] الجينوم كمصدر أوَّلي لكتابة التاريخ - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
السبت 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2019

الجينوم كمصدر أوَّلي لكتابة التاريخ

في التكوين الجينومي لشعوب المشرق
السبت 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2019

يصنّف المؤرّخون المصادر التي يعتمدونها في بناء رواياتهم التاريخية، ما بين أوَّلية وثانوية. تشمل الأولى الآثار المادية، الوثائق، المذكرات الشخصية والسير الذاتية، المخطوطات، المدوَّنات والسجلات أياً كان حاملها المادي (نقوش حجرية، رُقَم طينية، بُرديات.. وصولاً إلى الوسائط الحديثة) أو أي مصدر آخر للمعلومات معاصر للحدث، أو للفترة موضوع الدراسة. فيما تشمل الثانية الروايات المتأخرة عن زمن الأحداث، المعتمِدة على التواتر، شفهياً كان أم كتابياً. وبطبيعة الحال، فإن قيمة المصادر الأولية تفوق، من حيث المبدأ، الثانوية منها في موثوقيتها ومصداقيتها، آخذين بعين الاعتبار مدى موضوعيتها وحياديتها إزاء الأحداث موضع الدراسة. وبفضل تطور علم الآثار (الأركيولوجيا) خلال القرنين الماضيَين، أمكن تحقيق طفرة هائلة في حجم معارفنا التاريخية، واستكشاف حضارات موغلة في القدم، كالنطوفية، السومرية، والمصرية... من مصادرها الأولية. ثم جاء علم الإنسان (الأنثروبولوجيا) ليوسع نطاق الحفريات الأثرية لتشمل اللغة والمعتقدات الدينية والفلكلور.. بما يصل الحاضر بالماضي، ويفتح آفاقاً جديدة لفهمهما.

«الهوية المتجذّرة» (أليكس فالك تشانغ)

خلال العقدين الأخيرين، وبفضل التقدم الكبير في تقنيات تحليل الحمض النووي، برز علم الآثار الجينومي genomic archaeology، كفرع من الأنثروبولوجيا [الحيوية] الجُزيئية molecular anthropology، ليوفّر أدوات غاية في الموثوقية لفهم أصول الأفراد والجماعات البشرية، وارتباطاتها القرابية، وحركات اندماجها وتشعبها وهجراتها المتكررة على امتداد الكوكب، منذ أقدم العصور. ومن شأن الأخذ باستخلاصاته، أن ينقض أو يؤكد أو يعدّل الكثير من الروايات التاريخية المتداولة، أو يضيف أبعاداً جديدة على فهمنا لها. ولئن كان النظام القضائي قد أعطى درجة القطعية للأدلة المستخلصة من تحليل الحمض النووي، في مسائل حساسة مثل، تحديد هويات الجُناة وضحاياهم، أو أنساب المواليد، فلماذا لا يُقِرّ المؤرخون أيضاً بمرجعيتها!
بيد أننا لا نلحظ بعد، إقبالاً يُذكر من جانب علماء التاريخ على الاستئناس بمخرجات التحليل الجيني كمصادر يعوَّل عليها في بناء أو نقد الروايات التاريخية. ويمكننا أن نعزو ذلك إلى جهل (أو استهانة) معظمهم بالقيمة الحقيقية التي يمكن أن يضيفها التحليل الجيني على أبحاثهم، وتهيُّبهم من الخوض في مجال علمي تقني يبدو لهم شديد التعقيد والإبهام، وإلى افتقار العاملين في هذين الحقلين، إلى الأطر الذهنية والمؤسسية للتعاون فيما بينهم.
الهدف من هذه المقالة التمهيدية تقديم عرض مبسّط لبعض أساسيات الأدوات والمناهج والمصطلحات التي يعتمدها علم الجينات، وسبل توظيفها لسبر أغوار التاريخ، بدون الغوص عميقاً في تعقيدات البيولوجيا والكيمياء الحيوية. وذلك لتمكين القارئ من فهم آليات عملها، وتقدير مدى فائدتها وموثوقيتها بنفسه. على أن يعقبها مقال قد يضيء على بعض جوانب تاريخ منطقتنا، وتشكّلها الديموغرافي منذ أقدم العصور، بالاستناد إلى آخر الأبحاث الجينية ذات الصلة.
يمكننا، بالكثير من التبسيط والتجريد، وبحدود الغرض الذي نحن بصدده هنا، تخيّل الحمض النووي DNA، على شكل سلاسل طويلة من الشيفرة الوراثية المُدوَّنة بأبجدية بيوكيميائية خاصة، مؤلفة من زوجين متلازمين من «الحروف»، تُسمى النيوكليوتيدات، هما: (A-T) و (C-G). هذه الشيفرة التي تضم أكثر من 3 بلايين نيوكليوتيد، تختزن في بعض ثناياها، كل المعلومات المحدِّدة للخصائص البيولوجية الفردية للإنسان (أو أي كائن حي)، بل وتسجل، على نحو ما، الكثير من وقائع رحلة تطور الحياة على مدى بلايين السنين. وثمة نسخ كاملة منها في كل خلية من خلايا الجسم.
يتوزع معظم الحمض النووي في خلايا الإنسان على 23 زوجاً من الجدائل تسمى الصِبغيات (الكروموزومات)، تتمركز في نواة الخلية. نصف الحمض النووي في كل زوج صبغي يرثه الإنسان من أمه، والآخر من أبيه. وتكون هيكليتا الصِبغيين في كل من هذه الأزواج، متماثلتين عند الأنثى والذكر، ما عدا الزوج الأخير (رقم 23) في خلايا الذكر، حيث يتألف من صبغيين غير متماثلين، أحدهما الصبغي الأنثوي X، والثاني الصبغي الذكري Y، فيما تحافظان على تماثلهما في خلايا الأنثى (XX). أما الكمية المتبقية من الحمض النووي خارج النواة، والضئيلة جداً، فتتوزع على ما يسمى الجُسيمات الكوندرية (الميتوكوندريا) ويرمز له اختصاراً mtDNA. ويُطلق على مجمل محتوى الخلية من الحمض النووي اسم «الجينوم».
يمكننا، ولأغراض الدراسة الأنثروبولوجية، تقسيم الجينوم إلى ثلاثة مباحث، وذلك بحسب طبيعة المعلومات التي يبوح بها كل منها:
• الصبغي الذكري Y الذي يتوارثه الذكور فقط، أباً عند جد، ما يجعله أداة قاطعة في تتبع الأنساب الأبوية.
• الحمض النووي الميتوكوندري الذي يرثه الذكور والإناث، من أمهاتهم حصراً، ويستخدم في تتبع الأنساب الأمومية.
• الحمض النووي الجِسماني autosomal DNA الذي تحتويه بقية الصبغيات (اللاجنسية) الاثنتين والعشرين، ويشكل أكثر من 99% من حجمه الإجمالي، موزع على أكثر من 20,000 جينة، ويرثه الإنسان من كلا والديه مناصفة، وهو يتيح للباحث دراسة مدى تقارب أو تمايز الخصائص الجسمانية والإدراكية للأفراد والجماعات البشرية، وتاريخ تزاوجها وتفرعها، وتحديد القرابات الأفقية في شجرات الأنساب.

