] فلسطين باقية في عصر التراب - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 19 أيار (مايو) 2018

فلسطين باقية في عصر التراب

نسيم الخوري
السبت 19 أيار (مايو) 2018

لست فلسطينيّاً، لكن ما أن وضعتني أمي في العالم من جنوبي لبنان في نيسان/‏إبريل 1948 حتّى سمعت أبي ينهر أخي الأكبر عند حلول الظلام قائلاً: أسدلوا الستائر. نحن قرب فلسطين والحروب ستطول.
سبعة عقود وفلسطين مقيمة في السلوك والفكر والحبر. دمغة الوجود الجدّي ترافقنا ولو تشبّعت أجسادنا وألف حبرك الحياة الممزوجة بالظلم وانتفاء العدالة وتفشي المستحيلات في العلاقات الفردية/‏ الدولية والتواءات عقل العالم ولو جبناه تجوب ومحافله العظمى طولاً وعرضاً.
لا أضيف إلى المشهد هناك حيث لا الفواصل بين الحياة والموت. اعتادت الجثث أن تتراكم على المعابر والحدود وتتكوّم فوق الأكفّ لتظهر في الصور ولا قيمة للكتابة الجوفاء في الأرجاء. لا عظام تحملها بل آذان تسمعها وعيون تلحقها بنشوة التوق المرضي إلى سلطة الكلمة الواقعة في حمّى الشاشات.
صار تحقيق الصور القوية الصادمة موضة العصر بعدما كانت القوة لمن يزرع الكلام ليحصد السلاح.
أقول زراعة الكلام مع الوعي بأنّ حضارة العالم صارت تزرع النباتات في الفضاء وفي الماء لأبقي بفلسطين مزروعة في التراب المقدّس نموذجاً للانتماء في مشاعية الكرة.
أكتبه خارجاً من صراع استهلك الفجر بيني وبين حبري/‏عقلي/‏جسدي/‏عروبتي بحثاً عن الكتابة من غير فلسطين وعن وقع مقالة في فلسطين. ازدواجية الصراع بين اندفاعة المشاعر والعقل وحركات الأصابع فوق الأزرار وبين المحابر والأقلام العربيّة. كانت الخلاصة للنفوس والنصوص باستحالة خروج الضاد والأبجديات من فلسطين ولو تشتّتت أجيالها لنزرع في دماء البشر وذكائهم وألسنتهم المتبلبلة الواسعة في الأرض.
أليس انسحاب الكلام عنها هو الوجه المشابه للكلام عن اللغة من دون كلمات، أو القول بالمكتبات من دون كتب، أو تشبيه الكتب بالحقول الجرداء التي ما عادت تصلح للأبجديات، وذلك في بحث جميل أحاول الربط بين الكتابة والفلاحة:
حاول الكاتب الفرنسي ريجيس دوبريه الجمع بين المحراث والريشة، فذكر أن كلمة page هي صفحة الكتابة تأتي من pagus في أصلها اللاتيني، وهو ما لم أقع عليه. وقعت على مصطلح pagina الذي يعني «الحقل المزروع» وأستخدمه هنا بمعنى مقال أو المقالة. إنّ مصطلح الكتابة باللغة اليونانية هو boustrophédon وهو قسمان: bous وتعني الأبقار والثيران بالعربيّة، وstrophèdon وتعني الدوران من اليسار إلى اليمين وبالعكس. ولا أستبعد عند تشبيه الأثلام بسطور الكتابة والحقول بصفحات الجريدة أو الكتاب، أن يكون مصطلح «الفدّان» باللغة العربية قد نقل عن Phédon
باليونانية مع تبديل بسيط. يشقّ الفدّان بنيره ومحراثه وخلفه الفلاح يقوده ويعبر به في أرض العرب والإسلام وفلسطين وتبرز أثلامه مستقيمة لا تنزل متعبة إلى تحت ولا يصيبها الاعوجاج ولا التبعثر ولا الفوضى. إنّها بذرة الحضارة الزراعية التي جعلت حضارة الثقافة والكتابة والتعليم والتطور تخرج منها وتقتدي بها.
ما هذا الإنسان القاييني الدوّار بتاريخ يعشق الدماء ويحوّل الدول والشعوب والأفراد بلا حدود أو سلطات وبلا حضارات يكاد يسقط التعبير فيها عن مآسي الأرض وفي رأسها فلسطين؟

يبدو العالم اليوم من فلسطين شرقاً مخطوطاً وغرباً مطبوعاً وشاشةً أمريكيّةً وعالمية كبيرة وطاقاتٍ تواصليّةً ضخمة، وهي قارات أربع تتواجد معاً، يتنافس فوق أرضها الأسطوري والعقلي و«الفيديوي» و«الإنترنتي» في شتّى الأفكار والمجالات. تتنوّع النصوص في مبالغاتها وهواجسها باختلاف الأفراد والجماعات، لكن الكتابة تبدو ولادة متجدّدة تتجاوز كلّ شيء لكنها تحتاج صوت أبي الغائب:
أسدلوا الستارة فنحن في حروب قد تطول قروناً كما قال عمّي فارس الخوري في مجلس الأمن في ال 1948.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 45 / 2330092

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع أقلام   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

23 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 25

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28