] عربي 21: BDS: حركة سلمية تُحدث تحولا بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الجمعة 28 أيلول (سبتمبر) 2018

عربي 21: BDS: حركة سلمية تُحدث تحولا بالصراع الإسرائيلي الفلسطيني

الجمعة 28 أيلول (سبتمبر) 2018

في تحقيق مطول تنفرد “عربي21” بنشره مترجما على خمس حلقات، رصدت صحيفة الغارديان البريطانية نشأة وتطور حركة مقاطعة إسرائيل، التي تعرف اختصاراً باسم “بي دي إس”.

وفي التقرير الذي أعده نيثان ثرول، يمكن للقارئ العودة لجذور النشاط الفلسطيني لمواجهة الاحتلال بداية، ثم توافد النشطاء الدوليين للتظاهر في الأراضي المحتلة، ليتطور الأمر إلى حركة منظمة تنشط في عدد كبير من مناطق العالم، وخصوصا العالم الغربي.

يشار إلى أن هذه الظاهرة تسببت بقلق إسرائيلي من نتائجها، ما دفع الحكومة الإسرائيلية لوضع خطط لمواجهتها، كما بدأت بإبعاد النشطاء في الحركة ومنعهم من الدخول، كما تحركت الإدارة الأمريكية، وخصوصا على مستوى الولايات، لوضع إجراءات وقوانين تحظر المقاطعة، سواء كان على مستوى الشركات أو في المؤسسات التعليمية.

1

بي دي إس (حملة مقاطعة إسرائيل): كيف تمكنت حركة غير عنفية مثيرة للخلاف من إحداث تحول في الجدل الإسرائيلي الفلسطيني؟

ترى إسرائيل في حملة المقاطعة الدولية خطراً وجودياً محدقاً بالدولة اليهودية. أما الفلسطينيون فيرون فيه ملاذهم الأخير

ما فتئت حركة مقاطعة إسرائيل، التي تعرف اختصاراً باسم “بي دي إس” (المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات)، تدفع بالعالم نحو قليل من الجنون. فمنذ تأسيسها قبل 13 عاماً، كونت الحركة لنفسها من الأعداء تقريباً بقدر ما لدى الإسرائيليين والفلسطينيين مجتمعين من الأعداء. لقد أعاقت الحركة جهود الدول العربية لإنهاء مقاطعتها هي، والتي استمرت لعقود في سبيل مزيد من التعاون المكشوف مع إسرائيل، وعيّرت حكومة السلطة الفلسطينية في رام الله من خلال تنديدها بتعاونها الأمني والاقتصادي مع الجيش الإسرائيلي وإدارته العسكرية، بل وأزعجت منظمة التحرير الفلسطينية بسطوها على موقعها كممثل شرعي للفلسطينيين ومدافع عنهم يحظى بالاعتراف الدولي حول العالم.

ثم أسخطت (الحركة) الحكومة الإسرائيلية من خلال سعيها لتصويرها كما لو كانت مصابة بالجذام في أعين الليبراليين والتقدميين، وأغاظت ما تبقى من معسكر السلام الإسرائيلي من خلال دفعها الفلسطينيين للانتقال من خوض نضال ضد الاحتلال إلى خوض نضال ضد التمييز العنصري، وحفزت على شن حملة مضادة معادية للديمقراطية من قبل الحكومة الإسرائيلية، لدرجة أرعبت الليبراليين الإسرائيليين خوفاً على مستقبل بلدهم. وسببت صداعاً كبيراً للحكومات المانحة للفلسطينيين في أوروبا، والتي تتعرض للضغط من قبل إسرائيل حتى لا تتعامل مع المنظمات التي تدعم حركة “بي دي إس” داخل المناطق الفلسطينية، وهو طلب مستحيل إذا ما أخذنا بالاعتبار حقيقية أن جميع مؤسسات المجتمع المدني الرئيسية تقريباً في غزة والضفة الغربية تؤيد هذه الحركة.

في زمن تتحمل فيه المؤسسات التجارية مسؤوليات اجتماعية، شهّرت حركة “بي دي إس” ببعض كبار المؤسسات التجارية المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي (مثل إير بي إن بي، ري/ماكس، إتش بيه)، وساعدت على دفع مؤسسات كبيرة أخرى نحو الخروج من الضفة الغربية. وسببت إزعاجاً كبيراً للمنظمات الأكاديمية والرياضية من خلال تسييسها ومطالبتها باتخاذ موقف تجاه الصراع وما ينجم عنه من شقاق كبير. وأغضبت الموسيقيين والفنانين الفلسطينيين الذين يعملون مع المؤسسات الإسرائيلية، إذ اتهمتهم بتوفير غطاء فلسطيني لانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها إسرائيل.

وفي بريطانيا، أوجدت حركة “بي دي إس” حالة من الهيجان والاضطراب داخل المحاكم والمجالس المحلية، وأدخلتها في نزاعات حول مدى قانونية المقاطعة المحلية للبضائع الواردة من المستوطنات. أما في الولايات المتحدة، فقد تسببت حركة “بي دي إس” في إجازة ما لا يقل عن عشرين ولاية لمشاريع قوانين أو في إصدار أوامر تحظر مقاطعة إسرائيل أو مستوطناتها، أو تجرم من يفعل ذلك وتعاقبه، الأمر الذي أدخل حلفاء إسرائيل في خصومة مع المدافعين عن حرية التعبير، مثل اتحاد الحريات المدنية الأمريكي، وأطلقت العنان للجدل داخل الكنائس البروتستانتية في الولايات المتحدة، والتي قام بعض كبار الكنائس منها بسحب استثماراتهم من الشركات التي تجني أرباحاً من الاحتلال. وباتت لعنة على إدارات الجامعات التي أجبرت على التعامل مع الشكاوى التي يتقدم بها أساتذة وطلاب في جامعاتهم؛ يتظلمون من أن حريتهم في التعبير تتعرض للجم والمصادرة، وكذلك مع مزاعم الصهاينة من المتبرعين للجامعات ومن الطلبة فيها بأن حرم الجامعة لم يعد حيزاً “آمناً” بالنسبة لهم. وجذبت الليبراليين باتجاه دعم أكبر للفلسطينيين، مما حول إسرائيل وبشكل متزايد إلى قضية حزبية في الولايات المتحدة؛ ترتبط بالديمقراطيين أقل مما ترتبط بترامب والمسيحيين التبشيريين واليمين المتطرف.

انقسام بين اليهود

وفي أوساط الشتات اليهودي، أوجدت حركة “بي دي إس” انقسامات جديدة داخل يسار الوسط الذي يتعرض لضغوط شديدة من قبل اليمين والحكومة الإسرائيلية المساندة للاستيطان من جهة، ومن قبل اليسار غير الصهيوني من جهة أخرى. وقد دفع ذلك الصهاينة الليبراليين نحو التساؤل لماذا يقبلون في بعض الأحيان بمقاطعة المنتجات الواردة من المستوطنات، ولكن لا يقبلون بمقاطعة الدولة التي أوجدتها وتمدها بمقومات الحياة؟ وأجبرت أنصار إسرائيل الأكثر انتقاداً لها على تبرير معارضتهم لممارسة أي من أشكال الضغط السلمي على إسرائيل، في حين أن غياب الضغط الحقيقي لم يفعل شيئاً لإنهاء الاحتلال أو التوسع الاستيطاني. وهذا يضع المسؤولية على عاتق الصهاينة الليبراليين إزاء الدفاع عن مساندتهم، ليس لفكرة ما الذي يأملون أن تؤول إليه إسرائيل في يوم من الأيام، ولكن للممارسات الفعلية التي تصدر عن الدولة، بما في ذلك مصادرة أراضي الفلسطينيين لبناء المستوطنات اليهودية عليها، واعتقال المئات من الفلسطينيين دون محاكمة أو توجيه تهم لهم، وإنزال العقاب الجماعي بحق ما يقرب من مليوني إنسان يعيشون تحت حصار مضى عليه أكثر من عقد من الزمن، وانعدام المساواة في كل مناحي الحياة بين اليهود والفلسطينيين من مواطني دولة إسرائيل. لقد حرمت حركة “بي دي إس” أنصار إسرائيل الليبراليين من إيجاد مبرر مفاده أن الاحتلال الشاذ أو الحكومات اليمينية هي المسؤولية بشكل أساسي عن ممارسات الدولة غير الديمقراطية.

ولعل الأهم من كل ذلك أن حركة “بي دي إس” تحدت حل الدولتين الذي بات محل إجماع لدى المجتمع الدولي. وبهذا تكون قد أزعجت قطاعاً بأسره قام على أساس عملية السلام في الشرق الأوسط، ويشتمل على المنظمات غير الربحية والبعثات الدبلوماسية ومؤسسات البحث والدراسات؛ لأنها تقوض الفرضية الذي قامت عليها، ومفادها أن الصراع يمكن أن يجد طريقه إلى الحل ببساطة من خلال إنهاء الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة والقدس الشرقية وبقية الضفة الغربية، دون التطرق إلى قضية حقوق مواطني إسرائيل من الفلسطينيين وحقوق اللاجئين.

بالنسبة لكثير من يهود الشتات، باتت حركة “بي دي إس” رمزاً للشر ومستودعاً للرعب، وقوة شريرة تنقل الجدل الإسرائيلي الفلسطيني من تفاوض لإنهاء الاحتلال ولتقسيم الأرض إلى جدل حول الجذور الأقدم والأعمق للصراع: أي التهجير القسري لمعظم الفلسطينيين وإقامة الدولة اليهودية على أنقاض قراهم التي تعرضت للغزو والقهر. لقد أعاد بروز حركة “بي دي إس” إلى الحياة أسئلة قديمة حول شرعية الصهيونية، وكيف يمكن تبرير تفضيل حقوق اليهود على حقوق غير اليهود، ولماذا يستطيع اللاجئون في الصراعات الأخرى العودة إلى ديارهم ولكن ليس في هذا الصراع. والأهم من ذلك كله، أنها سلطت الضوء على قضية شائكة لا يمكن بحال تجاهلها إلى الأبد، ألا وهي ما إذا كان بإمكان إسرائيل - حتى فيما لو انتهى احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة - أن تكون ديمقراطية ودولة يهودية في نفس الوقت.

مقاومة سلمية

في مدينة بيت لحم القديمة، وعلى امتداد ممر القناطر القريب من السوق ومن ميدان المهد، يرتفع مبنى مشيد من الحجر الجيري عمره مئات السنين؛ يؤوي الآن المقر الرئيسي لمنظمة فلسطينية اسمها أمانة الأراضي المقدسة، وهي منظمة مكرسة لمقاومة الحكم الإسرائيلي سلمياً. يوجد في الطابق العلوي مكتب لمؤسس هذه المنظمة غير الربحية، واسمه سامي عوض. تغطي رفوف المكتب مؤلفات لكبار المنظرين والنشطاء في وسائل الاحتجاج والعصيان المدني، مثل جين شارب، والمهاتما غاندي، ونيلسون مانديلا ومارتن لوثر كينغ الابن، وكل هؤلاء تتجلى بشكل واضح تجاربهم وآراؤهم فيما يلقيه (عوض) من محاضرات أو ما ينشره من كتابات، بل وحتى في معرض حديثه العادي مع الآخرين.

كثيراً ما يلتقي سامي عوض مع وفود من اليهود الإسرائيليين والأمريكيين، وعلى غير ما هو معهود لدى كثير من النشطاء الفلسطينيين، لا تجده يتحرج من الحديث عن الصلة اليهودية بأرضه، حيث يقول: “بإمكاني أن أنكرها حتى قيام الساعة. ولكنها راسخة جداً وعاطفية جداً”. في نفس الوقت تجده يتحدث بصراحة عن الاحتلال وعن العنصرية، بينما يصر على أن إسرائيل لن تمنح الفلسطينيين الحرية ما لم تجبر على ذلك، وقال لي: “لا يوجد أبداً جماعة مستبدة تقرر بنفسها الالتزام بالمعايير الأخلاقية وتغيير سلوكها. لا بد من أن يحدث شيء ما: حراك، مقاومة، مقاطعة”.

لم يفتأ اليهود والعرب يقاطع بعضهم بعضاً منذ الأيام الأولى للصهيونية. وفي السنوات التي سبقت تأسيس إسرائيل، شنت الحركة الصهيونية حملات لمقاطعة العمال العرب، ورفض المنتجات الزراعية العربية، واستثناء العرب من التجمعات السكانية المخصصة لليهود دون غيرهم، وتحريم بيع العرب أراضي مملوكة لليهود. وفي عام 1922، دعا مؤتمر فلسطين العربي الخامس إلى مقاطعة البضائع اليهودية، ثم بعد أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية وقطاع غزة في عام 1967، قاطع المحامون الفلسطينيون المحاكم الإسرائيلية، ونظم المدرسون إضراباً تحت شعار “لا تعليم تحت الاحتلال”، فردت إسرائيل على هذه وعلى غيرها من أعمال العصيان المدني بالاعتقالات والغرامات، وفرض القيود على الحركة والسفر، وإغلاق الدكاكين وحظر التجول، بل وإبعاد المدرسين والمحامين ورؤساء البلديات ورؤساء الجامعات.