نسل A هذا، كان الوحيد الذي حظي بنعمة اجتياز ما يعرف بالاختناقات الجينية الكثيرة التي مر بها الجنس البشري

عند انشطار الخلايا، سواء لأغراض النمو أو ترميم النُسُج، يحصل كل من الخليتين الناتجتين على نسخة كاملة من الأزواج الصبغية، إلا في حالة الخلايا العروسية، التي تعطي بانقسامها أعراساً: بويضات للأنثى، ونطافاً للذكر. ففي كلتا هاتين الحالتين، يحصل العِرس الناتج على نصف الأزواج الصبغية (23 صبغياً مفرداً). وهكذا تكون البويضات الناتجة متماثلة في الخارطة الصبغية حيث تنتهي جميعاً بالصبغي X. أما النطاف، فتتوزع مناصفة بين ما ينتهي منها بالصبغي X، وتلك التي تنتهي بالصبغي Y. وإذا ما قُدر لأي من هذه الأعراس المشاركة في عملية إلقاح مع عِرس من الجنس الآخر، تندمج نواة النطفة في نواة البويضة لإنتاج بويضة مُخصَّبة تحتوي على 23 زوجاً صبغياً، لتتطور لاحقاً إلى جنين أنثى إذا اتفق أن كان الزوج الصبغي الأخير فيها من النمط XX، أو جنين ذكر إذا كان الزوج الصبغي الأخير فيها من النمط XY. أما الدنا الميتوكوندري mtDNA في البويضة المخصبة، فيأتي حصراً من البويضة. وهكذا، يحتوى جينوم البويضة المخصبة على كل الشيفرة البرمجية اللازمة لتعضّيها وتطورها إلى إنسان مكتمل.
بيد أن استنساخ سلاسل الحمض النووي خلال كل تلك العمليات، التي تتكرر بلايين المرات في اليوم، لا بد أن يشوبها بعض الأخطاء من وقت لآخر، بتأثير عوامل بيئية وذاتية متنوعة، بما قد يؤدي إلى استبدال نيوكليوتيد بآخر مختلف عما في النسخة الأصل، أو إضافة أو حذف نيوكليوتيد ما من السلسلة، وهو ما يسمى «الطفرة» mutation. وهي تحصل بمعدل مرة في كل حوالى 1000 نيوكليوتيد. إذا حصلت الطفرة في خلية عادية، فإنها تظل حبيسة جسد صاحبها، ولا تورَّث لنسله. أما إذا حصلت في خلية عروسية، فثمة إمكانية لتوريثها لأجيال تالية. قد تكون الطفرات ضارة أو نافعة بهذا القدر أو ذاك، وقد تكون محايدة تماماً. ولكن إذا ما قُدِّر لها اجتياز امتحان الانتخاب الطبيعي، والتكاثر من جيل إلى جيل، لتتجاوز نسبة انتشارها عتبة 1% ضمن جماعة بشرية ما، عندها سيمكن اعتمادها كشكل محتمل variant للجينة الأصلية التي انبثقت عنها، والتي لا تختلف عنها سوى في نيوكليوتيد واحد. وتُدرَج، عندئذٍ، كحالة للتعددية المورفولوجية للجينة Single Nucleotide Polymorphisms - SNP أو «سنيب».
يتطابق البشر في نحو 99.9% من الجينوم؛ ما يجعلنا مختلفين أحدنا عن الآخر، هو تراكم نحو ثلاثة ملايين من هذه الطفرات (السنيبات) في الجينوم، على مدى مئات آلاف السنين من عمر الجنس البشري. ولذلك فإن دراسات الأنثروبولوجيا الجينية تنصبُّ على هذه الطفرات تحديداً، باعتبارها علامات مرجعية فارقة يعوَّل عليها في تتبع الأنساب والقرابات، وحركات تمازج وتشعّب الجماعات. فكلما زادت كثافة النيوكليوتيدات المتباينة في مقطعين متناظرين من الجينوم بين شخصين، كانت الفترة الزمنية التي تفصلهما عن أحدث سلف مشترك لهما، أطول، ودرجة قرابتهما أضعف.
فمثلاً، يتعرض الصبغي Y، في المتوسط، لطفرتين اثنتين في الجيل الواحد. ويشير وجود النسق المتسلسل عينه من هذه الطفرات في الصبغي Y لمجموعة من الذكور، قطعياً، إلى انحدارهم من جد مشترك ورثوا عنه ذلك النسق. وبمعرفة عدد تلك الطفرات، يمكن تقدير الزمن الذي عاش فيه ذلك الجد. ويطلق على مجموعة الذكور الذين ينحدرون من جد مشترك، وفقاً لهذا المعيار، اسم المجموعة الفردانية الذكرية أو الأبوية Y-DNA haplogroup.
ولدى تمثيل كل تلك المجموعات وتفرعاتها المكتشفة، على شكل شجرة أنساب أبوية، وُجِد أن سائر الذكور الأحياء حالياً ينحدرون من صلب جد واحد، يُقدَّر أنه عاش في أفريقيا قبل نحو 236 ألف سنة (رأس المجموعة الفردانية الكبرى A). وفيما تطلق الصحافة، من باب الإثارة والمجاز، اسم «آدم» على ذلك الجد، فإنه من المؤكد أنه لم يكن أول رجل يأتي إلى هذه الدنيا، ولا كان الرجل الوحيد في زمانه؛ بل هو، ببساطة، أحدث سلف تلتقي عنده أنساب المجموعات الفردانية الأبوية الحية حالياً. ذلك أن نسل A هذا، كان، فيما يبدو، الوحيد الذي حظي بنعمة اجتياز ما يعرف بالاختناقات الجينية الكثيرة التي مر بها الجنس البشري. وينتج الاختناق الجيني genetic bottleneck عن انخفاض حاد في عدد السكان (نتيجة الكوارث البيئية أو انتشار الأوبئة..)، قبل أن يعود إلى النمو ثانية بتكاثر من بقوا على قيد الحياة. وينتج عن ذلك تقلص شديد للتنوع الجيني للجماعة الناشئة بعد الاختناق، مقارنةً بما كانت عليه قبله. أمر مماثل يحصل عندما تنفصل جماعة صغيرة جداً من البشر جينياً عن محيطها، سواء نتيجة لهجرتها إلى مكان بعيد ومعزول، أو اعتناقها لعقيدة دينية، أو تقاليد اجتماعية تقتضي عدم تزاوجها مع الأغيار.
بالمثل تماماً، يمكننا من خلال تتبع سلاسل طفرات الدنا الميتوكوندري، الموروث عن الأم، تعريف مجموعات فردانية أمومية أو ميتوكوندرية mtDNA haplogroup، وصولاً إلى رسم شجرة نسب أمومية للبشر الحاليين. وقد وجِد أن الفروع الرئيسة لهذه الشجرة، والتي يقدر عددها ببضع عشرات، تلتقي جميعاً عند جذر المجموعة الفردانية الأمومية الكبرى (L)، أو ما يسمى «حوّاء الميتوكوندرية»، وهي أقرب جدة تلتقي في رحمها الأنساب الأمومية لكل البشر الأحياء حالياً. ويقدر أنها عاشت أيضاً في أفريقيا، قبل نحو 160 ألف سنة، وهي لم تكن زوجة المدعو «آدم» المذكور آنفاً.
بيد أن الانتساب إلى إحدى تلك المجموعات الفردانية، أمومية كانت أم أبوية، يكاد لا يفيدنا بشيء في تحديد الخصائص الجسمانية أو «العرقية» لصاحبه. فخلافاً للسردية التوراتية التي تنسب «الأعراق» المختلفة إلى آباء مؤسسين من أبناء نوح، سام وحام ويافث.. فإن تكويننا «العرقي» هو حصيلة لمجمل موروثنا الجيني من كل أجدادنا وجداتنا، من الجهات الأربع، ولا تقتصر فقط على أجداد آبائنا لآبائهم، أو جدات أمهاتنا لأمهاتهن. وما ذاك الجد وتلك الجدة، اللذان ننتسب إلى المجموعتين الفردانيتين المنسوبتين إليهما، إلا رافدان متواضعان للحوض الجينومي الخاص بكل منا.
وبدلاً من الحديث عن «أعراق» راسخة ذات حدود بيِّنة وأبعاد ميتافيزيقية، يظهر تحليل الجينوم أن التشابهات والاختلافات بين الجماعات عادة ما تكون نسبية، ومتدرّجة على امتداد الجغرافيا، أكثر من ارتباطها بحدود إثنية أو لغوية أو سياسية أو دينية. فمثلاً، نجد أن التركي هو أقرب جينياً إلى الأرمني والجورجي واليوناني، منه إلى شعوب «شقيقة»، ناطقة بلغات تركوية في آسيا الوسطى، كالأويغور والقرغيز. وأن العربي المشرقي، أقرب جينياً إلى جاره الإيراني والتركي منه إلى أشقائه من عرب جنوب شبه الجزيرة أو المغرب.

