] الزلزال الذي ضرب عقيدة التفوّق الإسرائيلي - [طُوفانُ الأَقصى]
الخميس 9 أيار (مايو) 2024

الزلزال الذي ضرب عقيدة التفوّق الإسرائيلي

الخميس 9 أيار (مايو) 2024 par اسعد ابو خليل

سيستمرّ التحليل والبحث في الهجوم الإيراني على إسرائيل لسنوات عديدة. لا يمكن المبالغة في أهميّة ما حدث من الناحية الإستراتيجية، أي المسار الطويل من الصراع العربي الإسرائيلي الذي تحوّل إلى صراع إسرائيلي عربي-إيراني، ويضمّ من العرب منظمات مقاومة خارج نطاق الدولة (لحسن الحظ أنها خارج نطاق الدول، لأن لا أمل في الدول العربيّة). لقد تنصّلت كل الدول العربيّة من مهام مجابة إسرائيل: وتراوحت المواقف الأخيرة بين التحالف المعلن أو الضمني أو التزام الحيطة مخافة إغضاب أميركا. و«وول ستريت جورنال» ذكرت أن حكومات السعوديّة والإمارات والأردن شاركت في تقديم العون العسكري والاستخباراتي المباشر لإسرائيل في الحرب. حتى الجزائر باتت حذرة في تعاطيها مع القضيّة (المندوب الجزائري في الأمم المتحدة لم يجد غضاضة في مجلس الأمن من شكر المندوب الأميركي على جهود حكومته في وقف النار). والدعاية الصهيونيّة في الغرب تعترف بضخامة الضربة الإيرانية ضد إسرائيل، فيما تعمد أبواق الصهيونيّة في العالم العربي على الاستخفاف بالضربة. لكن، إذا كانت الضربة خفيفة ومسرحيّة بجد فلماذا تضطرّ دول «الناتو» (صاحبة الأيادي البيضاء في تمويل وسائل «الإعلام البديل» عندنا) إلى الضغط على إسرائيل للتمنّع عن الردّ على إيران، لعلمها أنّ إيران ستلتزم الردّ. وإسرائيل (بحسب ما ورد في «نيويورك تايمز») قصفت السفارة الإيرانيّة في دمشق، لأن قادة إسرائيل حسبوا أن إيران لن تردّ. هذا يؤكّد مرّة أخرى أنه لا يمكن التعامل مع إسرائيل بعدم الردّ. جرّبت هذا النمط السلوكي كل الدول العربيّة وما جنت إلا المهانة.

إنّ فصل الضربة الإيرانيّة (التي وصفها مسؤولون حكوميّون في إسرائيل بـ«غير المسبوقة وشديدة الخطورة») عن سياق الصراع العربي الإسرائيلي يفقدها معناها. كان ممنوعاً أن يصل صاروخ واحد من دولة عربيّة إلى إسرائيل. إسرائيل عطّلت مشاريع الصواريخ المصريّة (في زمن عبد الناصر) وقتلت وهدّدت العلماء الألمان المساهمين فيه (الطريف أن الغرب هوّل على عبد الناصر وعيّره لاستعانته بعلماء «نازيّين» فيما كانت الاستخبارات الأميركية والجيش الأميركي قد استقطبوا أكبر عدد من العلماء النازيّين). وطاردت إسرائيل العلماء الذين أسهموا في البرنامج الصاروخي العراقي. أميركا والغرب يؤيّدون احتكار إسرائيل لأسلحة الدمار الشامل وللصواريخ الباليستيّة البعيدة المدى. الصواريخ العراقيّة من نوع سكود كانت ذات قدرات تدميريّة أقل بكثير مما هو اليوم في حوزة إيران. الأهميّة ليست في وصول الصواريخ (المجموع كان أكثر من 300 مسيّرة وصاروخ بالستي) بحد ذاته. حزب الله طيّرَ صواريخ مدمّرة في حرب تمّوز وفي حربه الحاليّة (وإن كان يحتفظ بأخطر ما لديه للحرب الكبرى، أو الحرب الأخرى). لكن ماذا جرى وما هي أهميّته التاريخيّة؟

