] زفرة الأونروا الأخيرة واغتيال ذاكرة المخيم الفلسطيني - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الجمعة 24 آب (أغسطس) 2018

زفرة الأونروا الأخيرة واغتيال ذاكرة المخيم الفلسطيني

سامح المحاريق
الجمعة 24 آب (أغسطس) 2018

شكلت الأونروا جزءاً من (سفر الخروج) الفلسطيني، وباتت تشكل (كلمة سر) يعرف الآخرون بوجودها بدون أن يكونوا قادرين على معرفة أي عالم تفتحه، كما هو الأمر بالنسبة للاجئين الفلسطينيين.
أسهمت الأونروا في انتقال المخيم الفلسطيني من الواقع الفعلي، الذي تتجاور فيه مئات وربما آلاف الخيام، إلى شكله المجازي، حيث تتزاحم فيه البيوت المرتجلة على قطع أرض غير مملوكة لأصحاب البيوت في مشهد عشوائي، وكما انتقل المخيم من وصف (المؤقت) ليتحول إلى مدينة استطاعت في مرات كثيرة أن تندمج عضوياً مع الفضاء الحضري الذي يحوطها، تطورت الأونروا من مجرد استجابة لإغاثة عملية التهجير القسري، إلى مؤسسة مستقرة ومتشعبة وبيروقراطية إلى حد بعيد.
بقي المخيم شاهداً على جريمة تهجير الفلسطينيين تحت قوة السلاح والإرهاب، الذي مارسته العصابات الصهيونية التي شكلت بعد ذلك نواة ما يسمى بجيش الدفاع الإسرائيلي، وبتعبير آخر، أدى المخيم دور (الضمير) الفلسطيني، الذي يحتفظ بحضور القضية، ويعيش أبناؤه على فكرة العودة، التي تخلصهم من بؤس الحياة في المخيم، وقلة الحلول التي يوفرها لأبنائه، ففي المخيم لا توجد حياة كما يتصورها الآخرون خارجه، ولكنها حالة من الإعاشة، وفوق ذلك يتحمل المخيم عملية تشويه تحاصره حتى في المخيلة الشعبية الفلسطينية، فالمخيم العشوائي بطبيعته يعتبره الفلسطينيون تجمعاً لرواسب الشتات، فمن استمروا بالعيش في المخيم غير الذين تمكنوا من الخلاص، سواء من خلال الهجرة إلى الخليج العربي أو الولايات المتحدة، أو من حققوا نجاحاً تجارياً ومهنياً بعيداً عن المخيم، ولذلك، فوصف ابن المخيم لم يعد حتى في الأوساط الفلسطينية يوحي بما يستحقه من رمزية نضالية، يتجلى فيها الرفض المبدئي ويعبر عن الذاكرة الثأرية الفحولية بما تحمله من تجليات لفكرة الوجود بكرامة.
تستهدف الولايات المتحدة وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، في توقيت لا يمكن أن ينفصل عن صفقة القرن الغامضة وما يدور حولها من توقعات وتكهنات، وتفكيك المخيم يأتي بوصفه العنوان الصريح والواضح، الذي يختفي وراء حملة تتعرض لها منظمة أممية أسهمت في دعم المخيمات، وكانت طرفاً شريكاً في تطورها خلال العقود الماضية، ووصلت الأزمة في تضييقها الخناق على الأونروا إلى درجة إعلان الوكالة سعيها الدؤوب والمحموم لضمان بدء السنة الدراسية الجديدة في الوقت المحدد، لما مجموعه نصف مليون طالب وطالبة، ولضمان مواصلة خدماتها الأساسية، كالرعاية الصحية، بدون انقطاع.
التصور الأمريكي يقوم على إجبار المخيمات على الاندماج عملياً ورسمياً ومعنوياً مع محيطها الحضري في الدول المستضيفة، بما يعني عملياً إنهاء حالة التربص التي يعيشها المخيم، وتخفيض سقف طموحات العودة التي يغتذيها أبناؤه إلى النقطة صفر، وهو الأمر الذي ينتهي بالقضية الفلسطينية إلى مجرد صراع حدودي بين دولة عاجزة ومحدودة الموارد، أو تحالف من البلديات تحت مسمى السلطة الوطنية، مع دولة مهيمنة ومسيطرة ستقدم هذه التنازلات من أجل أن تحصل على مزايا القيادة الإقليمية، التي تتطلع لها في إقليم لم يعد يمانع من الابتلاع الطوعي في مشروع سلام يجعله يتفرغ لصراعات إقليمية أخرى، وربما يحقق، كما يتخيل البعض، أرضية للتفوق، تتولى فيه اسرائيل المتفوقة تقنياً الولاية على الثروات العربية المختلفة.