كان مبارك عوض، وهو عم سامي، واحداً من رواد المقاومة الفلسطينية السلمية في ثمانينيات القرن الماضي. ومما فعله (مبارك) عوض أنه حث الفلسطينيين على إعادة الفواتير التي تكتب فقط باللغة العبرية، وعلى رفض الاستدعاءات التي تأتيهم من المحاكم، وعلى رفع العلم الفلسطيني، وهو الفعل الذي كان ينتهي بصاحبه إلى السجن. واستلهاماً لتجربة غاندي في مقاطعة القماش البريطاني، شجع على استبدال المنتجات الإسرائيلية بمنتجات فلسطينية.

من الانتفاضة إلى المقاطعة

إلا أن البرنامج الذي دعا إليه مبارك عوض وروج له غيره من النشطاء لم يجد فرصة للتبني والتنفيذ بشكل كامل؛ إلا عندما بدأت الانتفاضة الشعبية ضد الاحتلال في عام 1987. حينها بدأ، وعلى نطاق واسع، استخدام الوسائل والآليات التي طالما دعا إليها داخل غرف الدراسة ومن خلال الدوريات الأكاديمية، وذلك بفضل الحركة الشعبية التي حظيت بدعم ومساندة الأحزاب السياسية الرئيسية، فقاطع المستهلكون البضائع والخدمات الإسرائيلية، واستنكف عمال القطاع الصناعي الإسرائيلي عن الذهاب إلى العمل، وأغلقت الدكاكين أبوابها بشكل جماعي، وسحب الزبائن أموالهم من المصارف الإسرائيلية، ورفض السكان دفع الضرائب واستقال معظم جباة الضرائب ورجال الشرطة من الفلسطينيين. وذكر بنك إسرائيل حينها أن إسرائيل تكبدت، بسبب مقاطعة الفلسطينيين، 650 مليون دولار أمريكي (أي ما يعادل 1.4 مليار دولار بقيمة اليوم)، فقط في السنة الأولى من الانتفاضة. وُجهت إلى مبارك عوض تهمة “إشعال التمرد ضد الدولة”. ومثله مثل العشرات الآخرين، أبعدته إسرائيل خلال السنة الأولى من الانتفاضة.

أرسل سامي عوض من قبل والديه إلى كانساس لإكمال دراسته، وعندما عاد إلى بيت لحم في عام 1996، كانت المدينة قد تغيرت وتبدلت بسبب عملية أوسلو للسلام. فقد انتقل الآلاف من مسؤولي منظمة التحرير ومقاتليها من المنافي في العالم العربي؛ إلى الضفة الغربية وقطاع غزة، وأصبحوا الآن موظفين في الإدارة الفلسطينية التي تم إنشاؤها حديثاً. استبدلت ثقافة المقاومة بثقافة التعايش، وترعرعت حينها صناعة السلام بفضل تدفق الأموال الأجنبية لتمويل جماعات الحوار والمبادرات التي كانت تنبثق عن المنظمات غير الحكومية وبين الناس من الطرفين.

ومثله مثل معظم الفلسطينيين، كان سامي عوض متفائلاً يرنو إلى السلام الذي بات وشيكاً. إلا أن تفاؤله تبدد خلال عامين، فالإدارة الفلسطينية الناشئة التي تأسست بعد توقيع اتفاق أوسلو في عام 1993 بدت أبعد ما تكون عن المنظومة الديمقراطية التي يمكن أن تؤدي إلى بلد مستقل في الضفة الغربية وقطاع غزة، وأقرب إلى دولة بوليسية آخذة في التضخم. كان يسمع كلاماً لا ينتهي عن السلام والتعايش، ولكن ما كان يراه على الأرض كان مزيداً من العزل وفرض القيود على حريته. كانت الأراضي الفلسطينية المحكومة ذاتياً في الضفة الغربية عبارة عن جزر صغيرة مقطعة الأوصال، تعدادها 165، تحاط كل منها ببحر من الأراضي الخاضعة للسيطرة الإسرائيلية. وضمن هذا البحر من الأراضي - التي تشكل ما نسبته 60 في المئة من مساحة الضفة الغربية ويحظر دخولها على الحكومة الفلسطينية - ذهبت إسرائيل لتصادر الأراضي لإنشاء المستوطنات وتهدم المباني الفلسطينية، وتقدم الحوافز المالية لزيادة عدد السكان داخل المستوطنات. بدأ سامي عوض يتساءل: إذا كانت أوسلو هي الطريق إلى حل الدولتين، فهل يرغب فعلاً في الوصول إلى الوجهة التي ينتهي إليها ذلك الطريق؟

وعندما اندلعت الانتفاضة الثانية، في أيلول/ سبتمبر من عام 2000، بما شهدته من تفجيرات انتحارية فلسطينية واعتداءات إسرائيلية وهجمات بالصواريخ، توقف تماماً الحوار، وانتهت مبادرات صنع السلام التي كانت تقوم بها مجموعات مثل أمانة الأراضي المقدسة. وأصبح التركيز، بالنسبة لسامي عوض، ينصب على المقاومة السلمية، والتي لم تكن حينها تحظى بالشعبية ولم تكن بأي حال بسيطة. كانت تلك أكثر الفترات دموية في تاريخ الاقتتال الإسرائيلي الفلسطيني منذ حرب عام 1948. فقد قتل في المواجهات ما يزيد عن ثلاثة آلاف فلسطيني وألف إسرائيلي. وبسبب عسكرة الانتفاضة، أصبحت مواجهة إسرائيل بأي شكل من الأشكال، بما في ذلك المقاومة السلمية، أمراً في غاية الخطورة.

ورغم ذلك، تمكن سامي عوض وغيره من النشطاء من اقتطاع حيز ضئيل للمقاومة السلمية. ولقد تظاهر احتجاجاً على مصادرة الأراضي في الضفة الغربية، ثم بعد عام 2002، تظاهر ضد بناء ما يطلق عليه الإسرائيليون السياج الأمني ويطلق عليه الفلسطينيون جدار التمييز العنصري. إنه حاجز مكون من مزيج من الجدر المصنعة من الكتل الخرسانية التي يصل ارتفاعها إلى ثمانية أمتار، ومن السياجات والأسلاك شائكة. يخترق هذا الحاجز الضفة الغربية والقدس، فيفصل الفلسطينيين بعضهم عن بعض، ويعزل القرويين عن قراهم. ولقد نجم عن الجدار ضم فعلي لما يقرب من 10 في المئة من الضفة الغربية إلى إسرائيل، وفي القدس الشرقية عزل الجدار ثلث السكان الفلسطينيين تقريباً عن مدارسهم وعياداتهم الطبية وأماكن عملهم. ويمكن للمرء أن يشاهد حشود المقدسيين وسكان الضفة الغربية عند الساعة الرابعة والخامسة فجراً وهم يحشرون كالماشية عبر نقاط تفتيش أشبه بالأقفاص، حتى يعبروا إلى الجهة الأخرى من الجدار.

ومع تصاعد العنف في الانتفاضة الثانية، نمت الحملة الدولية للتضامن مع الفلسطينيين. ففي الشهور الأولى من الانتفاضة، أقام الطلاب في جامعة كاليفورنيا فرع بيركلي نقاط تفتيش شكلية، ورفعوا يافطات طالبوا من خلالها بسحب الاستثمارات من إسرائيل، دولة الأبارتيد (التمييز العنصري). وفي عام 2002، وقعت هيئة التدريس في جامعة هارفارد على عريضة تطالب بسحب الاستثمارات من إسرائيل. وأما في مدينة ديربن، في جنوب أفريقيا، فطالب ممثلو ما يقرب من ثلاثة آلاف منظمة غير حكومية كانوا يشاركون في مؤتمر دولي ضد العنصرية برعاية الأمم المتحدة؛ “المجتمع الدولي بفرض سياسة العزل الكامل والتام ضد إسرائيل باعتبارها دولة أبارتيد (تمييز عنصري)”. ما لبثت حملات المقاطعة والمطالبة بسحب الاستثمارات أن انتشرت في أرجاء جامعات الولايات المتحدة وبريطانيا وأوروبا، وحازت على دعم العديد من الأكاديميين الإسرائيليين، وأعداد ضخمة من الفلسطينيين.

وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، ذهب النشطاء الدوليون والإسرائيليون يعلنون دعمهم وتأييدهم، وكان لوجودهم في العادة دور مهم في حمل الجيش الإسرائيلي على التصرف بدرجة أكبر من الحذر، الأمر الذي وفر قدراً من الحماية للمتظاهرين الفلسطينيين. كان سامي عوض ما يزال حينها يعمل مع الإسرائيليين، ولكنه بات يصر على أن أي تعاون معهم ينبغي أن يقوم ليس على التعايش، وإنما على التعاون في المقاومة، على أن يتقدم الفلسطينيون الصفوف. تعرض لإطلاق الغاز المسيل للدموع، وكذلك للضرب ثم الاعتقال، حاله في ذلك حال غيره من أعضاء الجماعات النشطة في هذا المجال، مثل حركة التضامن الدولي، والفرق المسيحية لصنع السلام، وحركة “فوضويون ضد الجدار” التي يقودها إسرائيليون.

بعد قضاء أسبوع أو أكثر بين القرويين الفلسطينيين، كان النشطاء الأجانب يعودون إلى جامعاتهم وكنائسهم ونقاباتهم العمالية، ليتحدثوا عن وجود حركة فلسطينية للمقاومة السلمية قلما سمع بها الناس، مؤكدين على أن هذه الحركة يمكن أن تُسند وتُدعم من خلال مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها. كانت أول عملية سحب للاستثمارات تقوم بها مؤسسة علمية جامعية في الولايات المتحدة هي تلك التي بادرت بها كلية ساوث هامبشاير، علماً بأنها كنت أيضاً الجامعة الأمريكية الأولى التي تسحب استثماراتها من جنوب أفريقيا في عهد نظام التمييز العنصري. والذي قاد هذه المبادرة كان طالب بكالوريوس إسرائيلي اسمه ماتان كوهين، والذي أصيب حينما كان في السابعة عشرة من عمره برصاصة في عينه أطلقها عليه جندي إسرائيل بينما كان يتظاهر ضد حاجز العزل. وهكذا، مهد النشاط السلمي المرافق للانتفاضة الثانية السبيل لما أصبح من بعد حملة عالمية لمقاطعة إسرائيل.

2

تأسست حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات “بي دي إس” بإعلان بيان مبادئ عرف باسم “نداء بي دي إس” في التاسع من تموز/ يوليو من عام 2005، وكان ذلك بمثابة الملاذ الأخير. فقد تعرض الفلسطينيون لهزيمة ساحقة على أيدي الجيش الإسرائيلي في الانتفاضة الثانية، وتوفي رمز الحركة الوطنية الفلسطينية ياسر عرفات. وأما خلفه محمود عباس، فكان أكثر الناس التصاقاً بعملية أوسلو للسلام من أي فلسطيني آخر. بدت زعامة عباس كما لو أنها تبشر باستراحة من العنف، ولكنها في نفس الوقت وعدت بالعودة إلى استراتيجية النشاط الدبلوماسي والتعاون، وهي الاستراتيجية التي لم تجد نفعاً في إنهاء الاحتلال. لو أريد للضغط أن يمارس على إسرائيل لمنح الفلسطينيون حريتهم، فلا مفر من أن يأتي الضغط من القواعد الجماهيرية ومن الخارج.

صدر نداء “بي دي إس” بمناسبة الذكرى السنوية الأولى للرأي الاستشاري التاريخي الصادر عن محكمة العدل الدولية، وكانت المحكمة قد قررت أن الجدار الفاصل الإسرائيلي لم يكن قانونياً، وأنه يتوجب على إسرائيل تفكيكه فوراً وتقديم تعويضات لأولئك الذين تضرروا بسببه، وأن كل دولة موقعة على معاهدة جنيف الرابعة وهذا يعني تقريباً أن كل دول العالم ملزمة بضمان أن تتقيد إسرائيل بالقانون الدولي الإسرائيلي. إلا أن إسرائيل تجاهلت الحكم الصادر عن المحكمة، ولم تبادر لا منظمة التحرير ولا المجتمع الدولي ببذل أي مسعى حقيقي لتنفيذ الحكم الصادر عن المحكمة. وفي هذا السياق، قالت لي إنغريد جرادات، وهي واحدة من الأعضاء المؤسسين لحملة “بي دي إس”: “لو أنه صدر عن المجتمع الدولي إجراء لتطبيق قرار محكمة العدل الدولية لما وُجد نداء بي دي إس”.