الذين تمرّسوا (بأمر طبعاً) في السخرية من نظريّة المؤامرة في الإعلام العربي باتوا من أشدّ المصدّقين بنظريّة مؤامرة بلهاء

أولاً، لا يجب أن يمرّ تحليل العمليّة الإيرانيّة الفائقة الدقّة والمهارة بمطبخ البروباغندا الخليجي والذي يُشرف على الإعلام العربي برمّته. كيف يمكن لك أن تناقش أشخاصاً يؤمنون بأن العمليّة الإيرانيّة (التي كلّفت إسرائيل نحو 1.3 مليار دولار، فيما أنفقت أميركا نحو مليار دولار على صدّ صواريخ اليمن، باعتراف وزير البحريّة الأميركيّ) مجرّد مسرحيّة. الذين تمرّسوا (بأمر طبعاً) في السخرية من نظريّة المؤامرة في الإعلام العربي باتوا من أشدّ المصدّقين بنظريّة مؤامرة بلهاء. أي إن هؤلاء مقتنعون أن كل دول الخليج العربي وكل أعضاء «الناتو» وإسرائيل شاركوا بسرّية فائقة في مسرحيّة قصف إسرائيل ليس بصاروخ أو صاروخين بل بأكثر من 300 صاروخ ومسيّرة. هذه إسرائيل التي لا تحتمل مسرحيّة تتضمّن إطلاق رصاصة واحدة عليها. إسرائيل في حادثة العديسة في عام 2010 لم تتحمّل رشقة رصاص واحدة. أوعزت يومها إلى اللوبي الإسرائيلي فتحرّك على الفور واستدعى الكونغرس قائد الجيش، جان قهوجي، وأفهموه بصريح العبارة أن أي طلقة رصاص لبنانيّة على إسرائيل ستحرم لبنان من كل المساعدات العسكريّة الأميركيّة (الهزليّة). ولم يطلق الجيش رصاصة ضد إسرائيل منذ ذلك الحين، حتى عندما تعرّض للقصف المباشر في الحرب الجارية. كيف يمكن أن تتبادل الآراء مع أناس مكلّفين بتعطيل المنطق والعلم، لأن مصلحة الدعاية الخليجيّة تتطلّب هذا الكم من الأكاذيب والأضاليل، وكل ذلك لمصلحة إسرائيل. وهذه المسرحيّة أغضبت كل دول الغرب ومجالسها الاشتراعيّة، كما أن إسرائيل لا تزال في اجتماعات حرب متوالية للتعامل مع الضرر البالغ ليس فقط في ممتلكات أو قواعد عسكريّة (أصيبت قاعدتان عسكرّيتان شاركتا في قصف السفارة الإيرانيّة في دمشق، باعتراف إسرائيل). ثم إذا كانت إيران غير جادة في صراعها مع إسرائيل، كان يمكن لها ألا تقصف إسرائيل بالمرّة وكان يمكن لها أن تزعم أن المبنى الذي أُصيب في دمشق ليس من ضمن مبنى السفارة بل ملاصق له. وكان هذا الإخراج ممكناً جداً لو أن إيران أرادت أن تتجنّب المواجهة. ثم، لو أن إيران أرادت أن تتجنّب المواجهة فلماذا لم تتوقّف في 2001 أو 2003 أو قبل سنة عن تسليح المقاومات، مع علمها أن هذا التسليح والتمويل هو الذي جلب لها ويلات الغرب والعقوبات القاسية والوحشيّة؟ إنّ ظهور العداء الإيراني الحربي ضد إسرائيل أحرج كل دول التطبيع، لأن ذلك نسف مقولات أن إيران تحارب إسرائيل عبر العرب أو عبر وكلائها. والخطاب الأخير لنصرالله كان واضحاً: إن موضوع ثأر إيران لقصف سفارتها يعنيها هي ولا يعني الحزب كي يردّ. على مرّ السنوات، جهد إعلام الخليج كي يقنع العرب أن إيران الشيعيّة الصفويّة الفارسيّة (وكل هذه الصفات باتت شنيعة في الثقافة الإعلاميّة العربيّة السائدة) لا تكترث لفلسطين. هي تسلّح وحدها في كل العالم مقاومات إسرائيل لكنها لا تكترث لفلسطين. أي إن المُطبِّعين مع إسرائيل يهتمّون بفلسطين أكثر من الذين يعادون إسرائيل ويسلّحون مقاوميها. هذه المقولة اللامنطقيّة مُروَّجة في الإعلام ويبرع في تردادها الإعلاميّون والإعلاميات اللبنانيّات (وهم الأسوأ بين العاملين في الإعلام الخليجي). هم يبرعون في التملّق والتزلّف ويحاولون البروز عبر منافسة بروباغندا النظام في الإفراط في الاعتناق. القصف الإيراني أبطل عمل معظم مقولات الإعلام الخليجي عن إيران والصراع مع إسرائيل. هي قصفت إسرائيل من أراضيها وليس من الأراضي العربيّة التي يزعمون أنها تحتلّها.

