] «طوفان الأقصى»: عن الإمبريالية والصهيونية والرجعية في القرن الـ21 - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الخميس 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2023

«طوفان الأقصى»: عن الإمبريالية والصهيونية والرجعية في القرن الـ21

بقلم:حسن حرب
الخميس 26 تشرين الأول (أكتوبر) 2023

الإمبريالية: نهاية اللحظة الأُحادية القطبية للولايات المتحدة
تشير الإمبريالية إلى نظام عالمي لاستخراج القيمة الفائضة (1)، حيث يتم تقسيم التنمية بشكل غير متكافئ على أسس عرقية وطبقية. إنها مجموعة من علاقات الاستغلال المادية بين دول الشمال والجنوب العالمي، والتي تتم من خلال عملية التعاون الطبقي بين الطبقات الحاكمة في المركز والكومبرادور (الأنظمة المتواطئة) في الأطراف. يعتمد التراكم إذاً أكثر فأكثر على درجة قمع واستغلال البلدان الإمبريالية للدول النامية (2). وهذا يستلزم، على سبيل المثال، استخدام الهيمنة العسكرية والسياسات التي تمنع البلدان النامية من تسخير مواردها الداخلية لغرض التنمية الإقليمية أو الشعبية. وفي الوقت نفسه، فإن هذا التراكم التاريخي غير المتكافئ للثروة لا يستلزم تكديس السلع والموارد الطبيعية فحسب، بل يشمل أيضاً كتلة من الأفكار التي تتوافق مع منطق رأس المال الانتهاكي والتجاوزي. وبعبارة أخرى، فإن الإمبريالية، كظاهرة اجتماعية، تعمل كأداة مادية وأيديولوجية في آن واحد (3).

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، عزّزت الولايات المتحدة نفوذها السياسي والمالي في جميع أنحاء العالم، لتصبح القوة الإمبريالية الكبرى. وباعتبارها دائناً لفرنسا وبريطانيا أثناء الحرب، حاولت الولايات المتحدة إعادة هيكلة النظام العالمي في أعقاب انسحاب الاستعمار الأوروبي من أفريقيا وآسيا بسبب العجز (4). استندت هذه المهمة إلى المجالات المترابطة للتجارة والتوسّع العسكري. وفي ما يتعلق بالمسائل التجارية، سعت إدارة ترومان ما بعد الحرب إلى إنشاء سياسة «الباب المفتوح» الهادفة لإزالة الحواجز التجارية والمالية، والكتل التجارية الحصرية، والسياسات التقييدية من كل نوع (5). تمّ تصوير هذه الترتيبات التجارية الجديدة على أنها محايدة وتسهّل حرية السوق والتبادل الدولي، هذه السياسة في الواقع أدّت إلى أمركة النظام العالمي وتسخيره لتلبية احتياجات رأس المال الأميركي المطروحة في أواخر الأربعينيات. قام البنك الدولي وصندوق النقد الدولي المنشآن حديثاً بتنظيم التجارة العالمية بموجب عملة مشتركة هي الدولار الأميركي. وقد وفّرت عملية إعادة البناء الاقتصادي في أوروبا الغربية بعد الحرب للمصدّرين الأميركيين أسواقاً ناشئة؛ كما سمح للتنسيق العسكري مع الإمبريالية البريطانية المتراجعة للشركات الأميركية بالوصول المتميّز إلى الموارد الرئيسية للعالم الصناعي، أي النفط. ومن المحتم أن تكون أسطورة «الاستثنائية الأميركية» هي التي ساعدت في الحفاظ على سياسات الهيمنة هذه. جسّدت هذه الأساطير السياسية الحماسة التبشيرية والاستعمارية التي برّرت الإبادة الجماعية في الأميركَتيْن (6) ونشرت اعتقاداً دينياً رسّخ فكرة أن الولايات المتحدة لديها دور فريد تلعبه في تاريخ العالم، بينما دور الدول الأخرى مجرد أتباع لأميركا.