بادر ما يزيد على 170 من المنظمات الفلسطينية داخل المناطق المحتلة وفي إسرائيل وفي الشتات إلى إقرار نداء “بي دي إس”. تنتمي هذه المنظمات إلى كافة ألوان الطيف، ففيهم الإسلاميون واليساريون وأنصار حل الدولتين وأنصار حل الدولة الواحدة. واشتملت القائمة أيضاً على القوى الفلسطينية الوطنية والإسلامية - الكيان الذي ينسق مع كافة الأحزاب السياسية المهمة - إضافة إلى النقابات المهنية البارزة ولجان مخيمات اللاجئين وجمعيات الأسرى، والمراكز الفنية والثقافية، وجماعات المقاومة السلمية، بما فيهم أمانة الأراضي المقدسة التي يرأسها سامي عوض. والآن، يشكل 29 من هذه الكيانات اللجنة الوطنية لـ“بي دي إس”، أو ما يعرف اختصاراً باسم “بي إن سي”، وهو بمثابة المجلس القيادي لهذه الحركة.

حملات منظمة

لم يكن الإبداع الأهم لنداء “بي دي إس” متمثلاً في الأساليب التي دعت الحركة إلى انتهاجها. ففكرة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات كانت قد انتشرت على نطاق واسع في عام 2005، بل تم من قبل اقتراح تطبيق العقوبات وحظر السلاح، بما في ذلك من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة. ما كان جديداً في موضوع “بي دي إس” هو أنها لجأت إلى تنظيم حملات مختلفة للضغط على إسرائيل ووحدت كلمتها حول ثلاثة مطالب واضحة، يناط بكل واحدة منها مكون رئيسي من مكونات الشعب الفلسطيني. أولاً، الحرية لسكان المناطق المحتلة، وثانياً، المساواة لمواطني إسرائيل من الفلسطينيين، وثالثاً، العدل للاجئين الفلسطينيين في الشتات - وهي المجموعة الأضخم - بما في ذلك حقهم في العودة إلى ديارهم.

كان نداء “بي دي إس” بمثابة تحد ليس فقط لإسرائيل، بل أيضاً للقيادة الفلسطينية، حيث مثل إعادة تأطير مفاهيمي للنضال الوطني، وجاء أكثر انسجاماً مع المواقف الأصلية لمنظمة التحرير، قبل أن تجبر من خلال إلحاق الهزيمة العسكرية بها وبسبب الضغوط الدولية وبفعل البراغماتية السياسية؛ على التخلي عن هدف إقامة الدولة الديمقراطية الواحدة والخضوع لفكرة حل الدولتين بديلاً عن ذلك. أرادت القوى الدولية تصوير حل الدولتين كما لو كان هدية تمنح للشعب الفلسطيني، ولكن الهدية من وجهة نظر الفلسطينيين كانت بوضوح ممنوحة لإسرائيل؛ لأن حل الدولتين كان يعني بالنسبة لهم تخلي سكان البلاد الأصليين عن 78 في المئة من أراضيهم. كان العرب في الأيام الأولى للصهيونية في نهايات القرن التاسع عشر يشكلون أكثر من 90 في المئة من السكان، ثم باتوا يشكلون أكثر من ثلثي السكان في عام 1948 قبيل حرب استقلال إسرائيل. في ذلك العام تم تفريغ الأراضي التي أصبحت فيما بعد إسرائيل من 80 في المئة من سكانها الفلسطينيين، والذين منعوا بعد ذلك من العودة إلى ديارهم. تأسست منظمة التحرير الفلسطينية بعد ما يقرب من 16 عاماً، وتحديداً في عام 1964، قبل أن تحتل إسرائيل أياً من أراضي الضفة الغربية وقطاع غزة. ولذلك كان الهدف الأساسي للقضية الفلسطينية هو تحرير الوطن بأسره وعودة كافة السكان الأصليين.

حل الدولتين

وبانطلاق الانتفاضة الأولى ثم توقيع اتفاقيات أوسلو، التي أنهت الانتفاضة في عام 1993، بات كثير من الفلسطينيين على استعداد للقبول بصيغة حل الدولتين، ليس لأن ذلك الحل بدا منصفاً لهم، وإنما لأنه كان أقصى ما بإمكانهم الأمل في الحصول عليه. ولكن مع بروز تفاصيل مختلف المقترحات المتعلقة بعملية السلام بدأ يظهر للعيان كم هي متعفنة تلك الصفقة. كان الفلسطينيون ملزمين بالتخلي ليس فقط عن 78 في المئة من وطنهم، ولكن أيضاً عن الأراضي التي استولت عليها المستوطنات الكبرى داخل الأراضي المحتلة. كما كان عليهم التخلي عن السيادة في أجزاء كبيرة من القدس الشرقية المحتلة، عاصمتهم المستقبلية، وعن البلدة القديمة التي تقع بالكامل في القلب منها. وكان يتوجب عليهم الموافقة على أن أي معاهدة سلام يتم التوصل إليها لن تسمح بعودة معظم اللاجئين إلى ديارهم على النقيض من معظم اتفاقيات السلام الأخرى التي تم التوقيع عليها؛ منذ أن تفاوض الإسرائيليون والفلسطينيون للوهلة الأولى على مسودة الاتفاق النهائي في عام 1995. وكان يتوجب عليهم التخلي عن أي مطالب يطلبونها من إسرائيل، بما في ذلك المطالبة بحقوق متساوية لمواطني إسرائيل من الفلسطينيين، والذين كانوا يشكلون أكثر من خمس السكان. وفي المقابل، كان الفلسطينيون سيحصلون على دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة طالما وصفها رؤساء وزراء إسرائيل – من إسحق رابين إلى بنيامين نتنياهو – بأنها “دولة ناقصة” أو “كيان أقل من دولة”.

أثناء المفاوضات مع إسرائيل، وافقت منظمة التحرير على كل واحد من هذه التنازلات، رغم أن قلة قليلة منها، إن وجدت، كانت مسنودة بالقانون الدولي. وعندما تبين في النهاية أنه حتى هذه التنازلات لم تكن كافية للوصول إلى إنهاء الاحتلال، بدأ عدد متزايد من الفلسطينيين يفقدون حماستهم واهتمامهم بفكرة حل الدولتين. لم يكن ذلك ناجماً فقط عن كون الفكرة الأصلية من حل الدولتين قد ذوت لدرجة أنه لم يعد من الممكن التعرف على ملامحها، بل إن النسخة المتآكلة منها حتى بدت الآن مجرد سراب.

عندما صدر نداء “بي دي إس” كان الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة قد مر عليه ما يقرب من أربعة عقود، ولم يكن ثمة مؤشرات على قرب انتهائه. تضاعف عدد المستوطنين تقريباً منذ أوسلو، ووصل في عام 2005 إلى نصف مليون تقريباً. معظم هؤلاء لم يكونوا يقيمون في مساكن متنقلة على قمم التلال، وإنما داخل مدن تشتمل على مراكز تسوق كبيرة وعلى حدائق ومسابح عامة وطرق سريعة متعددة المسارات تربطهم بسهولة تامة بإسرائيل، حتى بدت فكرة ترحيل حتى ثلث هذا التجمع السكاني الآخذ بالنمو تدريجياً غير واردة. وما فعلته الولايات المتحدة وغيرها من القوى الدولية لم يتجاوز مجرد فرك أصابعهم. لقد وعدوا الفلسطينيين بأن الوضع سينتهي سريعاً بتأسيس دولة مستقلة لهم.

ومع مرور الوقت أضحى حل الدولتين شعاراً مفرغاً من كل مضمون. وكلما بدا أقل قابلية للتطبيق ارتفعت الأصوات المبشرة به، ولكن طالما أنه ظل من الممكن أن تتخيله الأذهان، فقد رفضت القوى الدولية الكبرى المطالبة بأن تمنح إسرائيل الفلسطينيين مواطنة وحقوقاً متساوية. وبذلك تحول مفهوم الدولتين من حل ممكن لمشكلة الاحتلال الإسرائيلي إلى ذريعة أساسية لحرمان الفلسطينيين من المساواة. كما أنه بات العذر الرئيسي لإبقاء أغلبية الفلسطينيين في المنافي. فللحفاظ على أغلبية إسرائيل اليهودية يجب أن يظل اللاجئون قابعين في المخيمات خارج حدود إسرائيل إلى أن توجد الدولة الفلسطينية القادرة على استيعابهم.

دولتان أم دولة واحدة؟

قدمت حركة “بي دي إس” بديلاً عن ذلك، حيث رفضت الحديث عن حلول وهمية، سواء كان حل الدولتين أم حل الدولة الواحدة. لم تكن المشكلة الأهم من وجهة نظرها تكمن في اتخاذ قرار بشأن ما نوع الترتيب الذي ينبغي أن يحل محل النظام الحالي، وإنما في إجبار إسرائيل على تغيير هذا الوضع بشكل كلي. وترى الحركة أن الجدل حول حل الدولتين مقابل حل الدولة الواحدة هو بمثابة الانهماك في إحصاء عدد الملائكة المتواجدين على رأس الدبوس، فطالما أن إسرائيل مرتاحة بما يكفي لكي تستمر إلى الأبد في احتلالها للمناطق الفلسطينية فلن تجد نفسها مضطرة للاختيار بين هذا الحل وذاك.

كان رد فعل إسرائيل على حركة “بي دي إس” بطيئاً، ولكن حينما وصل كان قوياً وحازماً. يوسي كوبرواسر، والشهير باسم كوبر، هو الذي قاد جهود الحكومة الإسرائيلية ضد حركة “بي دي إس” حتى عام 2014. يعمل كوبر الآن في مركز القدس للشؤون العامة، وهو عبارة عن مركز أبحاث محافظ يديره دوري غولد، سفير إسرائيل السابق في الأمم المتحدة وهو صديق قديم ومقرب من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. كوبرواسر، الذي خفف شعر رأسه ويملك صوتاً مبحوحاً، ولديه القدرة على جذب محدثه بأسلوبه الحاسم في الحديث. يتكلم العربية بطلاقة هو وزجته تسيونيت (وهي بالعبرية تعني “صهيونية”) التي ولدت في إسرائيل لأب وأم من يهود العراق. كان كوبر يدير قسم الأبحاث في وكالة الاستخبارات العسكرية أثناء الانتفاضة الثانية، ثم عين مديراً عاماً لوزارة الشؤون الاستراتيجية في عام 2009.

“تهديد استراتيجي” لإسرائيل

كوبرواسر هذا هو الذي حول الوزارة إلى مركز قيادة إسرائيلي لما يطلق عليه المعركة ضد “بي دي إس”. بدأ العمل في وظيفته مباشرة بعد الحرب على غزة في نهايات 2008 ومطلع 2009، والتي قتل فيها 13 إسرائيلياً وما يقرب من 1400 فلسطيني، مما رفع وتيرة نشاط بي دي إس إلى أعلىالمستويات. وفي سبتمبر / أيلول من عام 2009، تلقت سمعة إسرائيل العالمية ضربة شديدة وجهها لها تقرير الأمم المتحدة حول الحرب، والذي حررته بعثة تقصي حقائق كان يترأسها القاضي الشهير من جنوب أفريقيا، ريتشارد غولدستون. خلص التقرير إلى أن إسرائيل والمجموعات الفلسطينية المسلحة ارتكبت جرائم حرب، وأن إسرائيل نفذت “هجمات متعمدة ضد المدنيين” وذلك “بنية نشر الرعب”. كما وجد التقرير أن الحصار المفروض على غزة (ويقصد به سلسلة الإجراءات التي تحرم الفلسطينيين من وسائل العيش ومن التوظيف ومن المساكن والمياه، وتحرمهم حرية الحركة وحق مغادرة بلدهم والرجوع إليها") شكل ما يحتمل أن يكون جريمة ضد الإنسانية.

قال كوبرواسر إن تقرير غولدستون كان أول تنبيه لإسرائيل بالطبيعة الخطيرة للتهديد الذي يشكله ما تطلق عليه “نزع الشرعية”. في أواخر عام 2009، اعتبر نتنياهو “نزع الشرعية” واحداً من ثلاثة أمور خطيرة تهدد إسرائيل إضافة إلى برنامج إيران النووي وانتشار الصواريخ والقذائف داخل غزة وفي لبنان. منذ ذلك الحين، بات شائعاً أن تسمع كبار السياسيين الإسرائيليين يصفون “بي دي إس” ونزع الشرعية بالتهديد الوجودي أو الاستراتيجي.

إلا أن بعض المعلقين في يسار الوسط الإسرائيلي، وكلهم يعارضون بي دي إس، لديهم نظرة تتسم بالريبة تجاه الحملة التي تشنها الحكومة دولياً ضد بي دي إس. ويعتقد هؤلاء أن هذه الحملة منطلقة أساساً من اعتبارات سياسية محلية، ويشيرون إلى أنه منذ تأسيس “بي دي إس” قبل 13 عاماً، زادت التجارة الإسرائيلية مع العالم الخارجي في واقع الأمر، ويقولون إن علاقات إسرائيل الدبلوماسية مع الهند والصين والدول الأفريقية وحتى مع العالم العربي قد نمت. ويرى كثير من المعلقين الإسرائيليين من التيار العام بأن حركة “بي دي إس” والسياسيين الإسرائيليين من اليسار ومن اليمين على حد سواء؛ يعملون بشكل يشبه حالة من التعايش المتبادل، حيث يهدد اليسار الإسرائيلي بأن “بي دي إس” ونزع الشرعية سيتسببان في “تسونامي دبلوماسي” دولي ضد إسرائيل“بينما يقوم اليمين الإسرائيلي بما تعود عليه من نشر للخوف حول الأخطار الخارجية المحدقة لكي يحصل لنفسه على الدعم اللازم محلياً وخارجياً. وفي هذه الأثناء، تشير حركة”بي دي إس" بلهفة إلى كل تصريح إسرائيلي تطغى عليه المبالغة باعتباره دليلاً على نجاحها هي.

