] إمارات الخليج من نقاوة البداوة إلى همجية الجشع - [صَوْتُ الإنْتِفاضَة]
الأحد 21 تموز (يوليو) 2019

إمارات الخليج من نقاوة البداوة إلى همجية الجشع

عصام اليماني
الأحد 21 تموز (يوليو) 2019

تتناول هذه المقالة أثر الثروة المالية والثورة النفطية في المجتمع الخليجي، والتطورات والتغييرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي واكبت «ثورة النفط». فمن يقارن بين ما كانت عليه المدن الإماراتية والخليجية العربية من بدائية وبساطة في بداية سبعينات القرن الماضي، وبين ما وصلت إليه من بذخ وثراء، يستطيع تبيان أثر هذه الثورة النفطية وما رافقها من تراكم للثروة. الصور بين الأمس واليوم مختلفة تماماً، إلا صور الحكّام ما زالت كما هي. كل شيء تغيّر في تلك الإمارات إلا زعماء القبائل الذين تغيّر لقبهم من «الشيخ» إلى رئيس. وبات «الشيخ وأفراد عائلته يملكون دولة». فدول الخليج العربي هي الدول الوحيدة التي يمكن تعريفها بـ«دولة العائلة». ففي العقود الخمسة الأخيرة تحولت أراضي القبائل المتعددة إلى ملكيات خاصة لعائلة واحدة تحت مسمّى «أراضي الدولة». وتحولت عائدات النفط إلى مصدر دخل للعائلة. وتقوم عبر هيئة تنفيذية «الحكومة» والتي تتألف غالبيتها من أفراد العائلة بإدارة شؤون الرعية بما يتناسب ومصلحتها..

- لمحة تاريخية

تشكّلت محميات الخليج العربي كدول «مستقلة»، باستثناء الكويت والمملكة العربية السعودية، مع بداية السبعينات بعد انسحاب سلطات الانتداب البريطاني منها، وبعد أن ضمنت استمرار مصالحها الاقتصادية والسياسية، خاصة تلك المتعلقة بالنفط. لذلك بقيت بريطانيا تدير شؤون هذه «الدول» حتى بعد انسحابها. فالمؤسّسات الأمنية (المخابرات، والجيش والشرطة) ظلّت تحت سيطرة وإدارة «الخبراء الإنكليز». كانت تلك المحميات قبل الوجود والنفوذ البريطاني في القرن التاسع عشر، عبارة عن قبائل تتصارع حول مناطق الرعي، وأحقية كل قبيلة بالحصول على ضرائب البضائع وحماية طرق التجارة الداخلية البرية والخارجية التي كانت تتم عبر شواطئ الخليج العربي. استمر هذا الأمر إلى حين احتلّت بريطانيا تلك المحميات وقامت بتقسيم المناطق وتسليم أمر كلّ منطقة للقبيلة الأقوى وليس بالضرورة الأكبر ضمن سياسة فرّق تسد. وعقدت معاهدات مع زعماء القبائل تضمن لهم فيها حمايتهم من أي اعتداء خارجي على أن تتعهد القبائل بعدم طلب أية حماية خارجية، إضافة إلى تعهد زعماء القبائل بأن لبريطانيا وحدها حق فضّ الخلافات والنزاعات بين تلك المحميات. وعمدت بريطانيا أثناء تقسيمها مناطق نفوذ القبائل أن ترسم الحدود بشكل يبقي النزاعات قائمة بين تلك المحميّات. هذه الحدود التي ما زال الخلاف قائماً حولها بين عُمان وراس الخيمة، دبي والشارقة، أبوظبي وعُمان، قطر وأبو ظبي، البحرين وقطر، السعودية واليمن، الكويت والسعودية. على المستوى السياسي، قامت تحالفات استراتيجية بين زعماء القبائل «الحكّام» وبين العائلات التي تعمل في التجارة، بحيث يضمن الحاكم سلامة الطرق التجارية والموانئ وتعهّد التجار بدفع الضرائب للحكام. وهذا التحالف (لا يزال) مستمراً حتى هذا التاريخ. وكذلك الأمر فقد عقد حكّام المحميات مجموعة من المعاهدات تضمن عدم اعتداء أيّ منهما على الأخرى، وتوّجت تلك العلاقات بالمصاهرة بين «حكّام المحميات». في عام ١٩٧١ انسحبت بريطانيا من دول الخليج وتأسست إثرها دولة «الإمارات العربية المتحدة» من المحميات والإمارات «المتصالحة» كما كان يطلق عليها (أبوظبي، دبي، الشارقة، راس الخيمة، عجمان، أم القيوين، الفجيرة). ونظراً إلى فارق قوة ونفوذ كلّ محمية، تعهدت أبوظبي وهي الإمارة الأكثر ثراءً بتوفير كل الدعم الاقتصادي والمالي لحكّام الإمارات الضعيفة شرط أن تتخلى كل منها عن بعض صلاحياتها المحلية لصالح الدولة الفيدرالية. وأعلنت قطر والبحرين نفسهما «دولتين مستقلتين». وانضمت كل هذه الدول الحديثة التأسيس إلى الأمم المتحدة وإلى جامعة الدول العربية. وكان القاسم المشترك بين هذه «الدول» هو الثروة النفطية. ومن الجدير بالذكر أنه قبل اكتشاف النفط والسيطرة على موارده كانت تعتمد هذه المحميات في تسيير شؤونها (الإدارية والتعليمية والصحية... إلخ) على مساعدات بعض الدول العربية خاصة في مجال التعليم والصحة.