ومع ذلك، فإن الصعود الاقتصادي التدريجي للصين والتدخليْن العسكرييْن الروسييْن على التوالي لدعم الحكومة السورية في عام 2015 وضد تعديات «الناتو» في أوكرانيا في عام 2022، دفعت الولايات المتحدة وحلفاءها، أوروبا واليابان، بشكل حاسم إلى كابوس جيوسياسي. لقد دخلت الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة مرحلة تاريخية من الانحدار السياسي. إن اللحظة الأحادية القطبية تنهار، في حين أصبحت الكتل السياسية الجديدة من العالم الجنوبي، مثل مجموعة «البريكس»، أكثر حزماً في تشكيل نظام دولي يمنع إذلالها، بل يعاملها على قدم المساواة. وإلى جانب هذه العمليات، شهدنا أيضاً موجة من الانقلابات العسكرية في غرب أفريقيا ضد الاستعمار الفرنسي/الغربي الجديد، وزيادة حزم إيران في غرب آسيا وتعاونها مع روسيا، في حين صمدت كوبا وفنزويلا لعقود من العقوبات والانقلابات التي رعتها الولايات المتحدة. يتزايد الضغط على الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة وحلفاؤها، وكان رد الفعل الفوري على الإدراك الواعي لانحدارهم هو موجة متجددة من الخطابات الأيديولوجية الفاشية الصارخة. بدءاً من انتخاب دونالد ترامب في الولايات المتحدة عام 2016، وكانت السمة الأكثر لفتاً للانتباه في أوروبا الفاشية الجديدة هي إعادة التأهيل الكامل للنازية في أوكرانيا كشكل من أشكال المقاومة الشعبية ضد روسيا «الدكتاتورية». ومن جورجيا ميلوني في إيطاليا إلى إيمانويل ماكرون في فرنسا، فإن الطبقات الحاكمة الأوروبية مستعدّة للتضحية بشعوبها وبلدانها بأي ثمن من أجل الولايات المتحدة الجبارة.

الصهيونية والرجعية: من الوحدة العربية إلى المقاومة
وفي سياق كهذا، احتلت المنطقة العربية دوراً فريداً في الجيوستراتيجية الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، خاصة بسبب ثروتها النفطية. وكونها مورداً طبيعياً رئيسياً لاقتصادات البلدان الإمبريالية، فإن أفضل وسيلة لضمان هذا الوصول المضمون كانت تتمثّل في تأمين السيطرة السياسية على المنطقة (7). ولتحقيق هذه الأهداف، عملت الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة في تعاون وثيق مع حليفين مخلصين - إسرائيل وممالك الخليج الرجعية.
أمّا بالنسبة إلى الكيان الصهيوني، فأصبح هذا الكيان فعلياً موقعاً عسكرياً أميركياً في المنطقة (8). وكما كتبت شيلا رايان (9)، من عام 1948 حتى منتصف عام 1973، «تلقّت إسرائيل مبلغاً مذهلاً يزيد على 8 مليارات دولار من المساعدات الاقتصادية من مصادر أجنبية مختلفة، أو 3500 دولار لكل إسرائيلي – بمتوسط 233 دولاراً سنوياً للفرد من المساعدات. وهكذا، فإن المواطن الإسرائيلي العادي يتلقّى كل عام من المساعدات وحدها أكثر من ضعف دخل الفرد المصري (102 دولار في عام 1969)». بين عامي 1943 و2023، قدّمت الولايات المتحدة لإسرائيل مساعدات بقيمة 160 مليار دولار (أو ما يعادل حوالي 260 مليار دولار عند أخذ التضخم في الاعتبار) (10)، دون النظر إلى ضمانات القروض العادية المقدّمة للكيان والتي تبلغ قيمتها المليارات. هذه المساعدات لإسرائيل هي استثمار في النزعة العسكرية للإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة. تكمن خصوصية الكيان الصهيوني في كونه تشكيلاً استعمارياً استيطانياً، مثله مثل الولايات المتحدة، يحتضن نمطاً من الوعي المعزّز لقيم الإمبريالية ويضمن هيمنة الولايات المتحدة في المنطقة. من خلال امتلاك الأسلحة النووية ومن خلال هجماتها العسكرية العديدة وغزواتها لدول أخرى في المنطقة - مثل العراق (11) ولبنان وسوريا (12) - أصبحت إسرائيل القوة الرئيسية وراء تراكم رأس المال الإمبريالي ونتيجته الطبيعية المتمثّلة بتراجع التنمية العربية. وكما أكّدت باستمرار الأوساط اليسارية الفلسطينية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فإن الصهيونية هي رأس حربة الإمبريالية في المنطقة. وبقدر ما يشكّل تحرير فلسطين نضالاً ضد الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة والتي تعمل إسرائيل نيابة عنها كجندي، فإن الهجوم على إسرائيل يشكل محاولة لتقويض المصالح الأساسية للولايات المتحدة وحلفائها الرجعيين في المنطقة بشكل مباشر.