القصف الإيراني أبطل عمل معظم مقولات الإعلام الخليجي عن إيران والصراع مع إسرائيل

ثانياً، العدوّ كاذب وأميركا تكذب لمصلحتها ولمصلحة إسرائيل. العدوّ الصهيوني كذب على العرب منذ بدء الحركة الصهيونيّة، وكانوا يخفون نيّة إنشاء الدولة بعبارات من نوع «الوطن اليهودي» أو «الكومنولث» لظنّهم أن غاياته بعيدة عن كنه العرب. وحتى حرب 1948، لا تزال أسرارها غير مُفرج عنها. لا أزال أسمع من ليبراليّين عرب أن إسرائيل، مثل باقي الديموقراطيّات، تفرج عن وثائق وأسرار بعد 30 سنة أو أقل في بعض الدول. لكن هذا غير صحيح، حتى الإفراج الأميركي ليس كاملاً والإفراج عن وثيقة لا يعني أنها لا تخضع للرقابة. هناك صفحات من وثائق مُفرج عنها مطليّة بالأسود لأن الرقيب ارتقى أن الأسرار التي فيها تستحق الحماية خدمة للأمن القومي. وحرب الـ1948 محميّة من الرقيب الإسرائيلي وإن أفرج عن بعض ما فيها. العدوّ يكذب وأحياناً ننتظر سنوات قبل معرفة الحقيقة. صحيح أنه ليس عند العرب نظام الإفراج عن الوثائق، لكن الأسرار تتسرّب لأنه ليس هناك من دولة مركزيّة، كما أن كل نظام أو حقبة تريد الاقتصاص من سابقتها، والصراعات في الحكم تفسد حفظ السريّة. لم نعلم في حينه مثلاً أنه أُغمي على إسحاق رابين في حرب 1967. تتصوّر مدى تأثير ذلك على المعنويات لو أن ذلك كان معروفاً؟ نحن مثلاً كنّا على معرفة بعد أشهر بحالة عبد الحكيم عامر (وهو لم يُغم عليه بالمناسبة). الكثير من مجازر الجيش الإسرائيلي في 1948 محفوظ في الأرشيف. بعيداً من التاريخ، إسرائيل كما أميركا تكذب في أرقامها في الحروب.
أميركا مثلاً أصدرت عبر قطاع البحريّة تقديراً بدقّة إصابة الصواريخ والقنابل التي ألقتها على العراق في عام 1991 وكانت (حتى شباط 1991) بنسبة 30%، أي إن 70% منها أخطأ الهدف (الأرقام مذكورة في كتاب ريك اتكنسون، «الحملة الصليبيّة»). في حرب أفغانستان، أصدرت أميركا في آذار 2002 تقديراً بأن ربع القنابل والصواريخ فوق أفغانستان أخطأت الهدف. ثم توقّفت أميركا عن إصدار تقديرات وخصوصاً عن عدد قتلى «العدو» (الذي يضم السكان الآمنين). ليس هناك حتى الساعة تقدير أميركي رسمي لعدد ضحاياها في حربَي العراق وأفغانستان (لديها تقديرات لكنها سرّية وممنوعة عن العامّة). وبالنسبة إلى