بقي النظام السياسي قائماً على تحالف العائلة الحاكمة وكبار التجار والقبائل ووكلاء الشركات الأجنبية

- الثروة النفطية

لقد أدى اكتشاف النفط في تلك الدول إلى تسريع نشوئها كدول وتسريع عملية التنمية فيها. فقد شهدت فترة السبعينات خاصة بعد حرب أكتوبر ١٩٧٣ زيادة غير مسبوقة في أسعار النفط، الأمر الذي وفّر لتلك الدول تراكم ثروة مالية هائلة تتجاوز في كمّها مصاريفها الداخلية بأضعاف خاصة مع التعداد الضئيل لسكان تلك الدول. هذا الأمر أدى إلى التفكير بالاستثمارات الخارجية وتقديم مساعدات خارجية للعديد من الدول والمؤسسات (وسنعود لهذا الموضوع لاحقاً)، كما شهدت تلك المرحلة مظاهر بذخ غير مسبوقة لدى حكّام وغالبية سكّان تلك الدول. وأدّت مشاريع التنمية والتطوير إلى ضرورة استجلاب العمالة الخارجية الرخيصة. بالرغم من تراكم الثروة النفطية، وباستثناء السعودية والكويت فلم تكن لتلك الدول الحديثة العهد أيّة توجهات بلعب دور سياسي إقليمي خاص بها، ولم تتخذ مواقف تتعارض والإجماع العربي، ولم تصطف في محور عربي ضد محور عربي آخر، أي إنها حافظت على حدّ معيّن من الحيادية تجنّباً لانعكاس ذلك على أوضاعها الداخلية. ومن الجدير بالذكر أنه كان لتلك الدول مواقف إيجابية في ما يتعلق بسياستها الخارجية المتضامنة مع قضية الشعب الفلسطيني وتوفير الدعم المالي له، وتقديم دعم غير مسبوق لدولة اليمن بشمالها وجنوبها، وكذلك تقديم مساعدات لسوريا ومصر لإعادة تأهيل جيوشهما وبنيتهما التحتية بعد «حرب أكتوبر». وبالرغم من احتلال إيران أثناء حكم الشاه لثلاث جزر إماراتية إلا أنها لم تتّخذ موقفاً عدائياً ضد إيران بل اختارت اللجوء إلى التحكيم السلمي للنزاع القائم. كما اختارت تلك الدول حلّ نزاعاتها الحدودية عبر التحكيم وغير ذلك من الوسائل السلمية. إلا أن حكمة تلك الحقبة كانت ناتجة عن تخوف من عاملين أساسيين: وجود جارة قوية مثل السعودية التي لها طموحات توسعية في المنطقة والتي كانت تعتبر حتى تلك الحقبة أن هذه الإمارات والمحميات كان يجب أن تكون امتداداً سياسياً وجغرافياً لها. وكذلك الجار الإيراني الذي كان دائم السعي لمدّ نفوذه السياسي والاقتصادي في المنطقة. لذا كان لا بد لهذه الدول أن تبني علاقات جيدة مع مصر وسوريا والعراق والجزائر وليبيا للوقوف إلى جانبها عند الحاجة.
أما على المستوى السياسي الداخلي، فقد عزّزت الثروة النفطية دور «العائلات الحاكمة» حتى باتت تلك الدول يطلق عليها من بعض الأكاديميين تسمية «دولة العائلة» التي تُدار شؤونها كما يدير صاحب الشركة ملكيته الخاصة. فقد بقي النظام السياسي قائماً على تحالف العائلة الحاكمة وكبار التجار والقبائل ووكلاء الشركات الأجنبية. ويقوم هذا التحالف على تقديم الرشاوى المالية والوظيفية للقبائل، ومنح أصحاب الشركات من الإماراتيين عقود مقاولات بمئات الملايين، إضافة إلى عضوية في مجالس استشارية شكلية. فدول الخليج العربي، باستثناء البحرين والكويت لا تسمح بتشكيل أحزاب سياسية، كما لا تأخذ أيّ إجراءات لضمان حرية التعبير والانتخاب والمساءلة والرقابة. بل على العكس من ذلك فإن تلك الدول تقوم بإجراءات قمعية (مقوننة) ضد أي صوت معارض أو مطالب بالمشاركة في اتخاذ القرار.