تتريك الأناضول وسكّان أميركا الأصليين
لدراسة التحولات في التكوين الجينومي للشعوب والجماعات والأقاليم عبر التاريخ، وفضلاً عن تحليل الحمض النووي المستخرج من عينات مختارة من السكان الحاليين، يلجأ الباحثون أيضاً إلى تحليل الحمض النووي المستخرج من الرُفات والمومياءات في المدافن القديمة. حيث تحدد أعمارها باستخدام تقنية الكربون المشع C14، ويستخلص منها ما يمكن استخلاصه من معلومات، بقدر ما تسمح به جودة حالتها الكيميائية. ثم تحفظ نسخ إلكترونية من سلاسلها النيوكليوتيدية في قواعد للبيانات، للرجوع إليها في دراسات أخرى لاحقة، وعلى أمل أن يتيح تراكمها ذات يوم، إمكانية وضع خرائط وأطالس جينوغرافية تغطي شتى مناطق العالم، في مختلف العصور. كذلك فإن نطاق بحوث الأنثروبولوجيا الجينية لا يقتصر على الإنسان، بل يطال أيضاً الحمض النووي عند الحيوانات التي ارتبط بها معاشه عبر التاريخ، كالماشية والخيول والكلاب، بل وحتى القمل وجراثيم الأوبئة التي تصيبه، فضلاً عن مزروعاته من النباتات. ومن شأن مثل هذا الطيف العريض والمتكامل من البيانات، حل الكثير من الأحجيات في تاريخ الجنس البشري.
فمثلاً، على مدى معظم القرن العشرين، كان ثمة جدل بين الأنثروبولوجيين عما إذا كان انتقال الزراعة وتربية الماشية، من المشرق إلى أوروبا، قبل نحو 9000 سنة، كان بفعل هجرات بشرية، أم كمجرد انتشار تدريجي للمعارف والممارسات الزراعية من خلال التفاعل الثقافي. ولكن تراكم الأبحاث الجينية منذ مطلع السبعينات، قدم القرائن على حصول هجرات كبيرة للمزارعين ومربي المواشي من شمال الهلال الخصيب إلى البلقان وجنوب ووسط أوروبا، مصطحبين معهم حيواناتهم الداجنة وبذور مزروعاتهم. بيد أن انتشارها اللاحق من هناك إلى مجتمعات الصيادين وجامعيْ الثمار في شمال أوروبا، تمّ أساساً عبر التأثير الثقافي وانتقال المعرفة.

