] الجدل حول “الجنس الثالث”.. والمقاومة الثقافية - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الثلاثاء 3 تشرين الأول (أكتوبر) 2023

الجدل حول “الجنس الثالث”.. والمقاومة الثقافية

الثلاثاء 3 تشرين الأول (أكتوبر) 2023

- عماد الحطبة

في حركة احتجاج ملفتة عمّت المدن الكندية، خرج المعترضون على محاولات فرض المفاهيم الجديدة حول النوع الاجتماعي عن صمتهم، ونظّموا حملة واسعة هدفت إلى جمع مليون متظاهر يرفضون فرض المفاهيم الجديدة عليهم وعلى أبنائهم، خاصة في المدارس. رغم أن المسلمين العرب وغير العرب تصدّروا هذه المسيرات تنظيماً ومشاركة، إلا أن مشاركة عدد من المواطنين البيض المسيحيين، وخاصة الكاثوليك أضفت على هذه المسيرات نكهة جديدة.

إذ أنها أنهت فكرة أن المسلمين يقفون ضد مبادئ الحرية، وأعادت الأمور إلى نصابها من أن الممارسات التي تقوم بها الحكومات الغربية تشكّل عدواناً على الحرية سواء الفردية أو حرية المعتقد بفرض رأي الأقلية على الأغلبية وبشكل فيه الكثير من التعسّف. إحدى المتظاهرات البيض قالت: هل يعقل أن المدرسة تطلب موافقتي الخطية لمشاركة أبنائي في الرحلات المدرسية، وفي الوقت نفسه تساعد طفلاً في الرابعة عشرة من عمره على إجراء عملية تغيير الجنس من دون موافقة عائلته؟

من الناحية العلمية تولد الغالبية العظمى من البشر متمايزة جنسياً من خلال الكروموسومات، ويتحكّم الكروموسوم Y بالجنس، ففي حال وجوده يكون المولود ذكراً، وفي حال غيابه تكون المولودة أنثى، وفي حالة نادرة جداً 1/650 من الذكور يولدون بكرموسوم X إضافي وتسمّى متلازمة كلاينفلتر، في حين يولد 1/1000 ذكر بكروموسوم Y إضافي. كلا الحالتين النادرتين لا تدخلان في التصنيف الاجتماعي الحديث.

تفترض نظرية النوع الاجتماعي، أن الحقائق العلمية المتعلقة بالجنس ليست ما يحدّد النوع الاجتماعي، وأن هناك جنساً ثالثاً قادراً على اختيار نوعه الاجتماعي بغض النظر عن الكرموسومات التي تشكّل جنسه. هذا الاختيار يعتمد على عوامل نفسية واجتماعية، ويمكن لهؤلاء الأشخاص اختيار ألا يكونوا ذكوراً أو إناثاً وأن يسمّوا أنفسهم الجنس الثالث. هذا الجدل الأخلاقي – العلمي يمكن أن يدور على المستوى النظري، أما فرضه على المواطنين بقوة القانون فهو أمر مختلف تماماً.

محاولة فرض مفهوم الجنس الثالث على المجتمعات موضوع سياسي بامتياز. لنبدأ بطرح السؤال، لماذا انفجر هذا الموضوع بشكل مفاجئ في معظم المجتمعات الغربية، ما هو المستجد الذي دفع هذا الجدال إلى الواجهة وجعله قضية تحتاج إلى إصدار قوانين، بل وأحياناً انتزاع الأطفال من عائلاتهم بحجة عدم قبول العائلات بقوانين النوع الاجتماعي؟

في خمسينيات القرن الماضي قال مؤسس الليبرالية الجديدة ليفي شتراوس إن المجتمع الليبرالي بحاجة إلى عدو ليبقى في حالة تأهّب واستعداد لنشر قيمه عالمياً، وقال إن العدو بعد هزيمة هتلر هو الاتحاد السوفياتي وزعيمه جوزيف ستالين. في نهاية الثمانينيات وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي قال تلميذ شتراوس، بول فولفوتز، الذي كان يشغل موقع نائب وزير الدفاع الأميركي، إن العدو الجديد للعالم الليبرالي هو الإسلام، وإن على الدول الغربية العمل على تكريس هذا العدو لتستنهض همة شبابها لنشر أفكارهم في العالم الذي غادرته الاشتراكية.