لقد دفع تراكم الثروات الناتجة عن ارتفاع أسعار النفط، إلى توسيع العائلات الحاكمة نشاطها الاقتصادي إلى الدول المجاورة، فتأسّست شركات وبنوك يتشارك في ملكيتها أصحاب رؤوس الأموال في تلك الدول. إضافة إلى توسع الاستثمارات الهائلة التي وظفّوها في سوق العقارات في المدن الغربية، خاصة في لندن، والولايات المتحدة وإسبانيا. هذا النشاط ازدهر ليتضمّن شراء مصافي نفط، وشراء أسهم في العديد من كبريات الشركات والمؤسسات والنوادي الرياضية الأوروبية (كرة القدم خصوصاً) إضافة إلى الاستثمار في ميادين سباق الخيل. لقد أدت الثروة النفطية إلى تطور ثورة عمرانية في كل دول الخليج العربي، حيث تمت إعادة تأهيل البنى التحتية في هذه الدول، إضافة إلى تشييد مبانٍ جديدة لاستيعاب القادمين الجدد الذين يساهمون في إعمار تلك الدول. حيث تؤكّد بعض الدراسات أن دول الخليج العربي كانت تتولى تنفيذ ٦٠ ٪‏ من حجم المقاولات والبناء في العالم، وأنها كانت المستهلك الثاني لآلات البناء على المستوى الكوني، تسبقها في هذا المجال الصين. هذه الثورة العمرانية ساهمت في تراكم ثروات أصحاب شركات المقاولات المحليين والعاملين في مجال تجارة العقارات التي كانت أسعارها خيالية قبل الأزمة الاقتصادية العالمية، التي تأثرت بها بعض دول الخليج نتيجة تراجع قيمة استثماراتها الخارجية، وفي بعض الحالات خسارتها كلياً كما حصل في السوق العقاري والمؤسسات المالية المرتبطة بهذا السوق في الولايات المتحدة الأميركية عام ٢٠٠٨. والجدير ذكره في هذا المجال، أن تراكم هذه الثروات ما كان سيبلغ هذا الحجم لولا استجلاب الأيدي العاملة الرخيصة من الهند وباكستان والدول الآسيوية الأخرى. إذ لا يتجاوز راتب العامل منهم 300 دولار شهرياً، ولا يوجد قانون عمل يحمي حقوقهم سواء من ناحية الأجور والإقامة أو الضمان الصحي وغير ذلك من الأمور المتوفرة في غالبية دول العالم. وسأعطي مثالاً على حجم تراكم الثروات الناتج عن استغلال العمال الأجانب في تلك الدول. فمثلاً في كندا، يكلّف بناء القدم المربع من المنشآت ٢٠٠ دولار أميركي، وهذا السعر يتضمن المواد الأولية، كلفة العمالة، التراخيص الضرورية للبناء، (كلفة المواد الأولية والتراخيص ٩٠ دولاراً ، كلفة العمالة ١١٠ دولارات) من كلفة البناء، ويباع القدم المربع بعد ذلك بـ 230 دولاراً. أي إن نسبة الربح العامة وقبل استقطاع الضرائب الحكومية على الأرباح لا تتجاوز الـ ١٥ ٪‏. ونظراً إلى كون أسعار مواد البناء هي أسعار دولية، فإنّ كلفة البناء قبل احتساب كلفة العمالة واحدة في دبي أو أبوظبي أو تورنتو، أما كلفة العمالة في الخليج لا تتجاوز الـ ١٠٪‏ من كلفة العمالة في تورونتو. ويباع القدم المربع في دبي مثلاً بمثيله في تورنتو أي ٢٣٠ دولاراً (٩٠ دولاراً كلفة المواد الأولية، ١٠ دولارات كلفة العمالة) أي أن الربح الناتج من بيع القدم المربع في دبي يساوي ١٣٠ دولاراً وهو نتاج استغلال العمالة الأجنبية المحرومة من كلّ حقوقها حتى الإنسانية. قس على ذلك في المجالات الاقتصادية والحياتية كافة، فدخل الشركات الخليجية من العمالة الأجنبية يساوي دخل الدولة من النفط. وهذا بالضبط أساس التحالف بين القطاع الخاص والدولة. وهذا ما يجعل القطاع الخاص خاضعاً لقرار الحاكم.