«حوّاء الميتوكوندرية» يقدر أنها عاشت أيضاً في أفريقيا قبل نحو 160 ألف سنة وهي لم تكن زوجة المدعو «آدم»

كذلك أظهرت دراسات جينومية عديدة، أن تتريك الأناضول البيزنطي ما بين القرنين الحادي والثالث عشر، كان أساساً حصيلة تحوّل لغوي وديني لسكانه الأصليين من «الروم»، تحت تأثير أقلية تركمانية مُهيمنة، وليس بفعل تَغيُّر ديموغرافي جذري، ناجم عن استيطان إحلالي كاسح، أو تطهير إثني لسكانه. فقد تراوحت تقديرات الأبحاث التي تناولت هذا الموضوع، أن البصمة الجينومية التي تركها الفاتحون التركمان في سكان الأناضول الحاليين، ما بين 9-21% فقط. (Alkan et al. 2014) (Hodoğlugil et al. 2016)
وعلى النقيض من نموذج تتريك الأناضول، فقد أبرز التحليل الجينومي، البعد الجندري للإبادة العرقية التي تعرّض لها سكان أميركا الأصليين. فمثلاً، توصلت إحدى الدراسات التي تناولت سكان كوبا الحاليين، إلى أن أصول المجموعات الفردانية الأمومية التي ينحدرون منها هي: 33% أميركية أصلية، 45% أفريقية، و22% أوروبية. بالمقابل، وجِد أن أصول المجموعات الفردانية الأبوية، كانت: 80% أوروبية، 20% أفريقية، و0% أميركية أصلية (Mendizabal et al. 2008). ويعني ذلك، أن المستوطنين البيض الأوائل، كانوا قد أبادوا الذكور الأصليين عن بكرة أبيهم، وأبقوا على حياة بعض نسائهم لتلبية احتياجاتهم الجنسية. أما بالنسبة للعبيد الأفارقة، فإن الفارق بين نسبة مساهمتهم في خط النسب الأمومي (45%)، وخط النسب الأبوي (20%) يشير إلى أن أكثر من نصف ذكورهم حُرموا من التزاوج والتناسل بسبب استحواذ الأسياد البيض على حصتهم الطبيعية من النساء الأفريقيات؛ هذا إذا افترضنا أن مجتمع العبيد كان متوازناً جندرياً في الأساس. ولن تبدو المأساة أقل هولاً في مناطق أخرى من القارة، مثل أنتيوكيا (أنطاكيا) الكولومبية، حيث تصل نسبة حصة الأوروبيين من الأنساب الأبوية إلى 94%، مقابل 90% من الأنساب الأمومية للسكان الأصليين. ويمكن تعميم ذلك بهذا القدر أو ذاك على معظم مناطق أميركا الجنوبية والوسطى (Carmona et al. 2003).

خاتمة
لا تزال ثورة التحليل الجينومي في بداياتها. وهو سيحتاج إلى بعض الوقت لصقل أدواته وتدقيق مناهجه. لذلك لا ينبغي التسرع باعتماد استخلاصاته كحقائق نهائية. وتتمثل أبرز المعوقات أمام تحسين مخرجاته، في محدودية العينات التي يتناولها، سواء في ما يتعلق بحجمها، أو بمدى أمانة تمثيلها للجماعات المستهدفة بالدراسة. وكذلك صعوبة الحصول على عينات حمض نووي من رُفات موغلة في القدم، وصالحة للتحليل، من المناطق ذات المناخ الحار والرطب، أو الحصول على ما يكفي منها. ولذلك، سنجد أن الكثير من الأحداث المفصلية في التاريخ الجينومي، تُنسب إلى أوروبا أو سيبيريا، لمجرد أن مناخهما البارد حفظ لنا قدراً أكبر وأقدم وأكثر جودة، من أحماض الأزمنة الغابرة النووية.
وفضلاً عن المعوقات التقنية، ثمة معضلة أخرى تتمثل في تحيّزات وأهواء بعض الباحثين، وتصوراتهم المسبقة عن مواضيع وأطر البحث، تبعاً لانتماءاتهم الأيديولوجية أو الإثنية. فمثلاً، تجد في الكثير من الدراسات حضوراً مبالغاً به لليهود كجماعة عرقية، ومحاولات لإسقاط الأساطير التوراتية والاستشراقية على الخرائط الجينية. كذلك يُشتَمّ من بعض الأبحاث نزوعها إلى ممالأة مزاعم هوياتية أقلوية وانعزالية، مثل تضخيم الفوارق الجينومية بين البربر والعرب، وبين الكرد ومحيطهم، أو الزعم بأن اللبنانيين، أو بعض طوائفهم، أقرب جينياً إلى أوروبا منهم إلى العرب.
قبل بلايين السنين من تدشين أجدادنا السومريين لحقبة تدوين التاريخ الإنساني على رُقم الطين، كانت العضوية الحية قد بدأت في تدوين وقائع رحلة تطورها بنفسها، من وحيدات الخلية الأولى صُعوداً إلى الإنسان العاقل، بلغتها البيوكيميائية المُشفَّرة في جدائل «الجينوم». وها نحن نضع أيدينا أخيراً على مفاتيح «صندوقها الأسود» ذاك. فهل سنرقى في تناولنا لمحتوياته إلى تعميق إدراكنا لمدى تأصلنا وتقاربنا، وتفاهة ما يفرقنا، أم سنتخذ منها متاريس جديدة في حروب الهويات؟!