وكما هو الحال في ممالك الخليج الغنية بالنفط، فإن سيطرة الطبقات الحاكمة على هذه التشكيلات السياسية ضمنت سيادة الدولار الأميركي على المستوى الدولي من خلال مبيعات النفط المقوّمة بالدولار (13)، والتي تمّت إعادة تدويرها بعد ذلك في شراء سندات الخزانة الأميركية والأسلحة. وفي السنوات الأخيرة، وفي أعقاب الهجمات المختلفة على سيادة الجمهوريات العربية العلمانية (العراق وليبيا وسوريا)، بالتنسيق مع أموال وأسلحة دول الخليج، دفعت الولايات المتحدة أيضاً بأجندة التطبيع مع إسرائيل. كلما زاد الاعتراف الرسمي بإسرائيل في المنطقة، أصبحت مصالح الإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة أكثر أمناً.
ومع ذلك، فقد تكشّفت عمليتان أخريان هزّتا التوازن الجيوسياسي في المنطقة. فأولاً، في حين شهد عام 2011 نجاح عملية تغيير النظام التي قادها حلف شمال الأطلسي في ليبيا، أظهر تدخل روسيا في سوريا عام 2015 -والذي كان مدفوعاً جزئياً بتجاربها مع غزو ليبيا- أن التوازنات الإقليمية والجيوسياسية قد تغيّرت. ثانياً، إن قدرة جمهورية إيران الإسلامية على تحمّل عقود من العقوبات (كما فعلت كوبا وجمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية وفنزويلا) سمحت لها بالنمو لتصبح لاعباً سياسياً مهماً في المنطقة، وأصبحت العدو رقم واحد للكيان الصهيوني. ومن خلال تقديم الدعم للتشكيلات الاجتماعية والسياسية الأخرى في المنطقة، بما في ذلك حزب الله في لبنان وأنصار الله في اليمن، يمثل الحزم السياسي والعسكري لإيران تحوّلاً حاسماً في طبيعة المسيرة الأيديولوجية للمنطقة ضد الصهيونية. ومع ترسيخ أيديولوجية المقاومة، تجنّب كل من إيران وحزب الله إلى حد كبير إنتاج رؤية طائفية إقصائية يقودها الشيعة للمنطقة. بعبارة أخرى، لقد تجنّبوا الخطر الذي أنتجه الداء الأميركي عن طريق دعمه للمجموعات السنية الرجعية – ومجاهدي أفغانستان خير مثال. على العكس من ذلك، حافظت المقاومة جدلياً على الاستمرارية التاريخية والأيديولوجية للمنطقة، منتقّلة من الوحدة العربية إلى الوحدة الإسلامية. ولم ترفض الماضي اعتباطاً. وبدلاً من ذلك، قامت بدمج الماضي مع الحاضر، وخلقت نظاماً أيديولوجياً جديداً يدعو الهوية العربية والإسلامية للمنطقة إلى القتال ضد الحرب الطبقية والأيديولوجية التي أطلقها المضطهِدون الأجانب على سيادة كل دولة في المنطقة. وكما قال السيد حسن نصرالله ذات مرة: «في مشروع الهيمنة الأميركية، لا يجوز أن توجد دولة قوية، دولة قوية بمعنى الدولة المستقلة، دولة تتخذ قراراتها بنفسها، دولة تراعي مصالح شعبها، دولة تستفيد وتوظّف مواردها من أجل اقتصادها، دولة تتطور علمياً وفنياً وثقافياً وإدارياً على كلّ الأصعدة. في مشروع الهيمنة الأميركية [مثل هذه الدولة] ممنوع وجودها».
ad

