] عندما أُصيبت إسرائيل بالبركان - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الاثنين 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2023

عندما أُصيبت إسرائيل بالبركان

الاثنين 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 par أسعد أبي خليل

العبارة عن أن الحياة بعد حدث ما لن تكون كما قبله باتت مكرّرة كثيراً ومجترّة. لكن عمليّة «طوفان الأقصى» ليست مثل غيرها. هي تغيير نوعي في سياق العمليّات الفلسطينيّة على مرّ تاريخ الصراع العربي-الإسرائيلي. العمليّة ليست واضحة بعد في أهدافها ونوعها، ولا نعلم إذا كان قصف إسرائيل لمواقع مقاتلي «حماس» خارج غزة هو الذي تسبّب في هذا العدد الكبير من القتلى في صفوفهم (هل يُعقل أن إسرائيل قتلت مئات المقاتلين، وفقاً لما تقوله، من دون أن تصيب مدنيّيها بينهم؟). إسرائيل عمدت منذ انطلاقتها إلى إحداث معادلة واضحة: يُقتل مئة عربيّ مقابل كلّ إسرائيليّ يُقتل (هذه النسبة حقيقيّة وهي محتسبة في دراسة قديمة لمركز الدراسات الفلسطينيّة في أوائل السبعينيّات). العمليّة هذه قلبت المعادلة، ما أشعر إسرائيل بأن عناصر عقيدتها العسكريّة والأمنيّة تتعرّض للفناء. حزب الله صدَّ اجتياحاً إسرائيليّاً كبيراً للبنان في عام ٢٠٠٦. هذا تغيير كبير في سياق الصراع، وخصوصاً أنّ أحداً لم يستطع أن يصدّ اجتياحاً إسرائيليّاً من ١٩٤٨ حتى حرب تمّوز. أدركت إسرائيل أنها تتعامل مع نوعيّة جديدة من البشر: وهي كانت تعوِّل على نظرة استشراقيّة تحقّر العنصر العربي وتستخفّ بقدراته (وساعدتها في ذلك الكتابات العربيّة الاستشراقيّة من نوع «النقد الذاتي بعد الهزيمة» لصادق جلال العظم). لا يمكن للعدوّ أن يسمح في هذا التدنّي في أدائه القتالي والإجرامي. في حرب تمّوز مثلاً، تدنّت نسبة إلحاق الأذى الإسرائيليّة بالعرب مقارنةً بالأذى الذي يلحقها هي. القدرات التي سخّرتها «حماس» في العمليّة لم تكن ماديّة فقط بل معنويّة. هي ترسيخ لسابقة حرب تمّوز (وقبلها في حرب أكتوبر): أن الجندي العربي لا يخاف من الجندي الإسرائيلي. في تمّوز ترسّخت سابقة: تخويف الجندي الإسرائيلي. هذا سُجِّل في عمليّة «حماس» وهذا الذي دفع العدوّ إلى الإصرار على تدمير عشوائي ممنهج لغزة كلها، بمن فيها.

الغرب فقد صوابه في هذه العمليّة. لم أرَه على هذه الصورة من التعصّب والكراهية والانحياز والعنصريّة والعداء الشديد لكل ما هو عربي وإسلامي، ولكن هذا ليس سيّئاً بالضرورة، على العكس، الغرب يُسفر عن وجهه القبيح، وجهه الحقيقي. يكفي أن تتابع الخطاب الإسلاموفوبي في فرنسا، وفيه يتشارك اليسار واليمين والوسط (وكالعادة، يحتاج العداء الغربي للعرب والمسلمين إلى مسلم مُطيع، ولهذا إن تاريخ الإسلاموفوبيا الفرنسيّة سيتذكّر الدور الشنيع الذي لعبه محمد أركون مع الدولة الفرنسيّة في صياغة قانون منع الرموز الدينيّة. ومنع العباءة لم يصاحبه كثير من الاحتجاج السياسي). لكن الغرب في الحرب الأوكرانيّة كشف أوراقه كلها. قدرة الغرب على خداعنا والتلاعب بعقولنا تقلّصت كثيراً عبر السنوات، وهذه الحقبة التي ولدت بعد عمليّة غزة ستزيد من وحشيّة الغرب وتعنّته وتزمّته، لم يعد يزعم حتى أنه يعتنق الليبراليّة التي كان يعلكها في حديثه مع دول العالم النامي.