في التكوين الجينومي لشعوب المشرق

بحكم موقعه عند ملتقى القارات الثلاث للعالم القديم، شكّل المشرق الكبير (غرب آسيا) محطة رئيسة في طريق هجرة الإنسان القديم من القرن الأفريقي، قبل نحو 70 ألف سنة، لينتشر بعدها نحو مختلف أصقاع الأرض. وتؤكد الدلائل الجينية أن أسلاف غالبية سكان أوراسيا وأميركا وشمال وأفريقيا وشرقها، كانوا قد عاشوا في هذا المشرق لآلاف السنين قبل أن يهاجروا في موجات إلى مواطنهم الحالية، مدفوعين بالتغيرات المناخية، أو سعياً وراء موارد أوفر للمعاش. وقد مرّ التكوين الجينومي لشعوب المنطقة بتحولات كثيرة قبل أن يصل إلى صورته الراهنة؛ بدءاً من اكتشاف الزراعة وتدجين الحيوانات قبل حوالى 12000 سنة، ومروراً بتعاقب الإمبراطوريات الكبرى منذ العصر البرونزي، وحتى الهجرات الكثيفة إبان الاجتياح المغولى، وأواخر الحقبة العثمانية.

من أنماط الحياة في الهلال الخصيب (ستيفانو بيانشيتي)

وفيما يشكل المشرق الآن، إقليماً جينومياً واحداً متجانساً نسبياً (انظر الخارطة 1)، فإنه لم يكن كذلك دائماً. فقد أظهرت الحفريات الجينومية لفريق من جامعة هارفرد (Lazaridis et al. 2016) أن المجتمعات المشرقية الثلاثة، في كل من سوريا والأناضول وغرب إيران (جبال زاغروس) كانت حتى مطلع العصر الحجري الحديث، على قدر كبير من التباين الجيني، يرقى إلى حد التمايز العرقي البَيِّن. وأن انتقال تلك المجتمعات من نمط المعاش القائم على الصيد والتقاط الثمار، إلى الزراعة وتربية الحيوانات، قد جرى، بداية، عبر تحول ذاتي وتدريجي في الفترة ما بين 10000-9000 ق.م، وليس نتيجة لهجرات وافدة حملت معها النمط الجديد من خارجها.
بيد أن النمو الديموغرافي الكبير الناجم عن وفرة الغذاء التي أتاحتها الثورة الزراعية، وما نتج عنه من سعي محموم للاستحواذ على أراضٍ جديدة تصلح للزراعة و/أو رعي الماشية، والتغيرات المناخية، أدت إلى إطلاق موجات متتالية من الهجرات في كل الاتجاهات. ففضلاً عن الهجرات المتبادلة ما بين تلك المجتمعات الثلاثة، انطلقت هجرات أخرى نحو خارجها أيضاً؛ من الأناضول شمالاً وغرباً نحو أوروبا التي كان الجليد قد انحسر عنها للتو، ومن جنوب الشام انطلقت القبائل الرعوية نحو شبه الجزيرة العربية، والفلاحون والرُعيان نحو شمال وشرق أفريقيا، ومن إيران شرقاً نحو جنوب آسيا، وشمالاً إلى السهوب الأوراسية، ناشرة معها نمطَيْ معاشها الزراعي والرعوي، وكذلك جيناتها وثقافتها. وهكذا، وعلى مدى الآلاف الخمسة التالية، انتشر المشرقيون، ومعهم نباتاتهم وحيواناتهم المُدجَّنة، على امتداد غرب أوراسيا (غرب آسيا وكل أوروبا) وأرجاء أخرى من العالم. فيما أدى التزاوج بين الفلاحين والرُعيان الوافدين مع الصيادين المحليين، إلى تمازج مجتمعات تليدة كانت في الأساس متباعدة جغرافياً وجينومياً، وهو ما يفسر التجانس الجيني النسبي لسكان غرب أوراسيا الحاليين (انظر الخارطة 2). كذلك أظهر البحث، الذي شمل عيّنات الحمض النووي DNA المستخرج من رُفات 44 فرداً عاشوا في أصقاع مختلفة من المشرق على امتداد الفترة ما بين 12000-1400 ق.م، أن الفلاحين السوريين الأوائل، استمدوا نحو ثلثي جيناتهم من صيادي الحضارة النطوفية السورية (12500-9500 ق.م)، والثلث الباقي من فلاحي الأناضول. أما الفلاحون الأوائل في غرب إيران، فيبدو أنهم انبثقوا أساساً من الصيادين وجامعيْ الثمار المحليين، الذين كانوا قد انفصلوا عن جيرانهم الأناضوليين، ربما بُعيد خروجهم من أفريقيا قبل 46000-77000 سنة، وكانوا يبدون وقتها أقرب جينياً إلى سكان باكستان وأفغانستان، والزرادشتيين الإيرانيين الحاليين خصوصاً (Broushaki et al. 2016).
بيد أن الصورة ستبدو مختلفة جداً خلال العصرين النحاسي (الألف الخامس ق.م) والبرونزي (3300 ق.م). فسكان غرب إيران في العصر النحاسي كانوا نتاجاً لتمازج أسلافهم المحليين من العصر الحجري الحديث (سنسميه اختصاراً «النيوليتي») مع فلاحين سوريين وصيادين من القوقاز. في المقابل، نجد أن 44% من سوريي العصر البرونزي، و33% من أناضولييْ العصر النحاسي، كانوا ينحدرون من أصول غرب إيرانية. كما أظهر البحث تشابه التكوين الجينومي لسكان إيران في العصر النحاسي، مع كلّ من سكان أرمينيا في العصرين النحاسي والبرونزي، والأناضول في العصر النحاسي، وإن بدرجات متفاوتة.
وخلص بحث آخر (Harney et al. 2018) تناول الحمض النووي المستخرَج من رُفات 22 شخصاً وُجِدت قبورهم قرب بلدة البقيعة في الجليل الأعلى (4500-3900 ق. م) إلى أن سكان جنوب سوريا في العصر النحاسي، كانوا يستمدون نحو 57% من جيناتهم من أسلافهم سورييْ العصر النيوليتي (النطوفيين)، و26% من جيرانهم أناضوليي النحاسي، و17% من إيرانيي النحاسي. أما في العصر البرونزي، فكان توَزع تكوينهم الجينومي: 58% من سوريا النيوليتي، 42% من إيران النحاسي، والقليل جداً أو لا شيء من الأناضول النيوليتي. ويدلّ وجود العنصر الإيراني النحاسي في كلتا الحالتين، إلى استيعاب جنوب سوريا لهجرات كبيرة من الفلاحين الإيرانيين خلال أو قبل العصر النحاسي.
وفي العصر البرونزي أيضاً، أظهرت دراسة أخرى (Haber et al. 2017) شملت الحمض النووي المستخرج من رُفات 5 أفراد من سكان مدينة صيدا في ذلك العصر، تسميهم الدراسة «كنعانيين»، أنهم كانوا يستمدّون جيناتهم، مناصفة تقريباً، من كلٍّ من نطوفيي سوريا في العصر النيوليتي، وإيرانيي العصر النحاسي. وقدَّرت أن تدفق العناصر الإيرانية قد حصل ما بين 6,600 إلى 3,550 سنة. ولربما ارتبط ذلك بالهجرات الكثيفة من شمال الهلال الخصيب نحو جنوبه، جرّاء الجفاف الشديد الذي ضرب المنطقة وأدى إلى انهيار الإمبراطورية الأكدية حوالى القرن الثاني والعشرين ق.م.
وتبيّن الدراسة أيضاً، أن التكوين الجينومي لسكان سوريا في العصر الحديدي، في الساحل والداخل، كان مستمدّاً بنسبة 93% من أمثال أولئك «الكنعانيين» الصيداويين الخمسة، والباقي (7%) من السهوب الأوراسية (لعل مصدرها حثيّ!)، وهو قريب جداً من تكوينهم الحالي. ثم تلاحظ، أن مؤشر التنوع الجيني قد ازداد في سوريا ما بين العصرين النيوليتي والبرونزي، وأن ذلك قد تجلّى في الشمال أكثر منه في الجنوب. وترافقت عمليات المجانسة بين المجموعات، والتي كانت قد بلغت مستواها الحالي تقريباً بحلول العصر النحاسي، مع زيادة في التنوع داخل كل مجموعة. ويُستفاد من إشارة البحث إلى تماثل التكوين الجينومي لكل من الساحل والداخل السوريين، أن تسمياتٍ مثل: الكنعانيين، العمّوريين، الآراميين، العرب، وبعضها محض تلفيق من كهنة التوراة ومستشرقيه، كانت تدل، عملياً، على تفرعات وتلاوين محلية، أو أطوار حضارية ولغوية متعاقبة، لكتلة بشرية واحدة، متجانسة جينومياً منذ العصر البرونزي. وهو ما أكدته من جديد دراسة حديثة صدرت مطلع الصيف الفائت (Feldman et al. 2019) كُرِّست أساساً للتحري عن الآثار الجينية الموروثة من شعوب البحر، الفلاستو تحديداً، والذين استوطنوا جنوب الساحل الفلسطيني في القرن الثاني عشر ق.م. وقد خلصت الدراسة إلى تأكيد ثبات التكوين الجينومي لجنوب سورية على مدى العصر البرونزي، ومروراً بالحديدي إلى وقتنا الحاصر، وإلى تلاشي الآثار الجينية للفلاستو في وقت لاحق من العصر الحديدي. وكان تحليل عيّنة مستخرجة من «تل حسنلو» شمال غرب إيران (حوالى 832 ق.م) قد أظهر أيضاً، التشابه الكبير بين إيرانيي العصر الحديدي وأحفادهم المعاصرين (Broushaki et al. 2016).