صواريخ صدام في عام 1991، لم تعلن إسرائيل عن مواقع سقوطها بالتحديد. وبعد مرور ثلاثين سنة على سقوط صواريخ سكود تلك، أعلنت إسرائيل للمرّة الأولى عدد ضحاياها (أعلنت أنه سقط 14 قتيلاً وعشرات الجرحى بعد أن كانت نفت ذلك في حينه). وعن أرقام إسرائيل العسكريّة قالت دراسة لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» (وهي منظمة صهيونيّة خبيثة) في حينه «يجب التعامل مع الإحصاءات الإسرائيليّة الرسميّة بحذر»، وخصوصاً أن صحافيّين إسرائيليّين اعترفوا أن الحكومة غيّرت تقديرات أرقام الضحايا خلال الحرب ومن دون إعلان سبب ذلك. وكانت أرقام الجيش والمكتب الحكومي الإعلامي ومركز التواصل الإعلامي (الذي أسّسته الحكومة في الحرب) متضاربة مع بعضها البعض، بحسب المنظمة المذكورة.
أمّا البلاغ الأميركي الإسرائيلي قبل أسبوع عن أنه تمّ إسقاط 99% من الصواريخ والمسيّرات الإيرانيّة، فهذه كانت مدعاة للضحك، ليس فقط لأن الرقم مستوحى من أرقام نجاح انتخابات القادة في الأنظمة البعثيّة، بل لأن الرقم لا يمكن أن يكون صحيحاً («معاريف» نشرت أمس أن الرقم الصحيح هو 84%). واعترف مسؤولون أميركيّون (وليس إسرائيليّين) بأن خمسة صواريخ أصابت قاعدة نيفاتيم، وأن ما مجمله تسعة صواريخ أصابت قاعدتَين عسكريّتَين. هذا الاعتراف يتناقض بداهة مع رقم 99% من 300 صاروخ ومسيّرة. ويمكن أن نتوقّع تسرّب الحقائق عن الإصابات والأضرار من جرّاء الهجوم الإيراني على مرّ الأشهر، لا بل السنوات الطويلة، وبالتدرّج البطيء. في يناير عام 1991، زعم الجنرال نورمان شورتزكوف (قائد العمليّات وقوى التحالف في الحرب على العراق) أن نسبة نجاح صواريخ الباتريوت في صدّ الصواريخ العراقيّة كانت «100% حتى الآن». هذا الرقم تمّ تخفيضه باستمرار عبر السنوات إلى أن قرّرت الحكومة أنه كان بنسبة 80% فوق السعودية وبنسبة 40% فوق فلسطين المحتلّة. لكن دراسة دقيقة لمكتب المحاسبة الحكومي الأميركي بعد سنوات من الحرب قرّرَ رسميّاً أن نسبة نجاح الباتريوت كانت نحو 9%. لم يقتنع بروفيسور ثيودور بوستول في جامعة «إم آي تي» بالرقم، فأجرى دراسة خاصة به وتوصّل إلى خلاصة مفادها: إن نسبة النجاح لم تتعدّ العشرة في المئة، مع أنه رجّح أن تكون نسبة صدّ الصواريخ صفر في المئة.