الغرب اليوم يكرّس مبدأ صراع الحضارات. حرب أوكرانيا وضعت الغرب كله في بوتقة حضاريّة واحدة. عندما تنضم السويد وفنلندا إلى «الناتو»، تدرك أن قدرة الجمعيّات اللبنانيّة المُموَّلة من حكومات «الأطلسي» على سوق فكرة: ليس الغرب كله سواء، وأن هناك حكومات غربيّة لا تسير في المسار الأميركي، لن تنطلي. والحرب في غزة اليوم رصّت الصفوف أكثر، لا بل هي عمّمت سياسة حظر حريّة التعبير ومنع الموازاة بين الأفكار لأنها ليست كلها سواء. فكرة جون ستيورات ميل عن سوق الأفكار تبخّرت. سوق الأفكار، مثل دول العالم العربي، تضمّ الأفكار التي تفرضها الأحزاب الحاكمة (وهي حزب أو اثنيْن في غالب الأحوال). الأفكار الأخرى تكون إرهابيّة أو هي فاسدة تستحق الحظر أو التهميش (كما حلّ بالشيوعية والاشتراكيّة). الصراع بين الغرب والشرق في أوجه لكن الغرب لم يعد مهتماً بالمهادنة. هو يريد الحرب وفرض الهيمنة الغربيّة، وحاملات الطائرات هي وسيلة النقاش.

من الضروري عدم الانجرار في الانتصاريّة التي كان إقبال أحمد يحذّر أصدقاءه في منظمّة التحرير منها. صحيح، أظهرت «حماس» عجز العدوّ وضعفه، كما نجح الحزب في تظهير ذلك عبر سنوات مقاومته، ولكن إسرائيل ليست وحيدة، كما نرى. الغرب مستعد أن يتدخّل بأساطيله لإنقاذها من شرّ العرب. ليس بالأمر اليسير أن تحرّك أميركا حاملتيْ طائرات لمواجهة «حماس». من دون أن تدري، عظّمت أميركا من شأن «حماس» في أذهان الرأي العام العالمي، وجعلت من إسرائيل دولة ضعيفة خانعة تحتاج (للمرّة الأولى منذ إنشاء الكيان) إلى رعاية عسكريّة واستخباراتيّة مباشرة من الحكومة الأميركيّة. للمرّة الأولى، لا تثق أميركا بقدرة إسرائيل على حماية نفسها من أعدائها. وإعلان أرقام هائلة لعدد المجنّدين الإسرائيليّين محاولة لكسب هيبة عسكريّة باتت مفقودة. هذه سابقة في العلاقات الأميركيّة الإسرائيليّة. كانت أميركا تثق ليس بقدرة إسرائيل على هزيمة دولة عربيّة ما فقط، بل بقدرتها على هزيمة أي مجموعة من الدول العربيّة. اليوم لا تثق أميركا بقدرة إسرائيل على هزيمة منظمّة فلسطينيّة؟ هذا يعطي فكرة عن تدهور كبير في القدرة الردعية لإسرائيل. والتخبّط الذي وقعت فيه إسرائيل بعد العمليّة زاد من التشكيك بقدراتها. طبعاً، المسألة ليست أن إسرائيل تغيّرت فقط، بل أن قدرات حركات المقاومة ضد إسرائيل باتت على مستوى من القوة لا يمكن مقارنته باستعراض ياسر عرفات، القائد العام لقوى الثورة الفلسطينيّة الغابرة.

ماذا يمكن لأميركا أن تفعله؟ عقوبات ضد «حماس»؟ هناك كل أنواع العقوبات، أميركا جرّت الدول العربيّة (أو الدول العربيّة جرّت نفسها) للتعامل مع حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي بوصفها حركات إرهابيّة. ودول الجامعة العربيّة تحظّر، على طريقة دول الغرب، الإعلام التابع لأي حركة مقاومة. والتقارير عن أن أميركا ستدخل الحرب ضد حزب الله تعصى على التصديق. أميركا كانت في لبنان وبقيت فيه سنتين واستعملت مدفعيّة «نيو جرزي» ضد الضاحية والجبل، وكانت النتيجة أن رونالد ريغان، رافضاً الاعتراف بالهزيمة، أعلن أن قواته «ستعيد انتشارها إلى البحر». وروبرت غايتس (وزير الدفاع في آخر عهد بوش وفي عهد أوباما) كان قد حذّر في خطبة وداعيّة في الكليّة العسكريّة «وست بوينت» أن أي رئيس يفكر في شنّ حرب في الشرق الأوسط يحتاج إلى فحص في قواه العقليّة. والحزب كان في طور جنيني في ١٩٨٢، فما بالك به بعد حرب تمّوز وقد أصبح قوة إقليميّة يُعتدّ بها؟

ليس واضحاً إذا كان لـ«حماس» خطّة في التعامل مع مضاعفات العمليّة. والعمليّة نفسها ليست واضحة ويشوبها الغموض الشديد، كما سلف. والعدو ينسج على عادته الأضاليل والأكاذيب كي يكسب الرأي العام الغربي. و«حماس» ليست الحزب: ليس لديها إعلام حربي ماهر. الكلام كله عن قطع رؤوس الأطفال لم يتلقَّ رداً من «حماس» أو توضيحاً. والحرب فرصة لمن يخوضها: للمساهمة في الحرب أو لمنح العدوّ فرصة للتضليل، وإسرائيل ماهرة في التضليل والخداع ولم ينجح في الحرب الإعلامية والنفسيّة معها إلا الذي هزمها في الجنوب اللبناني.