الأنساب الأبوية والأمومية لشعوب المشرق
إلى هنا كان بحثنا منصباً على الحمض النووي الجسماني autosomal DNA، الذي يحدد الخصائص البيولوجية للإنسان. ولكن ماذا عن الصِبغي (الكروموزوم) Y الذي يرثه الذكور من آبائهم، ويحدّد المجموعات الفردانية الأبوية Y-DNA haplogroups أو الأنساب الأبوية للجماعات؟
تنحدر الغالبية الساحقة من سكان المشرق، على اختلاف هوياتهم الإثنية والدينية، من أصلاب حفنة من الرجال الذين عاشوا فيه خلال العصر الحجري القديم. وفيما نكاد نجهل كلّ شيء عن أولئك الرجال، فإنّ ما نعرفه على وجه اليقين، هو تلك الأنساق المميزة لتعاقب الطفرات mutations في الشيفرات الجينية للصِبغي Y الخاص بكلٍ منهم، والتي أورثوها لسائر الذكور من ذُريّاتهم. بيد أنه يمكننا التكهن بأنهم ربما كانوا على قدرٍ أكبر من القوة و/أو الثروة، النفوذ، الجاذبية، الفحولة، والأهم، الحظ. وذلك بدليل أنهم تمكنوا من إنجاب ذُرّيات باتت تُعَدّ الآن بعشرات الملايين؛ فيما انقرضت، أو كادت، ذُريّات كثيرين غيرهم، من الأقل حظوة. ويتربَّع كل من هؤلاء الأجداد المؤسسين على رأس مجموعة فردانية أبوية تضم كل الذكور من ذُريّاتهم. وأبرز هذه المجموعات هي: J (بفرعيها J1 وJ2)، وE بفرعها المشرقي E1b1b، وR1 (بفرعيها R1a وR1b، I2، G، وT).
المجموعة الفردانية J) J-M304): تُعدّ الأوسع انتشاراً في بلدان المشرق الكبير، حيث تُقدَّر حصتها بحوالى 54.4% في سورية، 46.4% في لبنان، 62.5% في العراق، 50.1% في الأردن، 55.2% في فلسطين، 31.5% في إيران، 33.3% في تركيا، 32.5% في أرمينيا، 41.5% في أذربيجان.ii وهي تنتشر كذلك، وبنسب مختلفة، على امتداد العالم العربي، والمناطق المجاورة؛ من آسيا الوسطى والقوقاز إلى جنوب أوروبا وحتى القرن الأفريقي. يعُتقد بأن الجد الأول لهذه المجموعة قد عاش في المشرق قبل نحو 48000 سنة. وانبثقت عنها فيما بعد المجموعة J1) J-M267)، ثم J2) J-M172). الأولى أكثر انتشاراً بين العرب وفي بعض مناطق القوقاز (الشيشان وآفار داغستان مثلاً)، فيما الثانية أكثر انتشاراً في الأناضول وإيران وغرب سوريا وشمال العراق. فمثلاً، من بين «الكنعانيين» الصيداويين الخمسة من العصر البرونزي الذين سبق أن أشرنا إليهم أعلاه (Haber et al. 2017)، كان ثمة ذكران، أحدهما من المجموعة J1، والآخر من J2. سيكون لنا وقفة تفصيلية مع هذه المجموعة في مقالة مقبلة، تتناول أصول العرب وموطنهم الأول.
المجموعة R1: يُقدَّر بأن الجد الأول لهذه المجموعة كان من صيادي الماموث في سيبريا قبل نحو 27000 سنة. وهي المجموعة الأكثر انتشاراً في أوروبا، حيث يسود الفرع R1a في شرقها وR1b في غربها. وفيما يُعتقد أن الأولى نشأت في آسيا الوسطى، فإنه من المتفق عليه أن الثانية نشأت في المشرق قبل نحو 25000 سنة، وهي الأكثر انتشاراً فيه.