مع تراجع النظام العالمي الأحادي القطب، تشهد المقاومة تجسّد محور الدفاع الذي يقف بثبات لدرء الهجمات الإمبريالية على المنطقة. كما يمكن أن يخلق مساحة لعمليات إعادة التنظيم المستقبلية وغير المتوقّعة. في الواقع، في حين أشبعت التحليلات السائدة الرأي العام الغربي بصورة الانقسام بين السنة والشيعة، واضعة المملكة العربية السعودية في مواجهة إيران، باعتبارها تحدد المنطقة ويبدو أنها مضطرة لتشكيل مستقبلها، فإن جمهورية الصين الشعبية سجّلت هدفاً سياسياً مهماً؛ التحرك للتوسط في اتفاق دبلوماسي بين هذين البلدين في عام 2023. ماذا لو تمكّنت إيران والسعودية من تشكيل مسار مشترك معاً في المستقبل للمنطقة؟
ومع ذلك، فإن الرجعية لا تزال حية ونشطة في المنطقة. لا تزال مصالح الطبقات الحاكمة في مختلف الأنظمة الكومبرادورية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً برأس المال الإمبريالي الذي تقوده الولايات المتحدة، وخاصة الأردن ومصر والإمارات العربية المتحدة. لكن «طوفان الأقصى» أدّى إلى تسريع هذه التناقضات القائمة بين الدول الرجعية في المنطقة وشعوبها، وكذلك داخل النظام المتعدد الأقطاب الناشئ. وفي حين قامت الإمارات بالتطبيع فعلياً مع الكيان الصهيوني، فإن المملكة العربية السعودية ترد الآن بتجميد أي نقاش مستقبلي حول التطبيع، بينما تتواصل (لأول مرة) مع إيران بشأن الوضع. وفي هذا الصدد، يمكن أن يصبح «طوفان الأقصى» مقبرة لممر النقل المدعوم من الولايات المتحدة، على أمل ربط الهند عبر المملكة العربية السعودية وإسرائيل بالاتحاد الأوروبي. ومن غير المستغرب أن تسارع الهند إلى دعم إسرائيل، لكن أعضاء «البريكس» الأكثر قوة كانت لديهم ردود فعل معاكسة تماماً. وفي مكالمة هاتفية مع نظرائها البرازيليين، لم تتردد وزارة الخارجية الصينية في تسليط الضوء على أن «جوهر القضية يكمن في حقيقة أن العدالة لم تتحقق للشعب الفلسطيني» (14). إنّ تطور هذه الأحداث أصبح سرداً من الأخبار المتزايدة السوء بالنسبة إلى الولايات المتحدة وآمالها في «الانسحاب» من المنطقة للتركيز على الصين. لقد وجّه الفلسطينيون ضربة مباشرة إلى المصالح الأساسية للولايات المتحدة. إنهم لم يفتحوا جبهة عسكرية جديدة وغير متوقّعة فحسب، بل ذكّروا أيضاً العالم الجنوبي بأن إنشاء نظام عالمي جديد يجب أن يمر عبر فلسطين، ما لم تظل قوة الولايات المتحدة دون منازع.

كما أدّى «طوفان الأقصى» إلى تفاقم الفجوة القائمة بين الأنظمة الحاكمة الرجعية وقواعدها الانتخابية. وبغضّ النظر عن مصالح الكومبرادوريين، فإنها لا تعكس مصالح الجماهير العاملة في المنطقة. وبينما قام الجيش الأردني بتطويق الحدود مع إسرائيل بشكل بائس، وعندما دعت المقاومة إلى حشد كبير في جميع أنحاء المنطقة، ظل الناس يتدفقون على الحدود دعماً لفلسطين. إنّ ما أطلقه «طوفان الأقصى» هو إعادة اشتعال وعي الطبقة العاملة في المنطقة حول مدى ترابط مصيرها بالنضال ضد رأس المال الأميركي، وقواعده العسكرية، وحلفائه الرجعيين. هذه عملية تتطور ببطء ولا يزال يتعين دراسة شكلها وزخمها. على سبيل المثال، يُظهر هجوم المتظاهرين اللبنانيين على «ماكدونالدز» في صيدا مثالاً مبكراً للتعبئة الجماهيرية ضد التجسيد الأيديولوجي والطبقي للإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة في المنطقة. وفي الإسكندرية، يمثل إطلاق النار على سائحين إسرائيليين والخطاب الذي روّج له حول الإسرائيليين كأعداء للأمة العربية ضربة أخرى للموقف المصري الرسمي من التطبيع. وهذا يعني أن المعركة لا تدور حول غزة أو داخلها فحسب؛ بل إنه يجري في كل العواصم العربية – من القاهرة إلى عمان وبغداد – وأن تنظم الجماهير العاملة في المنطقة نفسها حول فلسطين يعني استعادة مستقبلها واستقلالها.