في الحرب التي تدور اليوم في أوروبا، لا تبدو صورة العدو واضحة بالدرجة التي يرغب بها العالم الليبرالي، فالعدو اليوم أبيض وأشقر مثل جميع الأوروبيين، وليس اشتراكياً أو مسلماً، لذلك كان لا بدّ من إيجاد عدو جديد؛ إنه الآخر الذي يرفض قيم الحرية الليبرالية كما تعبّر عنها نظريات وقوانين النوع الاجتماعي.

في الطريق لخلق هذا العدو حُيّدت الكنيسة الكاثوليكية من خلال الهجوم عليها وكشف قصص عن استغلال جنسي للأطفال على مدى سنوات، في كندا كشفت الحقائق التي تربط هذه الكنيسة بإبادة العديد من أطفال السكان الأصليين، وتمّ الكشف عن مقابر جماعية في العديد من المدن الكندية. يبقى تأثير الكنيسة الأرثوذكسية متواضعاً في العالم الغربي، وقد تمّ ربطها بشكل صميم بالقيادة الروسية واتهامها بدعم العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا. أما الإسلام فهو المتهم الدائم عندما يتعلق الأمر بالحرية والديمقراطية.

يتجاوز الأمر البعد الديني، ليضرب عميقاً في الثقافات الوطنية في محاولة جديدة لطمسها لصالح الثقافة “المعولمة” الواحدة. القوانين الجديدة تحاول تغيير اللغات بحذف ما يشير إلى التذكير والتأنيث في هذه اللغات. على الأقل نعرف أن العربية والإسبانية والفرنسية تعتمد التأنيث والتذكير في مخاطبة الأشخاص، تجري المحاولات اليوم لتعديل اللغتين الإسبانية والفرنسية، وفي الوقت نفسه يُلغى من اللغة الإنكليزية ما يشير إلى التأنيث والتذكير. تفرض الكثير من جامعات العالم على طلابها الالتزام بعدم استخدام التذكير والتأنيث في دراستهم الجامعية، بغض النظر عن الخلفية الثقافية لهؤلاء الطلاب.

عالم يتحدث بلغة موحّدة في مضمونها هو العالم الذي تحاول الليبرالية الوصول إليه. لم تعد الأصوات التي تعبّر عن اللغة مهمة ما دام المضمون ينسجم مع المعايير الليبرالية، ولأن اللغة هي محتوى التفكير، فلن يحتاج الأمر لأكثر من جيلين لتصبح الثقافة الليبرالية “المعولمة” هي السائدة، وتتراجع الثقافات الوطنية لتتحوّل إلى طقوس في المناسبات، ووصفات للطبخ.

منذ مطلع القرن العشرين والكتّاب والشعراء يركّزون على أهمية اتقان اللغة الأم، وتطويرها حتى لا تتراجع أهميتها وتحلّ محلها اللغات الحية، فتجد الشعوب أنها استبدلت ثقافاتها بثقافات غريبة. لكن هذه العملية سارت ببطء منذ مطلع القرن الماضي، وقد لاحظها الشاعر حافظ إبراهيم وكتب عنها قصيدته “اللغة العربية”.

منذ دخولنا عصر الإنترنت ووسائل التواصل تسارعت العملية بشكل لم يتمكّن معه الأفراد المهتمون باللغة من تداركه، وأصبح مطلوباً من الجهات الرسمية خاصة التعليمية منها فرض قوانين للحفاظ على اللغة الأم كلغة للحديث والعمل والتدريس، وأن تفرض القوانين الخاصة بذلك على جميع المؤسسات التعليمية داخل البلاد. في الوقت نفسه على المشتغلين في علوم اللغة الارتقاء إلى مستوى التحدّي والابتعاد عن الفكر المحافظ المنفر والذي يجعل من تعلّم اللغة الأم عقوبة، وكأنّ على الطالب المبتدئ إدراك جميع علوم اللغة قبل تخرّجه من المدرسة.

جبهة الثقافة من أصعب جبهات المقاومة، رغم أن العدو واضح المعالم، لكن الفعل المقاوم لا بدّ وأن يتوجّه بالدرجة الأولى نحو أبناء الوطن، وهؤلاء لا يمكن معاملتهم كعدو، لذلك لا بدّ من ابتكار وسائل للحوار والتواصل تعيد لأبناء الأمة اعتدادهم بالأمة التي ينتمون إليها، وتدفعهم نحو العمل بتلقائية لنهضة ثقافتهم الوطنية.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 19 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع وجهات وقضايا   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

21 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 21

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28