الحديث هنا عن آثار وأهميّة الضربة الإيرانيّة التي أصابت إسرائيل، والتشكيك بالأرقام الإسرائيليّة والأميركيّة ضروري لأنّ هناك تاريخاً من الأكاذيب والأضاليل من قبل الحكومتَين. في حرب فييتنام، أثبتت دراسة «أوراق البنتاغون» (التي سرّبها دانيل إلزبرغ) أن الحكومة الأميركيّة واظبت على إخفاء الحقائق عن الشعب الأميركي وأنها كانت تقول في السرّ إن النصرَ على فييتنام مستحيل، فيما كانت تعِد الشعب الأميركي بالنصر المحتوم، وكانت تعلن أرقام خسائر غير ما كانت تحتفظ به للمداولات السرّية. وإذا كانت أميركا مستعدّة لأن تكذب عن حربها، فما بالك بالنسبة إلى حليفتها إسرائيل التي هي أغلى من القلب؟ أميركا عندما تعرّضت لهزيمة شنعاء في لبنان في ١٩٨٢ - ٨٤ أنكرت أنها انسحبت جارّةً أذيال الخيبة، وظهر رونالد ريغان أمام الملأ كي يعلن أنه لم ينسحب أبداً من لبنان، بل إنه أمرَ فقط بإعادة انتشار للقوّات الأميركيّة. قد يقول قائل إن أميركا باتت أصدَق في بياناتها العسكريّة وإن عصر الإنترنت والمواقع فرض تعاطياً شفافاً. هذا ما دحضه إدوار سنودن الذي كشف حجم أكاذيب هائلاً.

ثم لنعد إلى أرقام الخسائر العسكريّة من الماضي غير السحيق. بعد اغتيال قاسم سليماني في ٢٠٢٠، قال دونالد ترامب إنه لم يُجرَح أيّ عنصر من القوات المسلّحة الأميركيّة في القصف الإيراني على قاعدة عسكريّة في العراق. لكنّ مسؤولين أميركيّين اعترفوا بعد ذلك بأنه تمَّ إجلاء ثمانية عناصر بعد إصابتهم بجروح. وبالتدريج، وحسب الأرقام الرسميّة عينها، ارتفع عدد المصابين من القوّات الأميركيّة من ٣٤ إلى ٥٠ ثم إلى ٦٤. وفي ١٠ شباط، ٢٠٢٠ اعترفت وزارة الدفاع الأميركيّة بـ ١٠٩ مُصابين في التفجير عينه. أي أن التشكيك في ما تعلنه إسرائيل، التي افتضح استسهالها للكذب في هذه الحرب أكثر من أيّ وقت مضى، واجب في المعاينة والتدقيق والمتابعة لمجريات هذه الحرب ومضاعفاتها. وينسى القرّاء العرب، أو قد ينسون، أنه ليس هناك من تغطية غربيّة