاءات الموقع |
الزوار :
129 /
2332414
ar أقلام wikipedia | OPML OPML
موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC
44 من الزوار الآن
Visiteurs connectés : 46