انطلقت مسيرة الاندماج والتكامل الإقليمي في المشرق مع الثورة النيوليتية الزراعية/الرعوية قبل أكثر من عشرة آلاف سنة

المجموعة E (الفرع E1b1b): وهي ذات منشأ شرق أفريقي (قبل حوالى 42000 سنة). استوطنت جنوب سوريا منذ العصر الحجري القديم، ومنه انتشرت لاحقاً نحو أوراسيا وشمال وشرق أفريقيا. ثلاثة من أصل خمسة ذكور عُثِر على رُفاتهم في أحد كهوف الجليل الأعلى، والعائدة للحضارة النطوفية في العصر الحجري الوسيط، كانت تنتسب إلى هذه المجموعة، فيما كان الباقيان من المجموعة T (Lazaridis et al. 2016). وثمة انتشار أقل، متفاوت إجمالاً، لمجموعات أخرى.
وبالمثل، تلتقي الأنساب الأمومية لغالبية أهالي المشرق في أرحام نساء عِشْنَ فيه خلال العصر الحجري القديم. ويكشف فحص الحمض النووي الميتوكوندري mtDNA الذي نرثه من جهة أمهاتنا حصراً، أن نحو ربع سكان المشرق ينتسبون إلى المجموعة الفردانية الأمومية H، حيث تقدر نسب المُتحدّرين منها بحوالى 26.2% في سورية، 33.8% في لبنان، 17.2% في العراق، 25.2% في الأردن، 27.4% في فلسطين، 16.9% في إيران، 30.8% في تركيا، 29.1% في أرمينيا، 23.3% في أذربيجان. وتنتشر هذه المجموعة المشرقية الأصيلة بنسب أكبر في أوروبا، حيث تترواح هناك ما بين 40 إلى 50%.
كذلك تضم المجموعة الفردانية الأمومية T، بفرعيها T1 وT2، نحو عُشر سكان المشرق. ويبلغ عمر هذه المجموعة المشرقية نحو 25000 سنة. وأخيراً، المجموعة U، التي نشأت في غرب آسيا قبل نحو 46000 سنة، وتنتشر في سائر بلدان المشرق بنسب متفاوتة.
الجدير بالذكر، أن جميع هذه المجموعات الفردانية المشرقية، الأبوية منها والأمومية، تنتشر أيضاً، بهذه النسبة أو تلك، في معظم أرجاء غرب أوراسيا، وآسيا الوسطى، وشمال أفريقيا ومناطق أخرى في العالم. معظم هذا الانتشار يعود إلى هجرات الفلاحين والرُعيان المشرقيين الأوائل، التي أشرنا إليها آنفاً. وفيما اقتصر تناولنا لهذه المجموعات على أروماتها الرئيسة بغرض الإيجاز، فإن كل واحدة منها تتشعَّب بدورها إلى عشرات المجموعات الفرعية، لكل منها تاريخها وخرائط ونِسب انتشارها وتلاوينها الإثنية.