مستقلّة لهذه الحرب. الإعلام الغربي يعتمد بالكامل على بيانات المسؤولين السياسيّين والعسكريّين الإسرائيليّين وعلى إعلاناتهم وتصريحاتهم. هذا يتناقض تماماً مع مسار تغطية الحرب في أوكرانيا. هناك مثلاً: ترى وسائل الإعلام الغربيّة أن كلّ ما يصدر عن روسيا هو كاذب، وأن الخبر اليقين في حوزة المسؤولين الأوكرانيّين فقط، ومؤيّديهم في وزارات دفاع دول حلف شمال الأطلسي. لو أن هناك من يجمع المزاعم الأوكرانية والغربيّة عن خسائر الجيش الروسي وهزائمه لما كان هناك اليوم اعتراف متأخّر في الإعلام نفسه بأنّ أوكرانيا تُردّ على أعقابها من قبل الجيش الروسي الذي يتقدّم في الميدان. وما قاله وزير الدفاع الإسرائيلي أخيراً عن نجاح إسرائيل في قتل نصف قادة المقاومة في الجنوب تعرّض للتشكيك في جريدة «نيويورك تايمز» نفسها (لو احتسبنا عدد «القادة» من «القاعدة» و«داعش» الذين زعمت أميركا أنها قتلتهم في العراق وسوريا لبلغ الآلاف).
ثالثاً، هناك الأهميّة التاريخيّة. إسرائيل اعتمدت على التفوّق الجوي مبكّراً، ولم تكن الطائرات الروسيّة (أو النسق الذي كان الاتحاد السوفياتي يمدّ العرب به) موازية للطائرات الأميركيّة التي كانت أميركا تزوِّد إسرائيل بها. هناك ثلاث دوائر من أنظمة الدفاع المُضادّ للصواريخ، وكلّها تلقى تمويلاً ودعماً من الحكومة الأميركيّة. إسرائيل كانت ترصد طائرات شراعية من غزة، وهي كانت تمنع أي تسلّل مدني إلى فلسطين المحتلّة منذ ١٩٤٨. إيران أرادت (من دون تفجيرات كبيرة) إفهام إسرائيل بأن نظامها الدفاعي الجوّي ليس عصيّاً عليها وأنها تستطيع اختراقه. لو أن إيران بالفعل اخترقت فقط بثمانية صواريخ، ولو كانت محمّلة بكل الطاقة التفجيرية، لكان التدمير هائلاً. وعندما عبّر بن غفير عن خيبته من الردّ الإسرائيلي على الردّ الإيراني المشروع على قصف قنصليّتها (وصفه بـ«المسخرة»)، كان يعبّر عن حاجة عسكريّة - سياسيّة عند إسرائيل للردّ على المهانة التي شكّلتها هذه الصواريخ والمسيّرات.