حقوق الفلسطينيين ومزايا المستوطنين

إلا أن كوبرواسر يقول إن التهديد الذي تشكله “بي دي إس” حقيقي جداً، وأن تجاهلها أو التعامل معها كما لو كانت مجرد إزعاج بسيط سوف يخفق، ويضيف: “حتى عام 2010، جربنا تلك السياسة، وكانت النتائج غير جيدة”. ويقول إن الأهم من ذلك أن قياس تأثير “بي دي إس” من خلال حجم تجارة إسرائيل كان خطأ كبيراً. ويؤكد أنه “ليست القضية الأساسية هي ما إذا كانوا سيقاطعوننا أم لا، وإنما ما إذا كانوا سينجحون في اختراق الخطاب الدولي وزرع فكرة أن إسرائيل غير شرعية كدولة يهودية”.

أكثر من عشرين في المئة من مواطني إسرائيل الذي يبلغ تعدادهم 8.8 مليون نسمة هم من الفلسطينيين. وهؤلاء هم الناجون الذين بقوا ومن ينحدر من أصلاب هذه الأقلية التي ظلت داخل حدود إسرائيل أثناء حرب 1948. ومن هؤلاء حنين الزعبي، الفلسطينية البالغة من العمر 49 عاماً، وهي مواطنة إسرائيلية من الناصرة، تشغل مقعداً داخل البرلمان، أو الكنيست الإسرائيلي، منذ عام 2009، وتشتهر بتأييدها لحملة “بي دي إس”. تعتبر حنين الزعبي من أشد منتقدي إسرائيل داخل الكنيست، حيث تندد بشكل منتظم بسياسات إسرائيل تجاه الفلسطينيين وتتهم إسرائيل بأنها دولة أبارتيد (تمييز عنصري). يكتظ موقع يوتيوب بمقاطع الفيديو التي تظهرها وهي واقفة بهدوء أمام المنصة تحاول التحدث، ولكنها تتعرض للمقاطعة والتشويش والتضييق من قبل البرلمانيين الإسرائيليين الساخطين عليها، والذين يُسمع بعضهم وهو يصرخ في وجهها قائلاً “خائنة” أو “اذهبي إلى غزة”. بل بلغ الأمر بعضو الكنيست عن الليكود ميري ريغيف أن طالبت بإبعادها من البلاد. وكانت حنان الزعبي قد تعرضت لتحقيق جنائي بتهمة التحريض، وعُلقت عضويتها في الكنيست عدة مرات، كان آخرها في شهر آذار/ مارس؛ لأنها قالت إن قتل الفلسطينيين على يد الجيش الإسرائيلي جريمة قتل.

وبينما تسمح إسرائيل للمواطنين الفلسطينيين من مثل حنان الزعبي بالتصويت في الانتخابات وباحتلال المناصب الحكومية، إلا أن الدولة ظلت باستمرار ترى في تملك المواطنين الفلسطينيين للأرض تهديداً محدقاً بها، ولذلك فقد نفذت خططاً حكومية رسمية لتهويد المناطق العربية وتقليص الوجود العربي فيها. يذكر أنه بعد حرب عام 1948، لم يبق سوى 20 في المئة من الفلسطينيين في المناطق التي أصبحت فيما بعد إسرائيل، وربع هؤلاء الذين بقوا كانوا من المهجرين داخلياً. أبقت إسرائيل مواطنيها الفلسطينيين عرضة لحظر التجول وقيود الحكومة العسكرية حتى عام 1966، وصادرت تقريباً نصف أراضيهم، وسنت قوانين تحول دون مطالبتهم باستعادتها، وما زالت سارية حتى هذا اليوم.

يقيم عشرات الآلاف من الفلسطينيين في قرى كانت قائمة قبل قيام إسرائيل، ولكنها تعتبر “غير معترف بها” من قبل الدولة، ولذلك يتعرض سكانها لهدم منازلهم وللإخلاء الإجباري بينما لا تكاد الدولة توفر لهم شيئاً من خدماتها، ولا حتى الماء أو الكهرباء. وإزاء فرض الدولة قيوداً تحد من تنمية وتمدد البلدات العربية، يضطر المواطنون الفلسطينيون إلى التقدم للحصول من خلال المزاد على وحدات سكنية داخل التجمعات السكينة اليهودية، إلا أن طلباتهم تواجه مراراً وتكراراً بالرفض. هناك المئات من التجمعات السكانية المخصصة حصرياً لليهود، وهذه لديها لجان قبول تملك صلاحيات قانونية برفض الطلبات بناء على “التوافق الاجتماعي”، وهو ما يوفر ذريعة لإقصاء غير اليهود وحرمانهم. وفي ذلك تقول حنان الزعبي: “ما نواجهه نحن الفلسطينيين داخل إسرائيل هو الأبارتيد (الفصل العنصري) وليس فقط التمييز. تحاول إسرائيل القول:”إننا إسرائيل الطيبة التي تضطر لعمل أشياء سيئة في الضفة الغربية وقطاع غزة“. لا، انظر إلى الطريقة التي تعامل بها إسرائيل مواطنيها (العرب) الذين لا يلقون الحجارة!”.

3

تعززت سياسات إسرائيل التي ما لبثت تنتهجها منذ وقت طويل؛ في شهر يوليو / تموز 2018، بإصدار ما يسمى “قانون أساسي”، وهو الشكل الإسرائيلي من القوانين الدستورية، وهو يحط من مكانة اللغة العربية، وينص على أن اليهود يتمتعون بحق تقرير المصير في إسرائيل، ويعلن أن “الدولة تعتبر تنمية الاستيطان اليهودي قيمة قومية وسوف تعمل على تشجيع وتوسيع إقامته وتعمل على تعزيزه وتقويته”.

تقول الزعبي إن منظمة التحرير الفلسطينية تخلت عن مسؤولياتها تجاه الشعب الفلسطيني. فبعد التزامها رسمياً بوضع الدولتين المنفصلتين في عام 1988، كما تقول، “أقرت المنظمة فعلياً بأن إسرائيل دولة يهودية”، دولة بات انعدام المساواة فيها بين اليهود وغير اليهود منصوصاً عليه في قوانينها. والآن لم يعد ثمة من يتحدى الصهيونية نفسها سوى المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، من خلال الإصرار على أن الدولة لا يمكنها حقيقة أن تكون ديمقراطية ويهودية في نفس الوقت. ونتيجة لذلك، أضحى المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل “خطراً أكبر على إسرائيل من منظمة التحرير الفلسطينية نفسها”. ومضت الزعبي تقول: “لقد حددت منظمة التحرير الفلسطينية نضالنا” - أي نضال المواطنين الفلسطينيين في سبيل المساواة - “بأنه قضية إسرائيلية داخلية. وبذلك تخلت عنا!”.

وانتقدت الزعبي بشدة القيادة الفلسطينية لدورها في إطالة أمد الاحتلال، ولامت محمود عباس، والشهير أيضاً بكنيته “أبو مازن”، رئيس منظمة التحرير ورئيس السلطة الفلسطينية، على أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قرر الخروج على عقود من السياسة الأمريكية، فخالف أسلافه واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل في كانون الأول/ ديسمبر الماضي. وخاطبتني حنين الزعبي قائلة: “لقد أجرى ترامب حسبته، وتساءل: ماذا عسى يكون رد الفعل على قراري؟ فقال له الجميع في الولايات المتحدة وفي إسرائيل، وكانوا على صواب، لن يغير أبو مازن من قواعد اللعبة، ولن ينهي التعاون الأمني مع إسرائيل، ولن يوقف اتفاق أوسلو. إذن، ما هو الثمن الذي ستدفعه إسرائيل أو الولايات المتحدة؟”. وقالت الزعبي إنها عندما سافرت إلى الخارج، إلى بلدان مثل إيرلندا وألمانيا والولايات المتحدة، “قال لي المسؤولون هناك إن سفير منظمة التحرير يعارضك في موقفك تجاه بي دي إس، فمن يجدر بنا أن نصدق؟”.

كيف يتفق اليمين مع “بي دي إس”؟

ومثل منظمة التحرير الفلسطينية، تنتقد حنين الزعبي بشدة الاحتلال الإسرائيلي، ولكنها تعتقد بأن الجذور الحقيقية للصراع تكمن في تعامل إسرائيل التاريخي مع الفلسطينيين. وتقول في ذلك: “المشكلة ليست في الاحتلال، وإنما تكمن المشكلة في المشروع الصهيوني. فإسرائيل تخشى أن الناس إن كانت عقولهم مفتوحة ورأوا ما الذي تفعله إسرائيل بالفلسطينيين، فستكون تلك هي النهاية. في اللحظة التي تقول فيها إن إسرائيل ليست دولة طبيعية، وأنها ليست كما يتصور البعض دولة ديمقراطية ترتكب بعض الأخطاء، وإنما هي دولة شاذة، تتصرف ضد حقوق الإنسان، فأنت عندها تحطم صورتها كدولة ليبرالية إنسانية لديها أكثر جيوش العالم التزاماً بالأخلاق. ما تقوم به حركة بي دي إس هو تقويض مكانة إسرائيل وسمعتها”.

رغم أهدافهما المتعارضة تماماً، إلا أن اليمين الإسرائيلي وزعماء حركة “بي دي إس” يتفقون في كثير من الأمور. كلاهما يؤكدان أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يدور من حيث الأساس حول الصهيونية والتهجير القسري لأغلبية الفلسطينيين عام 1948، وليس حول احتلال إسرائيل عام 1967 لغزة والقدس الشرقية وبقية الضفة الغربية. وكلاهما يقران بأنه لا ينبغي معاملة المستوطنات بشكل مختلف عن الحكومة التي أوجدتها. كلاهما يعتقدان بأن مطالب مواطني إسرائيل من الفلسطينيين بالمساواة وحق العودة الإسرائيلي؛ هي قضايا مركزية في النزاع لم تنل اهتماماً كافيا من قبل صناع السلام السابقين. وكلاهما يقولان إن معركة إسرائيل ضد حركة “بي دي إس” ليست نضالاً اقتصادياً بالدرجة الأولى، وكلاهما يعتبران حركة “بي دي إس” ممثلة للمطالب الفلسطينية المجمع عليها، رغم إقرارهما بأن الحركة لا تستطيع استنفار جماهير ضخمة، وأن الناشطين الرئيسيين فيها ليسوا شخصيات مهمة في السياسة الفلسطينية. وكلاهما يعتقدان بأن حركة “بي دي إس” سوف تكشف للعالم عن الطبيعة الحقيقية للصراع.

ولكن بينما تراهن حركة “بي دي إس” على أن هذا الكشف سيقود الناس إلى الاستنتاج بأن الصهيونية حركة عنصرية من حيث الأساس، وأنها ينبغي أن تُرفض، إلا أن كوبرواسر واحد من أولئك الذين لديهم قناعة بأن الفلسطينيين هم الذين سينزع القناع عنهم. ويقول في ذلك: “إن الفلسطينيين يجازفون بمخاطرة كبيرة. لأنه، من وجهة نظري، ثمة فرصة جيدة في أن يرفض العالم إطارهم المفاهيمي. سيقول الناس: هل هذا ما يريده الفلسطينيون؟ إذن نحن ضده تماماً... إنهم مجانين، يريدون لإسرائيل أن تختفي من الوجود”. ويضيف إنه إذا ما حدث ذلك، فإن الفلسطينيين لن يحصلوا ولا حتى على دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي يعتقد أن منظمة التحرير ما زالت تعتبرها مجرد مرحلة أولى في الطريق نحو تحرير فلسطين بأسرها.