غزة: أمل العالم في مستقبل عادل

في مثل هذا السياق، هناك عدة عناصر يجب أن نأخذها في الاعتبار عند النظر إلى العملية الفلسطينية التي انطلقت في 7 أكتوبر 2023. أولاً، تمثّل العملية طريقة الفلسطينيين للدخول بشكل حاسم في هذه اللحظة التاريخية من التراجع الأميركي، وشن حرب التحرر من الكيان الصهيوني الذي، مثل المقاومة، يجمع بين الماضي والحاضر نحو المستقبل. اختيار الذكرى الخمسين للحرب العربية على إسرائيل عام 1973، يعني أن حرب التحرير الفلسطينية مبنية على الوحدة العربية الماضية، لكنها تتطلع إلى مستقبل يدعو جميع العرب، مسلمين ومسيحيين، إلى النضال من أجل الوطن والدفاع عنه وعن الأماكن المقدّسة (15). وفي الوقت نفسه، رغم أن طبيعة وحجم «طوفان الأقصى» تاريخيان بلا شك، إلا أن قدرتهما على جذب الجماهير العربية وتجميعها عسكرياً حول النضال من أجل تحرير فلسطين ليست فورية. لا تزال هناك عقبة ملموسة – كما ذكرنا أعلاه – تتمثل في الأنظمة الرجعية في المنطقة، التي ترتبط مصالحها الأساسية برأس المال الذي تقوده الولايات المتحدة، دون أن ننسى التدمير العسكري المنهجي الذي اجتاح الجمهوريات الكبرى المناهضة للصهيونية في المنطقة (العراق، ليبيا وسوريا). ومع ذلك، لا يمكن لمحور المقاومة أن يخسر حلفاءه في فلسطين. والحقيقة أن حزب الله حذّر مراراً وتكراراً من أنه مستعد لدخول الحرب في حالة حدوث غزو بري صهيوني لغزة. وهذا يكشف عن الطابع التراكمي للتاريخ. لا يمكننا أن ننظر إلى «طوفان الأقصى» باعتباره الطريق الأخير إلى حرب التحرير فحسب، بل باعتباره إحدى الخطوات الكبرى التي ستؤدي إلى حرث محاصيل صراع التحرير - بدءاً من الانتصار العسكري الذي حقّقه حزب الله على إسرائيل في عام 2006 إلى مآلات «طوفان الأقصى».

ثانياً، طوفان الأقصى فاجأ الكيان الصهيوني تماماً. لقد فشل الجيش الأكثر تقدماً من الناحية التكنولوجية في المنطقة في منع مثل هذا الهجوم، وهذا يمثّل بالفعل خسارة سياسية كبيرة. في ظل التناقضات المجتمعية المتزايدة التي تضع المستوطنين الليبراليين والمحافظين بعضهم ضد بعض، يأمل نتنياهو في توحيد البلاد حول الشيء الوحيد الذي يتمركز عليه الكيان الصهيوني وهو الإبادة الجماعية للفلسطينيين. ولهذه الأسباب، دعا العديد من السياسيين الإسرائيليين علناً إلى نكبة ثانية، بهدف محو غزة من على وجه الأرض. ومع ذلك، فإن دعوات الإبادة الجماعية هذه هي انتصار باهظ الثمن للصهاينة، لأنها تظهر لدول العالم الجنوبي الانحدار السريع للغرب وحلفائه إلى الفاشية الأخلاقية والسياسية. وفي الوقت نفسه، قد تواجه دعوات الإبادة الجماعية مصيراً آخر. أي إنه إذا قرّرت الضفة الغربية حمل السلاح والانضمام إلى الفصائل في غزة، أو قرّر محور المقاومة فتح جبهات عسكرية جديدة، فقد تجد إسرائيل نفسها محاصرة تماماً. إن الهجوم الكامل على غزة من قبل الكيان الصهيوني – كما هو موضح أعلاه – هو إعادة تأكيد لتراجع قوة الولايات المتحدة في المنطقة. بمعنى آخر، إنها تسير ضد الزمن التاريخي، حيث إن كلاً من روسيا والصين ومختلف دول العالم الجنوبي تراقب الحرب، وتمثل فلسطين اختباراً لرغبتها الجديدة بتشكيل نظام عالمي متساوٍ.