- حرب أكتوبر وسياسة الانفتاح الاقتصادي

في عام ١٩٧٣ - ١٩٧٤ أعلن الرئيس المصري أنور السادات تبنّيه لسياسة الانفتاح الاقتصادي، واعتبر أن نموذج الاشتراكية لم يحقق الرخاء للشعب المصري، وبدأ بفتح الأسواق المصرية للاستثمارات الخارجية، التي اشترطت وبدعم من البنك الدولي وصندوق النقد خصخصة القطاع الخاص، وبيع المؤسسات الإنتاجية التابعة للدولة للقطاع الخاص. ومن هذا المدخل تشكّل تحالف جديد بين أصحاب رؤوس الأموال في دول الخليج وأصحاب المصارف، والنخبة المحيطة المحسوبة على الرئيس السادات من أصحاب الثروة، وخاصة أولئك الذين تربطهم علاقات وطيدة بالمؤسسة السياسية والعسكرية في مصر. وأخذ الرأسمال الخليجي بشراء المؤسسات العامة بأبخس الأثمان، وينتج ما كانت تنتجه الدولة ويبيعها بأسعار أعلى، كما نشط استثماره في قطاع السياحة والعقارات، والمواد الغذائية ومراكز التجارة (المجمّعات الاستهلاكية الكبيرة) وبدأت بنوك الخليج بتقديم قروض للدولة المصرية بفوائد عالية النسبة، كما اشترت أسهماً في العديد من بنوك الدولة. وبات الرأسمال الخليجي مكوّناً أساسياً في الاقتصاد المصري والمغربي وحتى التونسي ولو بنسب أقل.

إن تزاوج وتحالف الرأسمال المصري والخليجي، كان لا بد أن يترك أثره على كافة الصعد في مصر، وخاصة في المجال الاجتماعي والسياسي. وعلى اعتبار أن الرأسمال يحتاج الى الاستقرار السياسي والأمني لاستمرار منافعه وأرباحه، كانت خطوة السادات لتوقيع اتفاقيات «كامب دايفيد» بعد محادثات سرية شارك فيها سرّاً عدد من الشخصيات الخليجية والمغربية قبل أن تظهر للعلن. واستناداً الى معاهدة «السلام» تلك، بدأت الاستثمارات الخليجية تنمو وتتسع في مصر حتى باتت، حسب أستاذ الاقتصاد السياسي آدم هنية تسيطر على٣٣٪‏ من الاقتصاد المصري. تطورت هذه الاستثمارات لتؤثر على السيادة المصرية. وما تبعية مصر السياسية للسعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة إلا نتيجة لتأثير الرأسمال الخليجي، سواء في قطاعه الخاص أو قطاع الدولة. فحجم المساعدات والقروض التي تقدمها دول الخليج لمصر ساهمت في تقويض السيادة المصرية، وشاهدنا كيف تنازل النظام المصري عن جزر استراتيحية في البحر الأحمر للسعودية.