“بي دي إس” والقيادة الفلسطينية

ويرى كوبرواسر أن حركة “بي دي إس” والقيادة الفلسطينية تشتركان في السعي لتحقيق نفس الأهداف، وأن الاختلافات بينهما لا تتعدى كونها مسألة تكتيكية. ويقول: “يدرك أبو مازن أكثر من حركة بي دي إس بكثير إنه عليك أن تكون حاذقاً”. ويضيف كوبرواسر إن قبول منظمة التحرير الفلسطينية بحل الدولتين، وتعهداتها بأن تأخذ بالاعتبار مخاوف إسرائيل الديمغرافية (السكانية)، وسكوتها عن حقوق المواطنين الإسرائيليين من الفلسطينيين، كل ذلك ما هو سوى خدعة بهدف الحصول على دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، والتي يمكن فيما بعد أن تلعب دور منصة الانطلاق نحو النضال المستمر. ويقول كوبرواسر: “إن فكرة النضال الفلسطيني متجذرة بعمق في عقولهم، لدرجة أنهم لا يمكنهم في واقع الأمر التفكير بإمكانية التخلي عن النضال من أجل صنع السلام. لا يمكنني إحصاء عدد الفلسطينيين الذين كنت أقول للواحد منهم: اسمع، في هذا النضال أنتم تدفعون ثمناً أكبر بكثير مما ندفعه نحن. بل نحن نزدهر. حتى لو كنا ندفع ثمناً فإننا نزدهر”.

والقضية المهمة بالنسبة لإسرائيل، كما يقول كوبرواسر، هي كسب قلوب وعقول الليبراليين والتقدميين في الخارج، وليس أولئك الذين يتواجدون داخل المعسكر الصهيوني أو داخل المعسكر المعادي للصهيونية. ويقول إن ما زاد الأمر صعوبة هو أن بعض الإسرائيليين واليهود مذنبون “بالإهمال وتعمد الاستسلام في أرض المعركة”، ليس اليسار الراديكالي، وإنما الوسط الذي تبنى بكل سذاجة لغة العدو. وخص كوبرواسر بالكلام رئيس الوزراء السابق عن حزب العمل إيهود باراك، الذي حذر مراراً وتكراراً من أن إسرائيل “توشك أن تنزلق نحو الأبارتيد (الفصل العنصري)”، وهو التحذير الذي كان قد صدر أيضاً عن وزيرة الخارجية السابقة تسيبي ليفني، ورؤساء الوزراء السابقين إيهود أولمرت وإسحق رابين. يرى كوبرواسر أن مثل هذه التصريحات، التي يقصد منها إقناع الإسرائيليين بتقديم تنازلات عن الأرض مقابل السلام، ما هي سوى هدايا يقدمها أصحابها للأعداء.

بالنسبة لحركة “بي دي إس” لم تكن تهمة الأبارتيد (الفصل العنصري)، التي أصبحت بارزة بعد اندلاع الانتفاضة الثانية في عام 2000، مجرد مقارنة مستفزة بما كان عليه الحال في جنوب أفريقيا، وإنما ادعاء قانوني يقوم على أساس من جريمة اسمها الأبارتيد (الفصل العنصري)، كما تم تعريفها في المواثيق الدولية وفي النظام الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية: “هو نظام حكم مؤسسي تمارس فيه مجموعة عرقية معينة القهر والهيمنة بشكل منتظم ضد أي مجموعة أو مجموعات عرقية أخرى بهدف الحفاظ على نظام الحكم”.

الأبارتيد كمهفوم مركزي لـ“بي دي إس”

غدا مفهوم الأبارتيد مركزياً بالنسبة لتأطير حركة “بي دي إس” للصراع. وفي حين تسعى السلطة الفلسطينية إلى التأكيد على استقلالها الذاتي ومواصفاتها التي تشبه الدولة، تسعى حركة “بي دي إس” إلى تسليط الضوء على خضوع السلطة الفلسطينية لإسرائيل وتبعيتها لها. بالنسبة لأنصار نموذج الدولتين، تعتبر السلطة الفلسطينية مشروعاً قومياً يعمل في سبيل تحقيق الاستقلال في نهاية المطاف، بينما يُنظر إليها من داخل إطار الأبارتيد على أنها مجرد مرزبان (حاكم مقاطعة في الدولة الفارسية القديمة) بالنسبة لإسرائيل. ويؤكد زعماء حركة “بي دي إس” على “واقع الدولة الواحدة” لإسرائيل- فلسطين والقائم فعلاً على الأرض - والذي بات الحديث عنه دارجاً وشائعاً حتى بين مؤيدي إسرائيل، والذين يشعر كثير منهم بالأسى إزاء احتمال أن تجبر البلد في نهاية المطاف على منح المواطنة الكاملة للفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال، وبذلك يتعذر أن تبقى البلد دولة يهودية.

بشكل متزايد في أوساط أصدقاء إسرائيل في يسار الوسط كما في أوساط أعدائها، لم تكن فكرة الدولة الواحدة خطة للمستقبل، يُسعى إليها أو يتم النأي عنها، وإنما هي توصيف دقيق للواقع القائم على الأرض، والذي لم يفتأ يزداد تعقيداً وصعوبة يوماً بعد يوم. كان اليهود يشكلون أقلية في المنطقة التي تقع تحت سيطرة إسرائيل، والتي نظمت شؤون الحدود والصادرات والواردات وموارد الجمارك وتصاريح السفر والعمل الخاصة بالفلسطينيين. ما من شك في أن اليهود والفلسطينيين كانوا متداخلين من الناحية القانونية والتجارية والإدارية.

وكلما تكرس بشكل أعمق واقع الدولة الواحدة، كلما تكررت على نطاق واسع تهمة الأبارتيد (الفصل العنصري)، وكلما زادت صعوبة تصور إنهائه من خلال تقسيم البلاد إلى دولتين منفصلتين. من الممكن إنهاء المعركة ضد الاحتلال ببساطة عبر الانسحاب العسكري، أما النضال ضد الأبارتيد فلا يمكن كسبه إلا من خلال إنهاء سياسات الدولة التي تمارس التمييز ضد غير اليهود. وفي حالة إسرائيل، توجد هذه السياسات ليس فقط داخل الأراضي المحتلة، وإنما في كل مكان يقع فيه احتكاك بين الفلسطينيين والدولة. في الضفة الغربية حرم الفلسطينيون من حق التصويت للحكومة التي تتحكم بحياتهم، وحرموا من حرية التجمع والحركة، وحظر عليهم استخدام الطرق كغيرهم، ومنعوا من الاستفادة من الموارد والأرض، وتعرضوا للسجن لمدد غير محدودة دون تهم أو محاكمة. وفي غزة، لم يكن بإمكانهم الخروج ولا الدخول ولا الاستيراد أو التصدير، ولا حتى الاقتراب من حدودهم دون إذن من إسرائيل أو من حليفتها مصر. وفي القدس، تم عزل بعضهم عن بعض وأحيطوا من كل جانب بنقاط تفتيش وبجدران عازلة. وفي إسرائيل، جرى طردهم من أراضيهم، وحيل بينهم وبين استعادة بيوتهم المصادرة، وسدت في وجوههم سبل الوصول إلى التجمعات السكانية المخصصة حصرياً لليهود. وفي الشتات، حيل بينهم وبين لم شملهم على عائلاتهم في إسرائيل-فلسطين، أو بينهم وبين العودة إلى ديارهم، لا لسبب سوى أنهم ليسوا يهوداً.

رغم أن زعماء العالم يتحدثون في العلن دون كلل أو ملل عن حل الدولتين، إلا أنهم يعبرون في المجالس الخاصة عن شكهم في أن هذا الحل ما زال ممكناً. وما فتئوا ينددون بانتظام بالمستوطنات (نظراً لأنها، خلاف الاحتلال، لم تكن قانونية)، ولكنهم لم يفعلوا شيئاً لوقف نمو وتوسع الاستيطان. صحيح أنهم دعوا إلى منح الفلسطينيين الحرية، ولكن ليس من خلال الحقوق المتساوية والمواطنة في دولة واحدة، وذلك لأسباب عديدة منها أن القانون الدولي يمنع إسرائيل من ضم الأراضي التي تم الاستيلاء عليها بالقوة. لقد رأوا إسرائيل تقوض حل الدولتين وتتخذ إجراءات تحرم الفلسطينيين من حقوقهم، ولكنهم لا يمارسون أي ضغط حقيقي على إسرائيل، طالما أنها تتحدث عن نيتها في يوم من الأيام منح الفلسطينيين شكلاً مقيداً من الاستقلال. وبذلك سُمح لإسرائيل بأن تحتفظ بكل الأرض، بينما تستمر في إقصاء أغلبية سكانها من أصحاب البلاد الأصليين، تماماً كذلك الذي كانت جنوب أفريقيا تتطلع إلى فعله. من خلال إعادة تعريف الصراع على أنه حالة من حالات الأبارتيد، رأى نشطاء حركة “بي دي إس” سبيلاً للخروج من هذه المصيدة. إضافة إلى ذلك، يمكن لفكرة الأبارتيد أن تتغلب على أكبر نقاط الضعف عند الفلسطينيين، ألا وهي التشرذم، وذلك من خلال توحيد صفوفهم في نضال مشترك ضد نظام فصل عنصري واحد.

فلسطينيون.. والدولة الواحدة

في قطاع غزة، التقيت في كانون الثاني/ يناير من هذا العام مع حيدر عيد، أستاذ الأدب في جامعة الأزهر والمشارك في تأسيس حركة “بي دي إس” في غزة. حيدر في منتصف الخمسينيات من عمره، مكتنز، وصاحب لحية رمادية غير مهذبة وشعر رأس قصير أجعد، يهوى القمصان المنسوجة ذات القبة الخانقة. قال عيد إنه لم ير أبداً في حياته مثل هذا الإجهاد على وجوه الناس في غزة. كان ذلك قبل أسابيع من إطلاق مسيرات العودة في القطاع، وهي الاحتجاجات الأسبوعية على امتداد السياج الحدودي مع غزة، والتي قتل فيها القناصة الإسرائيليون ما يزيد عن مئة متظاهر غير مسلح، وجرحوا عدة آلاف آخرين.

تم تخفيض راتب حيدر في الجامعة بنسبة تزيد عن النصف، مثله في ذلك مثل عشرات الآلاف من موظفي القطاع العام، مما دفعه إلى البحث عن وظيفة ثانية. كان ما يزيد عن 40 في المئة من الغزيين، بما في ذلك الفتيان والشباب، عاطلين عن العمل. اضطر عيد إلى ترتيب مواعيده وتحركاته بناء على الأوقات التي يكون فيها مصعد البناية التي تقع شقته في الطابق العاشر منها عاملا، وذلك لأن غزة تصلها الكهرباء فقط ما بين ست إلى ثماني ساعات يومياً. بالإضافة إلى ذلك، حال نقص الطاقة دون إتمام معالجة المياه العادمة، فلا مفر من التخلص يومياً من عشرات الملايين من اللترات من المجاري من خلال إلقائها دون معالجة في بحيرات آسنة وفي البحر.

ومثلهم في ذلك مثل ما يزيد عن ثلثي سكان قطاع غزة، فإن عيد وعائلته لاجئون من قرية توجد حالياً داخل ما بات اليوم إسرائيل. عارض عيد اتفاق أوسلو لأنه تجاهل اللاجئين الفلسطينيين، وفي ذلك يقول: “أوسلو اختزلت الشعب الفلسطيني إلى مقيمين في الضفة الغربية ومقيمين في قطاع غزة”، وذلك على الرغم من أن اللاجئين هم الذين أسسوا الحركة الوطنية الفلسطينية والذين يشكلون أغلبية الفلسطينيين حول العالم. ولذلك يؤكد عيد: “القضية الفلسطينية عبارة عن شيء واحد: إنه حق العودة”.

خطر “الدولتين” على اللاجئين

تم تطهير قرية عيد، واسمها زرنوقة، من سكانها الفلسطينيين ولم تعد قائمة. إلا أن أراضي اللاجئين في مختلف أرجاء إسرائيل بقيت إلى حد كبير فارغة أو قليلة السكان، لدرجة أن بعض أشهر الباحثين، مثل المؤرخ الفلسطيني سلمان أبو ستة، وصل إلى قناعة من خلال أبحاثه بأن معظم اللاجئين بإمكانهم العودة دون الحاجة إلى إخراج الإسرائيليين من أماكن إقامتهم. وفي هذا السياق، يشير عيد إلى أن حل الدولتين يعني منع معظم اللاجئين من العودة؛ نظراً لأن إسرائيل ترفض كل ما من شأنه أن يهدد أغلبيتها السكانية اليهودية. (ثمة أسطورة يروج لها بعض أنصار إسرائيل مفادها أن الفلسطينيين هم الشعب الوحيد الذي يورث حالة اللجوء إلى أطفاله، وبناء على ذلك سعت إدارة ترامب وحلفاؤها في الكونغرس الأمريكي إلى وقف المساعدات التي تقدمها الأمم المتحدة لملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين ولدوا بعد حرب عام 1948. والحقيقة هي أن منح وضع لاجئ لنسل من لا دولة لهم عُرف متبع وممارسة تطبق في كل أنحاء العالم. خذ على سبيل المثال الحالة الأفغانية، حيث أن معظم اللاجئين الأفغان المسجلين هم من أبناء الجيل الثاني والثالث وولدوا خارج البلاد، مثلهم في ذلك مثل معظم أولئك الذين عادوا إلى أفغانستان خلال السنين الأخيرة).