قدر العمليّة أنها أحدثت زلزالاً في السياسة العربيّة. هي عرقلت مسار التطبيع بين السعوديّة وإسرائيل إلى درجة أن دعاة محمد بن سلمان من اللبنانيّين جزموا أن العمليّة إيرانيّة لهذا السبب (إسرائيل وأميركا نفيتا ضلوع إيران، لكن «ثوار» لبنان أدرى بالسياسة العالميّة والمعلومات الاستخباريّة التي تردهم من تركي الشيخ). محمد بن سلمان اضطرّ إلى التحدّث نحو ساعة مع الرئيس الإيراني، وهذا دليل حرجٍ سعودي، لأن المصالحة (بين السعودية وإيران) كانت هدفاً لإيران أكثر ما هي هدف للسعودية التي تصرّفت بصلف في المصالحة، والتي لم تغيّر مسار إعلامها نحو سوريا وإيران رغم تغيّر لهجة إعلام النظاميْن الأخيريْن. إنّ تغيّر لهجة بعض دعاة النظام السعودي نحو فلسطين (باتجاه متعاطف) دليل على قراءة للمزاج العام. ومجلة الـ«إيكونمست» قبل أسبوعين استشهدت باستطلاع رأي يظهر أن نسبة ٢٪ فقط من شباب السعوديّة يحبّذون التطبيع مع إسرائيل (طبعاً، شذَّ عن اتجاه التعاطف مع فلسطين هؤلاء اللبنانيّون الذين يعملون في حاشية الحاكميْن الخليجيّيْن).
الحرب الكبيرة لم تأتِ بعد، وهي ستكون كبيرة إلى درجة أن أميركا تخشى منها. الحرب الكبيرة ستقضي على مصالح أميركيّة كبيرة في لبنان وخارجه وسيكون سياقها أقلّ ديموقراطيّة من حرب تمّوز، حين كان التآمر والتعاطف اللبناني مع العدوّ جهاراً وفي الإعلام المحلّي والعالمي. الصحف الأميركيّة لا تنفكّ تكرّر أن الحزب أقوى من حماس بكثير، ومن المستبعد أن يكون خبر تهديد أميركا بالدخول في حرب مع الحزب صحيحاً. هذا تهويل إسرائيلي المصدر، وأميركا تساند إسرائيل حتى في التضليل. الحزب حتى الساعة منضبط لأن حساباته في الحرب (خلافاً لمنظمة التحرير والأنظمة العربيّة بما فيها عبد الناصر في ١٩٦٧) دقيقة وغير انفعاليّة. هو يتبع نهج الربح والخسارة، أي المدرسة العقلانيّة في صنع السياسات. والطريف أن هناك من دعاة الخليج على المواقع الذين يظنّون أنه يمكن لهم دفع الحزب نحو التورّط أو الارتجال كأن لديهم تأثير عليه.

الأنظمة العربيّة كلها ستعدّل في حساباتها بالنسبة إلى السلام مع إسرائيل، خصوصاً إذا تعرّضت غزة للتدمير الشامل. لكن ذلك سيستدعي على الأرجح تدخلاً من حزب الله، والحرب المفتوحة ستكون من أكبر الحروب العربيّة في تاريخها. الحزب الذي صدّ إسرائيل على مدى ثلاثة وثلاثين يوماً سيكون أقوى في الحرب المقبلة. ليس هناك في حوزة العدوّ ما لم يكن في حوزته من قبل، من ناحية أدوات التدمير. وإشعال المنطقة سيشمل العراق وسوريا معاً، وهذا سيناريو مخيف لأميركا لأنه سيورّطها ويخرجها من المشرق العربي. تجربة أميركا مع لبنان لم تكن مشجّعة، وأميركا تؤيّد إسرائيل لكن ليس على حساب مصالحها. تتمنّى إسرائيل لو أن أميركا تدخل الحرب معها ضد الحزب لكن ذلك سيدخل إيران في المعمعة. قدرة المقاومتيْن على إلحاق الضرر بإسرائيل أكبر من قدرة أي رئيس حكومة إسرائيلي على تحمّل الأضرار، خصوصاً إذا كان نتنياهو، وهو اليوم رئيس ضعيف.
سلطة رام الله العميلة ستدفع الثمن، عاجلاً أم آجلاً. وهذه أوّل مرة يكون فيها صراع فلسطيني إسرائيلي ولا تشارك فيه حركة «فتح» الاستعراضيّة بالخطابة والتبجّح والرقص الشرقي. هي حركة منقرضة في نظر الرأي العام الفلسطيني، وليس من مال خليجي أو غربي يستطيع أن ينقذها، مع أن محمد بن سلمان كان يفاوض عائلة محمود عبّاس على شروط الرضوخ الفلسطيني لتطبيعه. ياسر محمود عبّاس يستطيع أن يضمن الرأي العام الفلسطيني لمحمد بن سلمان مقابل تحويلات مصرفية سخيّة. الذي عوّل على دفن قضيّة فلسطين، أُصيب هو الآخر بالبركان.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 16 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

42 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 42

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28