بالرغم من كل الصورة السلبية الناتجة من تراكم الثروة النفطية، إلا أننا لا نستطيع أن نتجاهل بعض النتائج الإيجابية لتوظيف قسم من هذه الثروة في مجالات، أهمها تحديث الخدمات الطبية والتعليمية. إضافة الى ذلك، فإن سياسة الابتعاث التعليمي في الخارج أدت الى تراكم خبرات محلية في المجالات المهنية المختلفة. وكان للمبتعثين فرصة أتاحت لهم الاطلاع على ثقافات مختلفة تماماً عن الثقافة السائدة في بلدانهم وأتاحت لكثيرين الاطلاع على تجارب الشعوب المختلفة، وخاصة في المجالات الاجتماعية والسياسية حيث تتوفر الحريات المدنية، واختبروا تداول السلطة والمراقبة على أداء الحكومة من قبل مجالس تشريعية منتخبة من الشعب. وكان لا بد لهذه التجارب من أن تعكس نفسها لدى عودة المبتعثين الى بلدانهم، حيث بدأت تظهر نواة حركات سياسية وثقافية تسعى إلى تحصيل مكاسب اجتماعية وسياسية تتناسب ووعيها السياسي وموقعها الاجتماعي. ساهمت هذه النواة في معظم هذه الدول في جعل الحكومة تتبنى أو تسمح بإقامة منتديات ثقافية، ومهرجانات وندوات ذات طابع سياسي، وكانت القضية الفلسطينية هي محور معظمها. إلا أنه كلما استشعرت الدول الخليجية تأثير وتمدد هذه النواة، كانت تتخذ إجراءات للحد من نشاطها تحت ذرائع مختلفة. لم تتمكن هذه النواة من اختراق الوضع القائم وتحقيق إنجازات ملموسة في المشاركة باتخاذ القرار في المملكة السعودية وفي الإمارات لم تجد غير الانتماء «للحركات الإسلامية» مثل «الإخوان المسلمين».

كما أسلفنا، كانت تربط دول الخليج وإيران الشاه علاقات ممتازة في إطار التحالف المشترك ضد الامتدادات اليسارية والشيوعية، وكانت دول الخليج وإيران جزءاً من آلية المخطط الأميركي لمواجهة امتداد النفوذ السوفياتي في المنطقة، وخاصة في الدول الوطنية كالجزائر وسوريا والعراق. وكان لا بد في هذا المجال من القضاء على الثورة في عُمان بمساعدة خليجيه إيرانية أتاحت للسلطان قابوس السيطرة الكاملة على كل المساحة العمانية. وكان لا بد من التآمر الدائم لإسقاط وإضعاف الحكم الاشتراكي في اليمن الجنوبية من خلال محاولة قلبه من الداخل، وقد تحقق لهم مرادهم في ثمانينيات القرن الماضي، وسقطت تجربة اليمن، الأمر الذي أدى الى وحدتها مع الشمال وسيطرة النظام في الشمال على مقدرات الجنوب.
أما الأمر الذي أثار مخاوف تلك الدول، فهو الثورة الإيرانية التي أطاحت نظام الشاه، وإعلان إيران نفسها دولة إسلامية «شيعية». ونظراً الى وجود نسب كبيرة من السكان في الخليج من ذوي الانتماء الشيعي، شددت تلك الدول القبضة القمعية الداخلية، ولجأت الى شخصية مثل شخصية الرئيس العراقي صدام حسين «القومي العربي» لمحاولة القضاء على الثورة الإيرانية في المهد وقبل أن يتمدد نفوذها في دول الخليج. وعليه، موّلت هذه الدول حرب العراق ضد إيران. وبعد انتهاء الحرب الإيرانية – العراقية خشيت تلك الدول من سطوة صدام حسين عليها، فكان لا بد من التآمر عليه لإضعافه اقتصادياً وجعله رهينة لديون تلك الدول، الأمر الذي أدى الى قيام صدام حسين باحتلال الكويت، ونشبت حرب الخليج التي أدت الى هزيمة قاسية للنظام العراقي أدت بدورها الى تعزيز التحالف الخليجي المصري، والى الوجود العسكري الأميركي الدائم في بلدان الخليج.