قضى عيد ستة أعوام في جوهانسبيرغ (جنوب أفريقيا)، حيث حصل على الدكتوراة، ولذلك تجد في كلامه آثار لكنة جنوب أفريقية. تجده يقارن غزة والمخيمات الفلسطينية خارج حدود إسرائيل بالبانتوستانات التي كان السود في جنوب أفريقيا في عهد نظام الأبارتيد (التمييز العنصري)، يجبرون على العيش فيها دون غيرها. ويرى عيد أن حل الدولتين لن ينهي الأبارتيد وإنما سيعززه؛ لأنه سيخلق دولة هزيلة ومقطعة الأوصال في الضفة الغربية وقطاع غزة تدعي الاستقلال، ولكنه استقلال وهمي.

ويرى عيد أن حل الدولتين كان في الأساس مقترحاً عنصرياً؛ لأنه إنما صمم للحفاظ على الأغلبية العرقية اليهودية وإضفاء مشروعية قانونية على التمييز ضد غير اليهود. ولذلك، فهو يفضل دولة ديمقراطية واحدة غير عنصرية وغير دينية، والتي يقول إنها تمثل “تنازلاً كبيراً من الفلسطينيين”؛ لأنها ستمنح “المواطنة والعفو للمستوطنين والمحتلين”. وعارض عيد ما يعتبره تهديدات غير صادقة من منظمة التحرير للسعي لمثل هذه النتيجة، معتبراً المحاولة غير راشدة لأنها تدفع بالإسرائيليين إلى القبول بالفصل العرقي خوفاً على وضعهم. وقال: “أقصد القول إن المساواة لا تخيف. إذا كنت ضد المساواة والعدالة، فأنت ضد حقوق الإنسان”.

ويضيف إن التعويل على تصرف الدول بشكل أخلاقي قضية خاسرة، بل تحتاج الدول لأن تمارس عليها شعوبها الضغط من أسفل، من خلال تبني المجتمع المدني لنشاطات “بي دي إس”. وذكر بأن المجتمع الدولي استغرق 30 عاماً إلى أن تجاوب مع دعوات المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على نظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا، والذي كان رده العنيف على مقاومة السكان الأصليين محفزاً أساسياً لتشكل حركة التضامن الدولي. وكما أن مقاطعة نظام جنوب أفريقيا جاءت رداً على عمليات القتل التي مارسها النظام بحق المحتجين، يقول عيد: “لقد رويت شجرة بي دي إس وارفة الظلال بدم أهل غزة. وكل مجزرة ترتكب ضد غزة تزيدني قناعة بأن الأمل الوحيد لدينا يكمن في المقاومة الشعبية وفي حركة بي دي إس”.

4

على الرغم من أن حركة “بي دي إس” لم يكن لها تأثير اقتصادي كبير على إسرائيل حتى الآن، إلا أنها مقارنة بالحراك الذي استمر لعقد من الزمان في جنوب أفريقيا، كان صعودها سريعاً جداً. فقد انسحب بعض المستثمرين المؤسساتيين من المصارف الإسرائيلية، ومن هؤلاء صندوق التقاعد الهولندي (بيه جي جي إم) والكنيسة المنهجية المتحدة (يونايتد ميثوديست تشيرش). وهناك من سحبوا استثماراتهم من الشركات التي تستفيد من الاحتلال الإسرائيلي، ومن بينهم الكنيسة المشيخية (بريزبيتيريان تشيرش) وكنيسة المسيح المتحدة (يونايتد تشيرش أوف كرايست)، وأكبر صندوق تقاعدي في النرويج. وعلى إثر حملات المقاطعة قرر عدد من المؤسسات الكبرى الانسحاب كلياً أو إلى درجة كبيرة من إسرائيل، ومن هؤلاء فيوليا، و“جي4 إس” و“سي آر إتش”. وانضمت العشرات من اتحادات الطلاب والعديد من الروابط الأكاديمية إلى مبادرات المقاطعة وسحب الاستثمارات، وألغى العديد من الموسيقيين والفنانين عروضهم أو تعهدوا بمقاطعة إسرائيل.

ولا يقل أهمية عن ذلك أن حركة “بي دي إس” نجحت فعلياً في كسب الدعوة داخل فلسطين. كان أبو مازن قد صرح في عام 2013 بأنه بينما تدعم منظمة التحرير مقاطعة المستوطنات، “إلا أننا لا ندعم مقاطعة إسرائيل” لأن “لدينا علاقات مع إسرائيل، لدينا اعتراف مشترك مع إسرائيل”. ولكن بحلول عام 2018“كانت منظمة التحرير، على الأقل على مستوى الخطاب، قد تبنت ما تطالب به حركة”بي دي إس“. كما تأثرت المنظمات الدولية أيضاً بحركة”بي دي إس“، فانتقلت ببطء من التنديدات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، إلى المطالبة بإجراءات عملية لها وقع وتأثير. ففي الصيف الماضي، طالبت منظمة العفو الدولية بفرض حظر عالمي على استيراد منتجات المستوطنات، وبحظر تصدير السلاح إلى إسرائيل وإلى المجموعات الفلسطينية المسلحة. ودعت منظمة هيومان رايت سواتش المستثمرين المؤسساتيين في المصارف الإسرائيلية إلى ضمان أنهم لا يساهمون في المستوطنات أو لا يستفيدون منها، أو غير ذلك من الانتهاكات التي ترتكب بحق القانون الدولي. وجمع مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة قائمة بما يزيد عن مئتي شركة، معظمها مقراتها في إسرائيل أو في المناطق المحتلة، ومنها 22 مقراتها في الولايات المتحدة، ترتبط بإقامة وتوسع أو صيانة المستوطنات الإسرائيلية. وفيما يتوقع أن يكون أبرز تطور في تاريخ حملة”بي دي إس" الممتد على مدى 13 عاماً، ينوي مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان نشر أسماء هذه الشركات في وقت متأخر من هذا العام.

حملة إسرائيلية مضادة

من الملاحظ أن جميع قرارات سحب الاستثمارات التي اتخذتها المؤسسات أو الاتحادات الطلابية كانت تقريباً انتقائية، بحيث لم تستهدف إسرائيل ككل، وإنما فقط المستوطنات والاحتلال، وعدد قليل منها لم يكن له علاقة بحركة “بي دي إس، نفسها. إلا أن الحكومة الإسرائيلية وحركة”بي دي إس“كليهما تنزعان نحو إخفاء هذه الحقيقة. فيما يتعلق بحركة بي دي إس، ساعدها ذلك في أن تبدو كما لو كانت تحقق قدراً أكبر من الانتصارات، وأما الحكومة الإسرائيلية، فساعدها ذلك في تسفيه المبادرات البيروقراطية الحذرة المطالبة بالالتزام بالقانون الدولي، وتصورها بدلاً من ذلك كما لو كانت غير سوية، مشيطنة الجهود التي يبذلها راديكاليو حركة”بي دي إس".

كعنصر أساسي من سياستها، عمدت الحكومة الإسرائيلية إلى الخلط بين مقاطعة المستوطنات ومعارضة وجود إسرائيل، بما يعكس رغبة لديها؛ ليس فقط لحماية المستوطنات، وإنما أيضاً لوقف موجة المقاطعات الانتقائية التي يمكن أن تتوسع وتنتشر لتشمل إسرائيل ككل. وفي هذا السياق، قال يوسي كوبرواسر: “نحن نقول إنه لا يوجد فرق بين مقاطعة المستوطنات ومقاطعة إسرائيل. فإذا كنت تريد أن تروج لمقاطعة إسرائيل، أي جزء من إسرائيل، فأنت في هذه الحالة لست صديقاً لإسرائيل، وإنما أنت فعلياً عدو لها. وبناء عليه يتوجب علينا أن نتدبر أمرك”.

سنت الحكومة قانوناً يحظر دخول الأجانب الذين يدعمون بشكل علني مقاطعة إسرائيل (أو أي منطقة خاضعة لسلطانها). وطالب وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي بفرض غرامات مالية على المنظمات والشركات الإسرائيلية، وفي بعض الحالات على الأفراد الإسرائيليين، الذين يدافعون عن مقاطعة إسرائيل أو مقاطعة المستوطنات. وبعد أن خاطب هاجاي إلعاد، رئيس المنظمة الإسرائيلية لحقوق الإنسان (بيتسيلم) مجلس الأمن الدولي، مطالباً إياه باتخاذ إجراء ضد الاحتلال الإسرائيلي، دعا رئيس الائتلاف الحكومي إلى سحب جنسيته، وسن قانون يسمح بفعل نفس الشيء مع أي إسرائيلي يطالب الكيانات الدولية باتخاذ إجراء ضد إسرائيل.

انتهجت إسرائيل وحلفاؤها نفس الاستراتيجية في الخارج. ففي عام 2014 عقد نتنياهو اجتماعاً حضره كبار الوزراء في حكومته لمناقشة الإجراءات التي يمكن اتخاذها لمواجهة حركة “بي دي إس”، بما في ذلك - كما نشرت صحيفة هآريتز اليومية - “رفع دعاوى قضائية في محاكم دول أوروبا وشمال أمريكا ضد منظمات بي دي إس” و“اتخاذ إجراء قانوني ضد المؤسسات المالية التي تقاطع المستوطنات”، و“ما إذا أمكن تفعيل اللوبي الداعم لإسرائيل في الولايات المتحدة، وتحديداً منظمة إيباك، من أجل الترويج لفكرة سن تشريع داخل الكونغرس”. منذ ذلك اليوم، قامت البنوك الكبرى حول العالم بإغلاق حسابات جماعات مؤيدة لحركة “بي دي إس”، ثم ما لبثت 24 ولاية أمريكية أن سنت قوانين أو أصدرت أوامر تقيد حرية التعبير من خلال تثبيط وتغريم من يقاطعون إسرائيل أو المستوطنات فيها، بل وحظر أي دعم أو تأييد للمقاطعة. وحتى الآن، شهدت ولايتان على الأقل طعوناً ضد هذه الإجراءات تقدم بها الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية.

ضغوط أمريكية

في الصيف الماضي، بعد إعصار هارفي، طالبت مدينة ديكنسون بولاية تكساس المقيمين فيها ممن تقدموا بطلبات إعانة وإغاثة بالإقرار بأنهم لا يقاطعون إسرائيل ولا ينوون مقاطعتها، وهو المطلب الذي وصفه المدير القانوني لفرع الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية في تكساس بـ“الانتهاك السافر والفظيع للتعديل الدستوري الأول، بما يذكر بأيمان الولاء في الحقبة المكارثية”. كما عارض الاتحاد الأمريكي للحريات المدنية مشروع قانون فيدرالي ضد المقاطعة تقدمت به منظمة إيباك، وقال الاتحاد إن “المقاطعات السياسية حق يكلفه التعديل الدستوري الأول”، بغض النظر عما إذا كانت المقاطعة لإسرائيل أو للمستوطنات فيها.

تسبب هذا التداخل المتعمد بين إسرائيل والمستوطنات في قدر غير قليل من الفزع في أوساط مؤيدي إسرائيل الأكثر ليبرالية داخل الجالية اليهودية الأمريكية. فقد سعى هؤلاء لسنوات إلى حماية إسرائيل نفسها من المقاطعة، من خلال القول إن مقاطعة المستوطنات فقط هي المقاطعة المشروعة. ولكنهم باتوا الآن يشعرون بأنهم مستهدفون بالهجوم، ليس فقط من قبل حركة “بي دي إس” في اليسار، وإنما أيضاً من قبل الحكومة الإسرائيلية في اليمين، حيث يزدري كلاهما فكرة يسار الوسط القائمة على دعم إسرائيل ومعارضة الاحتلال في نفس الوقت. وحيث يرفض كلاهما الموقف الذي يرى بأن النبيذ الذي تنتجه مستوطنات الضفة الغربية ينبغي أن يقاطع، ولكن ليس الحكومة التي أوجدت ومولت وصانت هذه المستوطنات.

تمثلت استراتيجية إسرائيل في إجبار الشركات التي تتعرض للضغط حتى تنسحب أو تسحب استثماراتها؛ على الاختيار بين أن تبقى في المناطق التي تسيطر عليها إسرائيل وتتجاهل حملة المقاطعة، أو تخضع لها ولمطالبها وتواجه دعاوى قضائية وخسائر محتملة في الأسواق الأكبر داخل أوروبا والولايات المتحدة. وأمام هذا الخيار، كما يقول كوبرواسر، ستتردد معظم الشركات في الانسحاب من إسرائيل أو من المستوطنات: “ولكن فيما لو قاطعوا، فسيشهد العالم مزيداً من الدعاوى القضائية مما سيسبب المعاناة لتلك الشركات. إذن، بإمكاننا الرد والانتقام”.