في هذه المقالة، أحاول التفكير في حجم الحرب وأهميتها على المستوييْن الإقليمي والعالمي، بالاعتماد على الأدوات النظرية التي غالباً ما وجّهت شعوب العالم الجنوبي لفهم محنتها ونضالاتها. وهذا يعني أنني أعتقد أنه من المهم العودة إلى مفهوم تآلفي ثلاثي، أي الإمبريالية والصهيونية والرجعية، من أجل مركزة هذه المعركة التاريخية في أطر خارجة عن القيود المعرفية المماثلة لسجن غزة المفتوح. وفي القيام بذلك، يجب علينا أن نعتمد على هذه المفاهيم، ولكن مع الارتقاء بها إلى العصر الحاضر، لفهم الطبيعة الجدلية لهذه الحرب في عالم يشهد الانحدار البطيء (ولكن الثابت) للإمبريالية التي تقودها الولايات المتحدة.

ثالثاً، هذه الحركة الجدلية غير مفهومة بالنسبة إلى من يُعرَفون باليساريين الغربيين الذين لا يستطيعون التصالح مع فكرة أن القتال التقدمي في المنطقة قد اتخذ منحنى بقيادة إسلامية - حتى في حين أن قوى المقاومة غير المتجانسة أيديولوجياً في المنطقة، كما هو موضح أعلاه، تبنّت التنسيق الإستراتيجي والتحالفات مع أمثال «حماس». إن جلّ الغرب، الذي أعمته غطرسته الإمبريالية، إمّا انزلق بسرعة كبيرة إلى الدعم الفاشي والمتعصب لإسرائيل، أو وجد جماعاته اليسارية مشوّشة تماماً. وفي الواقع، يستمر الأخير في البحث بيأس عن القدر أو النوع «الصحيح» من العنف، وعندما لا يكون موجوداً، يسارع إلى إدانة كلا الجانبين بالتساوي. وغني عن القول أنه بعد تطبيع ودعم سبعة عقود من العنف الصهيوني ضد الفلسطينيين والقصف المتتالي للمنطقة، فإن الغرب يخذل نفسه كحليف لفلسطين في هذا المنعطف التاريخي. ولنطرح الأمر على نحو استفهام: هل تمكّن اليسار الغربي، على الرغم من كل معارضته، من منع القصف الذي تقوده الولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلسي في المنطقة؟ وفي هذه اللحظة التاريخية الحاسمة، لا بد من تذكير اليسار الغربي بأن غزة والنضال من أجل فلسطين يشكلان أمل البشرية في عالم أفضل. لقد أظهرت الأيام القليلة الماضية كيف تعمل المؤسسات الغربية المدنية والتعليمية والإعلامية الجماعية جنباً إلى جنب مع أجهزتها العسكرية والأمنية، المنتشرة جميعها لحماية مصالح الطبقات الحاكمة. وكما كتب غسان كنفاني، الكاتب الفلسطيني والعضو القيادي في «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين»، في عبارته الشهيرة: «القضية الفلسطينية ليست قضية الفلسطينيين فقط، بل قضية كل ثائر أينما كان... قضية الجماهير المستغلَّة والمضطهدة».

«طوفان الأقصى» لحظة تجسّد زمننا التاريخي. لقد قرّرت الجماهير الفلسطينية والعربية والمسلمة أن تدخل المسرح وتقول للعالم إنها لن تُترك خارج التاريخ. إنها على استعداد للانضمام إلى النضال من أجل عالم أكثر مساواة لغالبية سكانه.

* أستاذ جامعي - إيطاليا

هوامش:
(1) Arghiri Emmanuel, Unequal Exchange: A Study of the Imperialism of Trade (New York: Monthly Review Press, 1972); Samir Amin, Unequal Development: An Essay on the Social Formations of Peripheral Capitalism (New York: Monthly Review Press, 1976); Utsa Patnaik and Prabhat Patnaik, A Theory of Imperialism (New York: Columbia University Press, 2016).

(2) Ali Kadri, Imperialism with Reference to Syria (Singapore: Springer, 2019).

(3) Anouar Abdel-Malek, Social Dialectics: Nation and Revolution (Albany: SUNY Press, 1981).


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 20 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات وقضايا   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

25 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 24

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28