باشرت السعودية بمحادثات سرية مع دولة الكيان الصهيوني وبدأ العد العكسي لمحاصرة إيران

وفي أثناء الحرب العراقية – الإيرانية، تمكّنت إسرائيل من ضرب المفاعل النووي العراقي، كما قامت باجتياح لبنان وإخراج المقاومة الفلسطينية من هناك. وما إن انتهت حرب الخليج الأولى حتى بدأت تلك «الإمارات» بتجفيف دعمها المالي لـ«منظمة التحرير الفلسطينية» ومارست ضغطاً على القيادة الفلسطينية لإيقاف الانتفاضة المجيدة، وأجبرتها من خلال ضغط أصحاب رؤوس الأموال الفلسطينية على القبول بالشروع في «محادثات سلام مع الكيان الصهيوني». فكان «مؤتمر مدريد للسلام» الذي أدى في ما بعد الى اتفاقيات أوسلو (1993) التي فتحت المجال للأردن بتوقيع اتفاقية سلام مع الصهاينة، وساهمت في إقامة علاقات تطبيعية مع العدو الصهيوني من قبل دول الخليج، وانتشرت المكاتب التجارية غير المعلنة للكيان الصهيوني في كل من الإمارات وعمان والبحرين والمغرب وتونس، وقامت الدول الإفريقية بإعادة علاقاتها مع دولة الكيان الصهيوني، بعدما كانت قد قطعتها إثر حرب ١٩٦٧. باشرت السعودية بمحادثات سرية ذات طابع استراتيجي مع دولة الكيان الصهيوني، وبدأ العد العكسي لمحاصرة إيران إقليمياً ودولياً. وفي خضمّ هذا المشهد، تشكّل تنظيم «القاعدة» بدعم من السعودية وقطر والمخابرات الأميركية، وبدأ بنشر فكر مذهبي وهّابي يحرّض فيه ويكفّر أصحاب المذهب «الرافضي» الشيعي، هذا الخطاب الذي جرى تدعيمه من قبل وسائل الإعلام التي انتشرت كانتشار الطاعون في المجتمعات العربية، وقد أحكمت دول الخليج سيطرتها على تلك الفضائيات. وكان الخطر الإيراني هو ما تغذي به هذه المحطات مشاهديها، وخاصة بعد انهيار منظومة الدول الاشتراكيه والاتحاد السوفياتي، الأمر الذي ساهم في انتشار الفكر الإسلامي كبديل «للفكر القومي العربي، والأيديولوجية اليسارية».

أخذ انتشار الفكر الإسلامي أشكالاً جديدة وغير مسبوقة، حيث بات لهذا التيار مؤسسات منتشرة في غالبية الدول العربية، تعمل بتغطية من الأنظمة من دول الخليج، إضافة الى بعض الدول الأخرى مثل مصر وتونس والمغرب. إلا أن تلك الأنظمة أخطأت في حساباتها السياسية، وخاصة بعد فوز التيار الإسلامي في تركيا بالانتخابات البرلمانية والسيطرة على الحكومة المقربة أو المحسوبة على «الإخوان المسلمين»، الأمر الذي شكل دافعاً للقوى الإسلامية في الدول العربية المختلفة للخروج من عباءة الأنظمة والسير نحو السيطرة على السلطة بشكل منفرد. وكان «الربيع العربي» الذي تمكنت من خلاله القوى الإسلامية، وهي الأكثر تنظيماً وانتشاراً في المجتمعات العربية، من السيطرة على البرلمان في تونس والمغرب وجمهورية مصر العربية، وفي فلسطين المحتلة والذي تجسد بسيطرة حركة حماس الإخوانية على السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية في غزة.

لقد تخوفت أنظمة الخليج من «الربيع العربي»، رغم أنها ساهمت في إحداثه، إذ إنه أتاح للنخب في تلك البلدان المطالبة بالمشاركة في اتخاذ القرار، الأمر الذي أدّى بهذه الأنظمة إلى تخصيص ميزانيات ضخمة لتحسين الأوضاع المعيشية لمواطنيها تخوّفاً من «تحركات شاملة». وفي الوقت ذاته، عملت تلك الدول على تقويض «الإخوان المسلمين» في مصر وتونس ونجحت في تحقيق ذلك في مصر، حيث ساهمت في تمويل انقلاب عبد الفتاح السيسي على «شرعية حكم الإخوان». بدأت تلك الأنظمة بشيطنة «الإخوان» وحركة «حماس». ولأسباب سياسية واقتصادية، لم تكتف أنظمة الخليج بذلك، ونظراً إلى المصالح المشتركة مع راعيها الولايات المتحدة الأميركية، عمدت بالتعاون مع تركيا والدول الأوروبية الى تحويل مسار النظام في سوريا من حليف لروسيا الى جزء من المنظومة الأميركية في المنطقة، وفي هذا الأمر مصلحة إسرائيلية أيضاً.