في معظم نشاطاتها المعادية لحركة “بي دي إس” في الدول الأجنبية، تستعين وزارة الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلية بعناصر خارجية في إنجاز هذه المهام، ولذلك تساعد في تأسيس وتمويل جماعات ومنظمات تدخل معها في شراكة لكي تشكل ما يشبه الواجهة في هذا العمل سعياً من الحكومة الإسرائيلية إلى تجنب الظهور بمظهر المتدخل في السياسات المحلية لحلفائها في أوروبا والولايات المتحدة. يقول كوبر إن المجموعات المناهضة لحركة “بي دي إس” آخذة الآن في النمو والتكاثر “كما ينمو فطر عيش الغراب بعد هطول المطر”. ينشط هو وعدد من مسؤولي المخابرات والأمن السابقين كأعضاء في واحدة من هذه المجموعات، واسمها كيلا شلومو، التي توصف بأنها “وحدة مغاوير العلاقات العامة”. تعمل هذه المجموعة مع وزارة الشؤون الاستراتيجية (الإسرائيلية)، وتتلقى منها عشرات الملايين من الدولارات. وكانت السفارة الإسرائيلية في لندن قد أرسلت برقية إلى القدس في عام 2016، تشتكي فيها من أن وزارة الشؤون الاستراتيجية باتت تشكل خطراً على المنظمات اليهودية البريطانية، حيث أن معظمها مسجل كجمعيات خيرية يحظر عليها ممارسة النشاط السياسي. وجاء في البرقية أن “المنظمات اليهودية التي تعمل مباشرة من القدس... تشكل خطراً ويمكن أن تواجه معارضة من المنظمات (البريطانية) نفسها بسبب وضعها القانوني، فبريطانيا ليست الولايات المتحدة!”. وفي العام الماضي بثت قناة الجزيرة تسجيلات سرية لمسؤول إسرائيلي يعمل من داخل السفارة في لندن؛ وصف فيها كيف طلبت منه وزارة الشؤون الاستراتيجية المساعدة في إقامة “شركة خاصة” داخل بريطانيا للعمل لصالح الحكومة الإسرائيلية، وبالتنسيق مع الجماعات المناصرة لإسرائيل مثل منظمة إيباك.

آثار عكسية

بالنسبة ليلبراليين الإسرائيليين، أخطر ما في حركة “بي دي إس” هو أنها دفعت حكومتهم إلى رد فعل غاية في الرعونة والتجاوز، فهي أشبه ما يكون بمرض يصيب جهاز المناعة عند الإنسان، حيث أن المعركة التي تخوضها الحكومة ضد حركة “بي دي إس” تنال أيضاً من حقوق المواطنين العاديين وتضر بالممارسة الديمقراطية. فلقد لجأت وزارة الشؤون الاستراتيجية إلى أجهزة الأمن لتراقب وتهاجم من يسعون لنزع الشرعية عن إسرائيل، ودعت إلى وضع قائمة سوداء بأسماء المنظمات الإسرائيلية والمواطنين الإسرائيليين الذين يؤيدون حملة المقاطعة السلمية، وأوجدت “وحدة تلطيخ” لتلويث سمعة أنصار المقاطعة ونشرت مقالات مدفوعة الأجر في الصحافة الإسرائيلية. وبناء على ذلك، تم استدعاء يهود من اليساريين الإسرائيليين للتحقيق أو أوقفوا على الحدود من قبل عناصر من جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي، الشين بيت، عرفوا أنفسهم على أنهم ضباط يعملون ضد نزع الشرعية. ومنعت إسرائيل عشرين منظمة من الدخول بسبب آرائها السياسية، بما في ذلك “لجنة خدمات الأصدقاء الأمريكيين”، وهي مجموعة تابعة لطائفة كويكر كانت قد فازت بجائزة نوبل لما قدمته من مساعدات للاجئي الهولوكوست، وتقوم الآن بدعم تقرير المصير للإسرائيليين والفلسطينيين، وفي نفس الوقت تؤيد حملة “بي دي إس”.

في العام الماضي، طالب وزير المخابرات الإسرائيلي يزرائيل كاتز على الملأ باستهداف النشطاء المدنيين بالاغتيال مثل عمر برغوثي الذي شارك في تأسيس “بي دي إس”، والذي يقيم بشكل دائم في إسرائيل. كما هُدد برغوتي من قبل وزير الأمن العام والشؤون الاستراتيجية في إسرائيل الذي قال: “قريباً، كل ناشط يستخدم نفوذه لنزع الشرعية عن الدولة اليهودية الوحيدة في العالم سيدرك أنه سيدفع ثمن ذلك ... وقريباً سوف نسمع أكثر عن صديقنا برغوتي.” لم يطل ببرغوتي المقام بعد ذلك حتى مُنع من مغادرة البلد، وفي العام الماضي قامت السلطات الإسرائيلية بتفتيش منزله ثم اعتقلته بتهمة التهرب من الضرائب.

لربما كانت أقوى أدوات إسرائيل في حملتها ضد نزع الشرعية هو اتهام منتقدي الدولة بمعاداة السامية. ولكي تتمكن من ذلك كان لا بد من تغيير التعريف الرسمي للمصطلح. بدأ هذا المسعى أثناء السنوات الأخيرة من الانتفاضة الثانية، في عام 2003 وعام 2004، حينما كانت دعوات المقاطعة وسحب الاستثمارات من إسرائيل ما قبل تأسيس “بي دي إس” تكتسب زخماً بشكل متزايد. في ذلك الوقت، اقترحت مجموعة من المؤسسات والشخصيات، بينهم دينا بورات، الأستاذة في جامعة تل أبيب، والتي كانت عضواً في الوفد الإسرائيلي إلى مؤتمر الأمم المتحدة لمناهضة العنصرية عام 2001 في ديربن بجنوب أفريقيا، إيجاد تعريف جديد لمعاداة السامية من شأنه أن يساوي بين انتقاد إسرائيل وكراهية اليهود.

توسيع تعريف معاداة السامية

عمل هؤلاء الخبراء وتلك المؤسسات مع اللجنة اليهودية الأمريكية ومع غيرها من الجماعات المناصرة لإسرائيل؛ في صياغة “تعريف عملي” جديد لمصطلح معاداة السامية، بحيث يكون متضمناً لقائمة من الأمثلة والنماذج، تم نشره في عام 2005 (ثم تم التخلي عنه من بعد) من قبل كيان تابع للاتحاد الأوروبي معني بمكافحة العنصرية. ثم أعيد تكييف هذا التعريف العملي في عام 2016 من قبل التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست، ومنذ ذلك الحين وهو يستخدم ويتم تبنيه أو التوصية به، مع بعض التعديلات البسيطة، من قبل عدد من المنظمات الأخرى، بما في ذلك وزارة الخارجية الأمريكية، والتي ما فتئت منذ عام 2008 تعرف معاداة السامية على أنها تتضمن واحد من ثلاثة أصناف من انتقاد إسرائيل تعرف (بالإنجليزية) “3D”: 1- delegitimisation (نزع الشرعية عن إسرائيل)، 2- demonisation (شيطنة إسرائيل)، 3- double standards (ازدواجية المعايير في التعامل مع إسرائيل). (من الجدير بالذكر أن تعريف التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست كان مؤخراً في القلب من الجدل الذي دار حول معاداة السامية داخل حزب العمال الذي تبنى نسخة معدلة من الأمثلة المصاحبة للتعريف).

في تعريف وزارة الخارجية الأمريكية، يتضمن نزع الشرعية (delegitimization) “إنكار حق الشعب اليهودي في تقرير المصير وإنكار حق إسرائيل في الوجود”. وبذلك تعتبر معاداة الصهيونية، بما في ذلك الرأي القائل بأن إسرائيل ينبغي أن تكون دولة لكل مواطنيها بحقوق متساوية لليهود وغير اليهود، شكلاً من أشكال نزع الشرعية، وهي بذلك معاداة للسامية. إذن، بحسب هذا التعريف يصبح جميع الفلسطينيين تقريباً (ونسبة كبيرة من اليهود الأرثوذكس المتدينين داخل إسرائيل ممن يعارضون الصهيونية لأسباب دينية) مذنبين بجرم معاداة السامية؛ لأنهم يريدون لليهود والفلسطينيين الاستمرار في العيش في فلسطين، ولكن ليس ضمن دولة يهودية. كوبرواسر واحد من أولئك الذين يصرون على توجيه هذه التهمة حيث يقول: “معاداة الصهيونية ومعاداة السامية هما نفس المرأة ولكن بحلتين مختلفتين”.

أما حرف “D” الثاني فهو الحرف الأول من كلمة “demonisation”، أي الشيطنة، وتتضمن الشيطنة “إجراء مقارنات بين السياسة الإسرائيلية المعاصرة والسياسة النازية”، كما فعل نائب رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي في خطبة له في يوم إحياء ذكرى الهولوكوست في عام 2016، حينما شبه “النزعات المتمردة” في أوروبا وألمانيا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين؛ بالتوجهات الحاصلة في إسرائيل اليوم. وأما الصنف الذي يشار إليه بحرف “D” الثالث، فهو “double standards”، أي ازدواجية المعايير، وهذا يفيد بأن إفراد إسرائيل بالنقد هو شكل جديد من أشكال معاداة السامية. وبهذا يمكن من الناحية العملية اتهام كل المبادرات السابقة التي تبنت سحب الاستثمارات أو المقاطعة حول العالم بازدواجية المعايير، بما في ذلك الحملة ضد نظام الأبارتيد (الفصل العنصري) في جنوب أفريقيا، حيث أن معظم من نشطوا في تلك الحملة تجاهلوا كثيراً من الانتهاكات الجسيمة التي كانت ترتكب في أماكن أخرى من العالم، مثل ما كان يجري في نفس الوقت تقريباً من إبادة عرقية في كمبوديا وفي كردستان العراق وفي تيمور الشرقية.

5

كثيراً ما يشهر التعريف الجديد لمعاداة السامية في وجه منتقدي إسرائيل في الولايات المتحدة، وخاصة داخل الجامعات الأمريكية، حيث تحث المجموعات المؤيدة لإسرائيل الجامعات على تبني تعريف وزارة الخارجية الأمريكية للمصطلح. وفي جامعة الشمال الشرقي (Northeastern University) في مدينة بوسطن، وجامعة توليدو (University of Toledo) في أوهايو، حاول الطلبة المؤيدون لإسرائيل والجماعات المناصرة لها منع مجرد مناقشة فكرة المقاطعة وسحب الاستثمارات، متحججين بأن ذلك من شأنه أن يخلق مناخاً من معاداة السامية داخل الجامعة. وفي عام 2012، سن المجلس التشريعي في ولاية كاليفورنيا قراراً ينظم التعبير في جامعات كاليفورنيا، مستشهداً بنماذج من معاداة السامية، بما في ذلك ليس فقط نزع الشرعية عن إسرائيل وشيطنتها، بل أيضاً “المقاطعة التي يتبناها الطلاب وأعضاء الهيئة التدريسية وحملات المطالبة بسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل”.

وفي عام 2015 بدأ موقع مجهول اسمه “Canary Mission” (بعثة الكناري) بنشر قوائم بأسماء الطلبة المناصرين لفلسطين والذين يؤيدون سحب الاستثمارات من إسرائيل، متهماً إياهم بمعاداة السامية. ولقد استخدمت الحكومة الإسرائيلية البيانات التي ينشرها موقع بعثة الكناري للتحقيق مع المواطنين الأمريكيين حين الوصول (إلى إسرائيل)، ومنعهم من الدخول إن كانوا من أنصار حملة “بي دي إس”. وقامت الجماعات المناصرة لإسرائيل في عدة جامعات بترويع الطلبة والمدرسين المناصرين لفلسطين، من خلال نشر قوائم أسمائهم الواردة في موقع بعثة الكناري على لوحات إعلانية تقول: “الطلبة وأعضاء هيئة التدريس التالية أسماؤهم... تحالفوا مع الإرهابيين الفلسطينيين من خلال الترويج لحملة بي دي إس ونشر الكراهية ضد اليهود في الجامعة”.

لم يبد كوبرواسر استعداداً للاعتذار عن الغلو الذي تمارسه حملة إسرائيل ضد “بي دي إس” داخل إسرائيل وخارجها، بل أبدى ثقة عالية بأن إسرائيل تتبنى المقاربة الصحيحة، وأنها سوف تنجح كما نجحت في هجمات سابقة. ومضى يقول: “لقد كسبنا الحرب في أرض المعركة التقليدية. بادئ ذي بدء، كانت فرص نجاحنا ضئيلة، ثم كسبنا الحرب ضد الإرهاب. مرة أخرى، لم يكن الأمر سهلاً. أذكر حينما توجهنا إلى المعركة الكبيرة - الانتفاضة الثانية - وكثير من الجنرالات من حول العالم كانوا يقولون لي: اسمع يا كوبر، أنتم تضيعون وقتكم، لم يربح أحد أبدا المعركة ضد الإرهاب”، ويستدلون بحرب فيتنام وبغيرها من الحالات. فقلت لهم: لا، سوف نربح هذه الحرب أيضاً. نحن مبدعون، ولدينا من العزيمة ما يكفي. وعلى خلاف كثير من المعارك الأخرى، ليس لدينا خيار ثان، ليس لدينا بديل. يجب علينا أن نربح... ونفس الشيء ينطبق على الوضع هنا. سوف نربح".