غريب أن يكون ألدّ أعداء إسرائيل دولة غير عربيّة تنتمي إلى حضارة لطالما عيّرها العرب بالعنصريّة ضدّهم

٣٤ صاروخ سكود صدّامياً (وبقدرات توجيهية بدائيّة وحمولة تفجيريّة خفيفة) ألهبت مشاعر الأمّة يومها، لكنّ هذه الصليات البعيدة المدى كانت، بحسب الإعلام الصهيوني الناطق بالعربيّة، رمزيّة. تعرّضت حملة القصف للسخرية من حملة مصالح ومشاعر إسرائيل بيننا (قالوا إن القصف الإيراني حوّل الأنظار عن غزة، فيما غزة لا تزال تغطّي الشاشات والمواقع). إيران في إصابتها لقاعدتَين عسكريّتَين أفهمت إسرائيل أن البعد الجغرافي لم يعد عائقاً في التوجيه الدقيق نتيجة التقدّم العلمي العسكري في طهران. هي رسالة، لكنها رسالة بالغة الخطورة لعدوّها.

تسلّح إسرائيل من قبل الغرب كان لهدفَين: شنّ الحروب واحتلال الأرض وتخويف العرب ومنعهم عن مجرّد التفكير في إيذاء إسرائيل أو من تخطّي عوائق وخرق المحظور في الصراع معها. الترسانة العسكريّة الإسرائيليّة غير مبرّرة إلا من هذا المنظور. تجميع كل هذه الطائرات المقاتلة هو من أجل ذلك: تكديس ترسانة مخيفة. ليس هناك من سلاح جوّي في الدول المجاورة كي تستمر إسرائيل في تجميع الطائرات المقاتلة بهذا الحجم (إلا إذا كانت الطوافة الزجاجية التي أهدتها الحكومة الأميركية للجيش اللبناني تخيف إسرائيل، مع أنه يمكن إسقاطها برمية إجاص أو كمثرى).
ساهم الحزب، أكثر من غيره، في إزالة عنصر الخوف من نفوس المقاتلين العرب ضد إسرائيل. قد تكون هذه أولى علامات تآكل عقيدة الردع الصهيونيّة. لم نكن نحلم، نحن الجيل الذي عاصر حرب ١٩٦٧، أن نصل إلى يوم يخاف فيه الجندي الإسرائيلي من المقاتل العربي وليس العكس. إيران، بضربتها، أدخلت عنصراً جديداً: أنها دولة شرق أوسطيّة لا تخاف إسرائيل. حاولت إسرائيل إخافتها بشتّى الطرق من خلال عمليات تخريب وإرهاب متنوّعة، ومن خلال استخدام نفوذها الهائل في الغرب أن تحاصر وتخنق الشعب الإيراني كي يثور على حكومته. هذه هي النيّة الصريحة التي تحكم عمليّة فرض العقوبات الأميركيّة، من كوبا إلى إيران. وإيران جازفت، ولا تزال، بحياة النظام من خلال المخاطرة الكبرى في دعم السلاح العربي ضد إسرائيل، فيما لم تعد تجرؤ حكومة عربيّة واحدة (ولا الجزائر) على تسليح المقاومات (باستثناء النظام السوري — واليمني لو كان لديه ما يوفِّره من السلاح).
وكانت السياسة الأميركية العسكرية في دعم إسرائيل تعتمد على ضمان قدرة إسرائيل على هزيمة، ليس دولة عربية واحدة، وإنما أيّ مجموعة من الدول العربية. لم تكن تلك السياسة تأخذ في الحسبان أن هناك إمكانية لبروز فصائل مقاومة عسكرية تلحق الأذى بإسرائيل، كما حدث مع «حماس» وحزب الله. كانت إسرائيل تتعامل مع خطر التنظيمات الجديدة باستخفاف، بناءً على تقييمها للأداء السابق لفصائل منظمة التحرير. تغيّر ذلك بعد 2000، وبعد 2006. وحرب تموز. الضربة الإيرانية أدخلت عنصراً جديداً، في أن دولة محاصرة تستطيع أن تجرؤ على قصف إسرائيل مباشرة وبعدد كبير من الصواريخ والمسيّرات. وبالرغم من الدعاية المضادّة، ومن التحريض اليومي من وسائل إعلام الخليج التطبيعيّة، فإن الحكومة الإيرانية منذ الثمانينيات دخلت في صلب الصراع مع إسرائيل، وكانت هي تمدّ ياسر عرفات وحركته (في أشهره الأخيرة) بالسلاح وهذا ساهم في إقناع إسرائيل لأميركا بضرورة التخلّص منه. وإيران لم تكن تستطيع أن تدخل في صلب الصراع إلى جانب الحق الفلسطيني لو أن الدول العربية لم تخرج منه. صحيح أن هناك رصيداً شعبياً وإسلاميّاً تكسبه الدولة التي تدعم الحق الفلسطيني بقوة، لكن الثمن لذلك الدخول في الصراع باهظ وهو الذي دفع الدول العربية بعيداً في الترحال عن فلسطين.