الحملة على الأونروا تأتي بتحريض إسرائيلي واضح، فالكيان (الورم) ينظر إلى المخيمات الفلسطينية بوصفها أوراماً يجب إذابتها، من أجل توفير حالة السيولة اللازمة لتسويق مشروعاته المستقبلية، والأونروا بدأت في المقابل تتماهى مع الطروحات الفلسطينية التي تتحدث عن الوجود بكرامة، وبما يستلزم الإبقاء على حالة الشهادة التي يمارسها المخيم على جريمة الاحتلال، ويتبدى ذلك من خلال الرسالة التي وجهها مفوض الوكالة لعموم موظفيها، مؤكداً أنه على الرغم من كافة التحديات التي تواجهها الوكالة، إلا أنها ستنتصر، وأن تلك التحديات لن تضعف دفاعها عن حقوق وكرامة لاجئي فلسطين.
إضعاف الوكالة الذي تشترك فيه العديد من الدول، يأتي بدون أن يتضح أصلاً ما هو الدور الذي يمكن أن يبذل لمساعدة المجتمعات المضيفة على استيعاب اللاجئين، ضمن معادلة جديدة لا تتواجد فيها الوكالة ولا إمكانياتها، وهو ما يعني خلق حالة من الاستعداء للمخيم الفلسطيني، الذي سيتحول إلى عبء إضافي صريح بعد أن كان يشكل عبئاً غير مباشر، وأحياناً ميزة اقتصادية للدول المستضيفة، بما يوفره من قوة شرائية مدمجة اقتصادياً، تحصل على مواردها من الوكالة، ومن حوالات المغتربين، وحتى من تبرعات المتعاطفين مع القضية الفلسطينية، وهو ما ينذر بتحول المخيم بشكله القانوني الحالي إلى غيتو فلسطيني، على جانب من الهشاشة والتوتر، وهو بالطبع ما لا تريده إسرائيل، لأن ذلك سيولد جنوحاً ثأرياً من الصعب السيطرة عليه، وبالتالي فإن الضغوطات على الوكالة تتكاثف في محاولة توجيه ضربة قاضية للوكالة، قبل أن يتم تحديد طبيعة العلاقة الجديدة بين اللاجئين والدول المستضيفة ضمن صفقة القرن أو حتى على هامشها.
تبقى صراعات أمريكا مع المنظمات الأممية المختلفة أحد الأسباب في تفاقم أزمة الأونروا، ولكن إنقاذ الأونروا، كمهمة أممية في مواجهة التفرد الأمريكي في تصوراته تجاه صياغة المستقبل، أمر متعثر في حد ذاته، فالحديث عن اللاجئين الفلسطينيين افتقد زخمه التقليدي والتاريخي، أمام تتابع أزمات اللجوء والتهجير القسري، كما أن الأوروبيين بشكل عام يواجهون مشكلة ثقافية في تفهم خصوصية اللجوء الفلسطيني، خاصة أنه أحد نواتج ظاهرة أوروبية بحتة، تمثلت في المسألة اليهودية التي وجدت حلها في تأسيس إسرائيل لاستيعاب مشكلة الغيتو اليهودي في الدول الأوروبية.
الإجراءات التقشفية التي ستتخذها الأونروا، ومنها الاستغناء عن 10% من موظفيها في قطاع غزة، وتحويل 60% إلى الدوام الجزئي، ستسهم في الاستمرار بتقديم خدمات الوكالة، وإن كانت ستؤدي إلى تحجيم دورها تدريجياً، ومع ذلك يبقى من الضروري أن يظل شعارها مرتبطاً باللجوء الفلسطيني، لأنه يمنح هذه القضية بعدها الأممي والإنساني، الذي يتجاوز التفاصيل السياسية، ويضمن وجود عين أخرى محايدة تعمل مع الفلسطينيين، وتستطيع أن تنقل معاناتهم بمصداقية، وبعيداً عن الممارسات الغامضة وغير المتسمة بالشفافية التي يعمل من خلالها كثير من المؤسسات الفلسطينية، المرتبطة بالعمل التنظيمي، الذي تخلى عن دوره النضالي ليتحول إلى أدوار تكتيكية محدودة داخل المشروع الصغير المرتبط بإسقاط صفة الدولة على السلطة الفلسطينية.
المخيم هو الاتساع الحقيقي للقضية الفلسطينية، والأونروا ولدت مع المخيم، ويخشى أن تكون عملية خنقها فاتحة لإنهاء حالة المخيم، ليتحول إلى حي من صفيح في الشتات، وتأكله بذاكرته وعنفوانه المدن الكبيرة، التي ستدور في فضاء مشروع إقليمي مهما كانت الرهانات عليه، فإنه لا ينفي ولا يصح له أن يلتهم حقوقاً لأبناء فلسطين المهجرين قسرياً، ويحول معاناتهم إلى مجرد ورقة على الطاولة أو تحتها.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 31 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

7 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 7

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28