ماذا عن العراق؟
لم نعثر على دراسات تتناول عيّنات حمض نووي موغلة في القدم من عراق ما قبل التاريخ. ولعل أسباب ذلك تعود إلى الظروف القاسية التي مر بها العراق خلال العقود الأخيرة، وصعوبة العثور على حمض نووي قديم يصلح للاختبار، نتيجة لمناخه الحار. ولكن نظراً إلى أن العراق يشكل الباحة الأمامية لقوس سلسلة جبال زاغروس، فمن الطبيعي الافتراض بأنه كان بوتقة للتمازج بين الكتل البشرية المشرقية الثلاث المحيطة به، وهو ما يشي به فعلاً التكوين الجينومي للعراقيين الحاليين.
سنعرض بهذا الصدد دراستين: الأولى (Al-Zahery et al. ‎2011) تناولت الأنساب الأبوية والأمومية لعيّنة ضمت 143 عراقياً من عرب الأهوار (المعدان) جنوب العراق، وخَلُصت إلى أنهم، وخلافاً للكثير من السرديات المتداولة، لم يَفِدوا إلى المنطقة من بعيد (غالباً الهند)، بل هم من سكانها منذ آلاف السنين. وتُرجِّح النتائج بأن يكون المعدان هم أحفاد أولئك السومريين، الذين عاشوا في المنطقة عينها منذ مطلع الألف الخامسة على أقل تقدير، ومارسوا فيها أنماط اًمعيشية شبيهة بنمط عيشهم البرمائي الفريد. وهو ما يعني أن السومريين أنفسهم كانوا أيضاً من سكان المنطقة الأصليين، ولم يَفِدوا إليها من خارجها كما كان يُعتقد سابقاً. وأظهرت الدراسة أيضاً، أن الآثار الجينية ذات المصدر الهندي ضيئلة جداً، خاصة من جهة الأنساب الأبوية. ورجحت أن يكون انتشارها المحدود في الجهة الأمومية، قد واكب إدخال زراعة الأرز وتربية جواميس الماء في الأهواز أواسط الألف الثالثة ق.م من بلاد الهند.
أما الدراسة الثانية (Dogan et al. 2017) فقد تناولت الأنساب الأبوية لخمسمئة عراقيٍّ من الشمال، موزعين بشكل متناسب ما بين عرب وكرد وتركمان وإيزيديين وسريان (آشوريين وكلدان). وانصبَّ البحث على مدى تجانس أو تنوّع تلك الأنساب ضمن حدود كل مجموعة إثنية على حدة، وكذلك مدى تقارب أو تباعد تلك المجموعات، مثنى مثنى، ومقارنتها مع عدد كبير من مجموعات محلية سبقت دراستها، من مختلف أنحاء العالم. وقد خلصت الدراسة إلى التقارب النسبي لهذه المجموعات فيما بينها، وكذلك تقاربها مع مجموعات مشرقية أخرى بعيدة عنها نسبياً. ومن بين النتائج اللافتة: التقارب الشديد بين العراقيين والإيرانيين والأتراك عموماً، وجنوب شرق الأناضول خصوصاً؛ وبين عرب شمال العراق والكويت؛ وبين القبارصة الأتراك ومواطنيهم اليونانيين (شملهما البحث كمجموعتي مقارنة)؛ وبين تركمان العراق وسكان مدينة بيروت. ولاحظت أيضاً، أن المجموعتين الأكثر تجانساً والأقل تنوعاً، والأبعد نسبياً عن بقية المجموعات، كانتا: الإيزيديين والسريان. وعَزَت الدراسة ذلك إلى انغلاقهما الجيني النسبي بسبب تقاليدهم الصارمة في عدم التزاوج مع الأغيار على مدى قرون. في المقابل، بدا أن المجموعات الأكثر تنوعاً واختلاطاً، كانت على التوالي: الأكراد فالعرب ثم التركمان.

خاتمة
إذن، انطلقت مسيرة الاندماج والتكامل الإقليمي في المشرق مع الثورة النيوليتية الزراعية/الرعوية قبل أكثر من عشرة آلاف سنة، لتنتقل به من جزر منعزلة متباعدة، تقطنها تجمعات بشرية بخصائص عرقية وثقافية متمايزة، إلى كتلة ديموغرافية متجانسة ومتفاعلة مع نهاية العصر البرونزي. وحيث أن منشأ أي من الهويات الإثنية والدينية القائمة حالياً، لا يتعدى قِدماً العصر البرونزي، على أبعد تقدير، فإن جميع هذه الهويات نَهَلَت عناصر تكويناتها الخاصة بها، من «الحِساء» الجينومي عينه. وبالتالي، فهي تفتقر إلى أية ركائز «عرقية» يُعتَدّ بها. فمثلاً، بالاستناد إلى الأرقام التي أوردناها عن المجموعات الفردانية الأبوية والأمومية، فإننا لا نجد مجموعة واحدة تتطابق مع، أو تقتصر على قومية معينة. بل نجد نِسباً متفاوتةً من العرب والإيرانيين والأتراك والأكراد، ينحدرون من سلف مشترك، ونِسباً أخرى منهم تنحدر من أسلاف مشتركين آخرين. أي إن سائر المجموعات الفردانية، مشتركة وعابرة للحدود الإثنية. وبطبيعة الحال، فإن ذلك لا ينفي وجود بعض الفوارق. ففضلاً عن التفاوت في نِسب مكونات «الكوكتيل» الجينومي الخاص بكل جماعة، ثمة اختلافات نجمت عن المسافات الجغرافية والعوائق الطبيعية و/أو الثقافية التي كانت تحد من التزاوج مع غيرها. وكذلك هي الحال بالنسبة لحدود الإقليم الجينومي المشرقي. فهذه الحدود الافتراضية خطّتها برمجيات حاسوبية بناء على مُحددات وضعها الباحثون، فضلاً عن البيانات الجينومية. وكان بالإمكان، باعتماد محددات أخرى، أن ترسم بشكل مختلف. فمثلاً، من الطبيعي أن يكون سكان جنوب سوريا أقرب جينياً إلى أشقائهم في مصر منهم إلى الأوزبِك في أقصى شمال شرق الإقليم، أو أن يكون سكان اسطنبول أقرب إلى جيراهم اليونان، منهم إلى البلوش في أقصى جنوب شرقه.

منذ انهيار جدران العُزلة بين المجتمعات المشرقية النيوليتية أمام ديناميات نمط الحياة الزراعي/الرعوي، تحول المشرق الكبير إلى حيّز حضاري متجانس مفتوح أمام حركة البشر ومواشيهم ومنتجاتهم وآلهتهم وأساطيرهم.. وظل الأمر كذلك حتى في غمار أشد الحروب والمنازعات بين حكام دوله.

* دراسة علي شكري: كاتب وباحث سوري


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 116 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع اخترنا لكم  متابعة نشاط الموقع انتقاء التحرير   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

9 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 7

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28