رابعاً، أعلنت إيران رسمياً نهاية عهد الصبر الاستراتيجي. لا يمكن موازاة مفهوم الصبر الاستراتيجي مع مفهوم التوازن الاستراتيجي الذي اتّبعه حافظ الأسد في الصراع مع إسرائيل، أو مفهوم الانتظار حتى تحديد زمان المعركة ومكانها (وكم تعرّض هذا المفهوم للسخرية وعن حقّ عبر السنوات). مفهوم الصبر الاستراتيجي لم يعنِِ عند إيران تجميد الصراع ضدّ إسرائيل، بل تسعيره في آن عبر الانخراط المباشر في تسليح ودعم وتمويل حركات المقاومة في كل الجبهات وحتى لو كانت الفصائل التي تتلقى الدعم الإيراني لا تعتنق العقيدة الدينية أو المذهبية أو الأيديولوجية للنظام في إيران. الصبر الاستراتيجي لم يعنِ يوماً الانتظار حتى تحديد زمان المعركة لأن المعركة لم تتوقّف يوماً، بالنسبة إلى النظام الإيراني. كانت إيران تتلقّى الضربات باستمرار عبر أدوات «الموساد» مثل «مجاهدي خلق» وحركات انفصالية في داخل إيران وعمليات اغتيال سياسي وضربات قاضية ضدّ أهداف إيرانية وضدّ حلفاء إيران في سوريا، وطبعاً بمباركة من الحكم الروسي. لكن في الوقت نفسه، الذي تكون فيه إيران منخرطة في الصراع ضدّ إسرائيل عبر جبهات متعددة، تنتظر إيران اختمار قدراتها العسكريّة الاستراتيجيّة التي قد تتطوّر باتجاه نووي لو قرّر المُرشد ذلك. والذين يقولون في الإعلام السعودي إن إيران تحارب إسرائيل بأرواح عربية لم يجروا إحصاءً بعدد الخسائر البشرية لإيران عبر السنوات بسبب مقاومتها ضد إسرائيل وتسليحها ضد إسرائيل. التسليح الإيراني منذ البدء كان موجّهاً ضد إسرائيل، بينما يكون التسليح الخليجي منذ البدء موجّهاً ضد الجيران العرب وغير العرب باستثناء إسرائيل نفسها (السعوديّة أكبر مستورد للسلاح في الشرق الأوسط وإسرائيل هي الثانية، والتسليح السعودي لا يرتبط بمعركة ما ضد إسرائيل لتحرير فلسطين).

خامساً، إيران توجّهت برسالة إلى الغرب مفادها: أنها قد أعدّت العدّة لمعركة كبرى وأن التخطيط أخذ في الحسبان هذا التراصّ الغربي في دعم دولة إسرائيل، التي كشفت الضربة ضعفها. لم نكن نتوقّع بعد ٧ أكتوبر أن تكون إسرائيل، بعد كل هذه العقود من الهبات والسلاح الغربي، عاجزة عن الدفاع عن نفسها بنفسها. ومخطط إيران يتهيّأ لمواجهة كبرى لا تريدها أميركا، ولا تريدها إيران. وكان يمكن لقوى المقاومة أن تفتح المعركة الكبرى في هذه المرحلة، لكن ذلك لم يكن وفق حسابات المحور، بل تكون المعركة انفعاليّة وردّة فعل (وخصوصاً أن «حماس» لم تنسّق مسبّقاً مع المحور في شأن ضربتها).

لم تنتهِ المعركة بين إيران وإسرائيل، لكنها تطوّرت. غريب أن يكون ألدّ أعداء إسرائيل دولة غير عربيّة تنتمي إلى حضارة لطالما عيّرها العرب بالعنصريّة ضدهم. وحدة الساحات بين عناصر محور المقاومة كشفت أن الغرب لديه وحدة ساحات أيضاً، لكن ذلك أثّر وسيؤثّر على صورة الغرب في العالم. ومشهد ساحات الجامعات الأميركيّة لا يشير إلى أن التناصر الغربي مع إسرائيل سيعمّ على الغرب بالفائدة الجمّة.


الصفحة الأساسية | الاتصال | خريطة الموقع | | إحصاءات الموقع | الزوار : 64 / 2351349

متابعة نشاط الموقع ar  متابعة نشاط الموقع استضافة   wikipedia    |    titre sites syndiques OPML   OPML

موقع صمم بنظام SPIP 3.2.7 + AHUNTSIC

Creative Commons License

5 من الزوار الآن

Visiteurs connectés : 5

تصدر عن الاعلام المركزي _ مفوضية الشؤون الاعلامية - تيار المقاومة والتحرير

المواد في الموقع لا تعبّر بالضرورة عن رأي التحرير وجميع الحقوق محفوظة لصوت الانتفاضة وشبكة الجرمق - تشرين ثاني -2010

https://www.high-endrolex.com/28