سؤال العودة

بالنسبة للصهاينة اليهود في الشتات، وسواء كان دعمهم لإسرائيل ناقداً أو ثابتاً لا يتزعزع، تعتبر مطالب حركة “بي دي إس” فكرة مجهضة من البداية. معظمهم يمكن أن يقولوا إنه كان مأساوياً أن يجبر 80 في المئة من السكان الفلسطينيين داخل ما أصبح بعد ذلك حدود دولة إسرائيل على الخروج إلى المنافي في حرب عام 1948، ولكن الدرس المستفاد من الهولوكوست هو أنه يجب أن يكون لليهود دولة خاصة بهم، نقطة فوق السطر. وهؤلاء يؤيدون حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة إلى دولة فلسطين، ولكن ليس إلى إسرائيل. وهذا واحد من الأسباب الأساسية لانزعاجهم إزاء احتمال ألا تنشأ بتاتاً دولة في الضفة الغربية وقطاع غزة. قلة منهم يمكن أن ينكروا أن الفلسطينيين لديهم الحق في العودة إلى وطنهم، فهذه في نهاية المطاف هي الفكرة المؤسسة للصهيونية. ولكن بدون دولة فلسطينية، لا يوجد جواب ليبرالي جيد على سؤال: إلى أين ينبغي أن يعود الفلسطينيون؟

نظراً لأن حركة “بي دي إس” تعارض دولة تسمح لها قوانينها بالتمييز ضد غير اليهود، فهي ترفض فكرة الدولة اليهودية، يعتبر كثير من يهود الشتات الخطر الذي تشكله الحركة خطراً وجودياً. وبفضل حركة “بي دي إس”، فقد تحول الجدل حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني من السؤال حول كيفية إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، والذي لا يحظى بتأييد معظم اليهود الليبراليين، إلى الاستفتاء حول شرعية إسرائيل، والتي يعتبرونها حقيقة قائمة ليس من المفروض أن يحتاجوا إلى الدفاع عنها.

يوجد دون هذه المعارضة المبدئية الكثير من الشكوك العميقة. ويتمثل أحد المخاوف الأساسية لدى الصهاينة الليبراليين تجاه حركة “بي دي إس” في ما يعتبرونه نبرتها الحادة ومواقفها الصلبة التي لا تتزحزح عنها، وهذا ما تعبر عنه الحاخام جيل جيكوبس، رئيسة منظمة حقوق إنسان حاخامية اسمها “ترواه”، لها نشاطات داخل إسرائيل وفي الولايات المتحدة. تقول جيل إنها تراوح في الوسط ما بين الجماعات التقدمية التي تعتبر الصهيونية كلمة سيئة، والجماعات المناصرة لإسرائيل التي تعتبر الاحتلال كلمة سيئة. وتقول إنها شعرت بالإقصاء بسبب ما تظهره حركة “بي دي إس” من عداوة، وذلك أن الحركة تبدو في بعض الأوقات غاية في الابتهاج والسعادة، وهي تنشر على الملأ تصرفات إسرائيل السيئة. وتضيف: “تنكأ بي دي إس جرحاً غائراً لدى اليهود عمره 2000 عام، وجرحاً غائراً آخر عمره 70 عاماً منذ الهولوكوست.” ثم هناك دافيد شولمان، الأستاذ الشهير في الجامعة العبرية والناشط في منظمة تعايش، وهي مجموعة يسارية إسرائيلية فلسطينية تقوم بحماية الفلسطينيين من هجمات المستوطنين. يقول دافيد إن أكبر مشكلة له مع “بي دي إس” هي نغمتها الفتاكة. ويضيف: “أفهم أنها حركة غير متجانسة، إلا أن الجزء الأكبر منها يقوم على الكراهية، والكراهية قاعدة مريعة للعمل السياسي”.

تحالف المتناقضات

كثير من الصهاينة الليبراليين ينكصون فزعاً، ليس فقط من حدة بعض نشطاء “بي دي إس”، وإنما أيضاً من خلطهم من حين لآخر ما بين إسرائيل والشعب اليهودي، الأمر الذي يرون أنه مغرق في معاداة السامية. إلا أن سيمون زيمرمان، المشاركة في تأسيس مجموعة يهودية أمريكية مناهضة للاحتلال تحت اسم “إن لم يكن الآن”، تقول إنها تعتبر أن الحكومة الإسرائيلية ليست أقل جرماً وبنفس التهمة. وتضيف: “يجول بيبي نتنياهو العالم ليقول: جئت إلى هنا ممثلاً للشعب اليهودي، وجيش الدفاع الإسرائيلي إنما يفعل ما يفعل نيابة عن جميع اليهود في العالم.. ثم تأتي اللجنة اليهودية الأمريكية وإيباك لتقولا إننا نفعل ما نفعل للحفاظ على أمن وسلامة اليهود. أجد صعوبة في الدفاع عن فكرة أن على منتقدينا أن يكونوا أكثر حرصاً منا نحن على التمييز بين الأمور”.

يشعر اليهود الليبراليون في الولايات المتحدة وأوروبا بنفس القدر من الإقصاء من طرف حركة “بي دي إس” المعادية للصهيونية، كما من طرف غير الليبراليين أنصار السياسات الإسرائيلية التي يستنكرونها هم. في الخريف الماضي قامت المنظمة الصهيونية في أمريكا، وهي جماعة يمينية متطرفة، بتكريم ستيف بانون، المستشار السابق للرئيس ترامب والذي قالت زوجته في شهادة لها تحت القسم أمام المحكمة إن زوجها اشتكى ذات مرة من أن المدرسة التي تذهب إليها بناتهما؛ فيها من الطالبات اليهوديات أكثر مما ينبغي. ومن المعروف أن ستيف بانون يعرف نفسه بأنه صهيوني مسيحي. وهذا ريتشارد سبنسر، الذي يستمد الإلهام من إسرائيل كنموذج للدولة العرقية الحصرية، يعرف نفسه هو الآخر بأنه صهيوني. وريتشارد هذا هو زعيم يميني متطرف، كان قد نظم مهرجان “وحدوا اليمين” في تشارلوتسفيل بولاية فرجينيا، والذي هتف فيه المتطرفون البيض بعبارة “لن يحل اليهود محلنا”. وكان ريتشارد قد قال لمذيع في التلفزيون الإسرائيلي في العام الماضي: “بإمكانك القول إنني صهيوني أبيض من حيث أنني أهتم بشعبي. أريد لنا أن يكون لنا وطننا الآمن والخاص بنا، تماماً كما أنكم تريدون وطناً آمناً وخاصاً بكم في إسرائيل”.

بات التحالف بين حلفاء إسرائيل والقوميين المتطرفين في أوروبا والولايات المتحدة موضوعاً مركزياً يسلط عليه الضوء في أدبيات حملة “بي دي إس”، ولذلك يمكن القول إن عهد ترامب كان من هذه الناحية خيراً على الحركة، وكذا هو حال حكومة نتنياهو التي كانت هجماتها على “بي دي إس” من بين أعظم أدوات الترويج لها وتجنيد المتطوعين في حملاتها.

مناهضة الاحتلال

تقول جيكوبس إنه بات صعباً بشكل متزايد داخل الأوساط التقدمية أن يكون المرء مناصراً لإسرائيل ومناهضاً للاحتلال في نفس الوقت. وتضيف: “في معسكر اليسار، بات دعم بي دي إس بمثابة المحك، فإما أن تدعمها أو لا مكان لك”. بالنسبة للتقدميين، باتوا ينظرون بشكل متزايد إلى الجماعات المناصرة لإسرائيل في معسكر يسار الوسط على أنها نسخة مخففة من إيباك، تدعم حل الدولتين بالكلام" بينما في الواقع العملي تحمي إسرائيل من أي نوع من الضغط الذي من شأنها أن يحملها على إنهاء الاحتلال المريح جداً بالنسبة لها.

قالت لي شارون براوس، وهي حاخام تقدمي بارز في الولايات المتحدة: “أنا لا أدعم حركة بي دي إس، ولكني أعتقد أننا لم نتعامل معها بشكل صحيح. فالمقاطعة أداة كثيراً ما نستخدمها نحن داخل الجالية اليهودية. إنها وسيلة سلمية”. وفعلاً، فلقد تبنى التقدميون الأمريكيون خلال السنوات الأخيرة عدداً من حملات المقاطعة، بما في ذلك حملة ضد ولاية نورث كارولاينا، بسبب قانوني مثير للخلاف ضد السحاقيات واللواطيين والمتحولين جنسياً. وقال لي معين رباني، الباحث في معهد الدراسات الفلسطينية والذي لا ينشط ضمن حركة بي دي إس: “طوال هذه السنين كنا نسمع إسرائيل وأنصارها يتساءلون: أين غاندي الفلسطيني؟.. ثم عندما ووجهوا بحملة مقاطعة فلسطينية سلمية تماماً، قالوا إنهم لا يمكنهم دعمها”.

تقول سيمون زيمرمان، المشاركة في تأسيس مجموعة “إن لم يكن الآن”: “إذا ما سألت أي يهودي أمريكي يسير في الشارع: هل تعتقد بأن الناس في داخل مجتمعهم لا ينبغي أن يميزوا فيما بينهم على أساس الميراث العرقي، وأنه ينبغي أن تكون جميع الحقوق الأساسية التي تهمك في أمريكا متاحة لجميع الناس؟ فسوف يجيبونك: نعم، نعم. ثم حينما يتعلق الأمر بإسرائيل سيقولون لك: المساواة لجميع الناس؟ هل تريد أن تمسح إسرائيل من على وجه الخارطة؟”.

ملاحقة تطال النشطاء اليهود

في يافا عصر أحد أيام السبت، التقيت مع كوبي سنيتز، وهو عالم رياضيات يعمل في معهد وايزمان للعلوم في ريهوفوت، وعضو في مجموعة من الإسرائيليين، أغلبيتهم من اليهود الذين يؤيدون حركة “بي دي إس” ويطلقون على أنفسهم اسم “قاطع من الداخل”. سنيتز ناشط مخضرم يشارك بانتظام في مظاهرات الضفة الغربية مع الفلسطينيين منذ الانتفاضة الثانية، وقد اعتقل عدة مرات وقضى سنوات عديدة وهو يحتج إلى جانب عائلة عهد التميمي، التي أصبحت رمزاً للمقاومة الفلسطينية غير المسلحة بعد أن ألقي القبض عليها في شهر كانون الأول/ ديسمبر الماضي وهي في السادسة عشرة من عمرها؛ لأنها صفعت جندياً إسرائيلياً على وجهه حين اقتحم منزلها بعد وقت قصير من إطلاق الجيش الرصاص من مسافة قصيرة على ابن عمها البالغ من العمر خمسة عشر عاماً، فأصابه في الرأس. يقول كوبي إن الاحتجاجات التي كان يشارك فيها داخل قرية آل التميمي، قرية النبي صالح، تراجعت عبر السنين كما تراجعت المقاومة السلمية في الضفة الغربية بشكل عام. وأضاف: “من المذهل أنها استمرت كل ذلك الوقت. مات أربعة في قرية النبي صالح وجرح المئات، وتم اعتقال أو سجن ما يقرب من ثلث سكان القرية. إنه لأمر غير عادي أن تمارس قرية تعداد سكانها 500 شخص مثل هذا النوع من المقاومة لوحدها ولزمن طويل. ولكن، نعم، في النهاية ستموت المقاومة وتتراجع. القهر هو الذي ينجح والإرهاب هو الذي ينجح”.

صاحبت سنيتز في سيارته الصالون القديمة لتناول غداء من العدس السوداني في نيف شعنان، وهو حي فقير يقع جنوب تل أبيب، وأغلب سكانه من الأفارقة طالبي اللجوء السياسي. كنا وحدنا غير الأفارقة داخل المطعم أو حتى في الشارع. شرح لي أن المقاطعة بحدها الأدنى ما هي سوى وسيلة سلمية لمقاومة اضطهاد لا أخلاقي. وقال إن رفض التعاون مع الظلم السافر هو الحد الأدنى مما هو مطلوب من أي شخص لديه ضمير. وبينما كنا عائدين بالسيارة إلى يافا، مررنا بمحاذاة السجن الذي كان سنيتز قد اعتقل فيه، فأعاد علي كلمات سمعها ذات مرة من عمر برغوثي، أحد مؤسسي “بي دي إس”، قائلاً: “قال عمر: انظر، أنا لا أريد أن يأتي الغرب لينقذنا. أنا لا أطالب الغرب بالمجيء وغزو إسرائيل، أنا فقط أطلب من الغرب التوقف عن دعم ما نتعرض له من قهر”. وأضاف سنيتز: “صحيح أن هذا الصراع ليس فريداً من نوعه من حيث سوء الانتهاكات التي ترتكب فيه، لكن ما يميزه هو ذلك التأييد الفعال الذي يحظى به من الغرب الليبرالي”.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 51 / 2331039

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أحداث و متابعات  متابعة نشاط الموقع مشاركات   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

19 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 18

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28