فأوروبا تعتمد على استيراد الغاز والنفط من روسيا، فكان البديل أن تلجأ أوروبا الى جهات بديلة، وكان الاختيار الغاز القطري. إلا أن كلفة استيراد الغاز القطري أعلى بكثير من كلفة استيراده من روسيا القريبة جغرافياً من الدول الأوروبية. فكان أن تمّ وضع مخطط لبناء أنبوب غاز يبدأ في قطر ويمتد الى الأراضي السعودية والأردنية ويصل الى الموانئ التركية عبر سوريا ومنه الى أوروبا. وبهذه الحالة لا يحتاج الأمر الى تسييل الغاز وشحنه بالبواخر العملاقة. إلا أن رفض النظام السوري لهذا الأمر، دفع الولايات المتحدة ودول الخليج وتركيا وأوروبا وإسرائيل الى تغذية «الانتفاضات الشعبية» في سوريا، ومن ثم المجموعات الإسلامية مثل «داعش» و«النصرة». والجدير بالذكر أن خط أنابيب الغاز القطري يقلّص أيضاً من حجم صادرات إيران من الغاز الطبيعي الى دول أوروبية واليابان.

إلا أن صمود النظام في سوريا الناتج من الدعم الروسي والإيراني، وخيبة الأمل الأميركية ــــ الإسرائيلية دفعت بهذه الدول الى شيطنة النظام الإيراني، وهكذا تتمكن دول الخليج من «إيجاد عدو خارجي» على أسس مذهبية تستطيع من خلاله تحشيد رأي عام محلي. ومن أجل محاصرة إيران، لا بد من السيطرة على المضائق البحرية الاستراتيجية مثل: قناة السويس، باب المندب ومضيق هرمز. ومن هنا، كان مشروع شن الحرب ضد اليمن للقضاء على القوى اليمنية المتحالفة والمدعومة من إيران. إلا أن صمود اليمن، وفشل المخطط في سوريا، وإلغاء الرئيس ترامب موافقة الولايات المتحدة على الاتفاق النووي، جعل تلك الدول تنفتح بشكل علني على الكيان الصهيوني والتعاون الاستراتيجي معه لتشكيل حلف على أساس المصلحة المشتركة في تقويض النظام في إيران الداعم الأساسي لحزب الله وحركة المقاومة الفلسطينية والاستغناء عن الدور التركي ومحاولة تقويض نظام إردوغان الداعم لحركة «الإخوان المسلمين» في المنطقة.

- خلاصة

إن تراكم الثروة لدى حكّام الخليج كان لا بد له من إيجاد مساحات استثمارية خارجية تتيح له بسط نفوذه السياسي في المنطقة عبر إيجاد أنظمة «خاضعة لهذا الرأسمال» وإملاءاته، مثال: مصر والسودان والمغرب. كما يحتاج هذا التراكم الى من يحميه، فكان لا بد من الخضوع للإملاءات الأميركية، والتعاون الاستراتيجي مع إسرائيل، والأهم إيجاد عدو وهمي لتحشيد رأي عام محلي داعم ويبرر الإجراءات القمعية لهذه الأنظمة ضد أي صوت معارض، كما حصل في البحرين والإمارات والسعودية. إن الثروة التي يتحكم بها الأفراد، وتقتصر على خدمة جشعهم، تقود الى سلوك همجي لا يأخذ المواقف الوطنية والإنسانية بعين الاعتبار. وهذا السلوك يقود الى الدمار الذاتي.

* ناشط فلسطيني مقيم في كندا


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 72 / 2342879

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع اخترنا لكم  متابعة نشاط الموقع انتقاء التحرير   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

27 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 28

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28