الحرب على القدس والمقدسيين بعد «هبة» القدس 13/9/2015، تاريخ اقتحام المتطرف وزير الزراعة الصهيوني أوري أرئيل للمسجد الأقصى، تلك «الهبّة» تعتبر الأعمق والأطول والأشمل، والتي ما زالت تأثيراتها وتداعياتها ومفاعيلها وتطوراتها مفتوحة على كل الاحتمالات، من حيث التطور والتصاعد والشمول نحو انتفاضة شعبية شاملة، بأهداف واضحة ومحددة وعبر قيادة مؤطرة ومنظمة، أو التراجع والكمون مؤقتاً، أو لربما قد ينجح الاحتلال بمشاركة عربية ودولية في إجهاض تلك الهبة.
الإجراءات والممارسات المتخذة بحق المقدسيين في هذه «الهبة» والتي عمّقت من أزمة حكومة الاحتلال ومستوطنيها وأدخلتهم في حالة من الرعب والخوف والهوس وفقدان السيطرة على الأوضاع، لا تأخذ فقط طابع العقوبات الجماعية من طراز هدم بيوت الشهداء وحتى تخريب وتدمير البيوت الملاصقة والمجاورة لها والمركبات المتوقفة على الطرق، كما حصل في عمليتي تفجير بيتي الشهيدين غسان أبو جمل ومحمد جعابيص، وإبعاد أسرهم وعائلاتهم الى خارج حدود بلدية القدس، وسحب الإقامة منهم ومصادرة ممتلكاتهم، بل من بعد عمليتي الشهيدين علاء أبو جمل وبهاء عليان وغيرها من عمليات المقاومة الأخرى، صعد الاحتلال حربه العدوانية على المقدسيين بشكل غير مسبوق، حرب استخدم فيها كل أجهزته لكي يوجه ضاربة قاصمة للمقدسيين ويكسر إرادتهم ويحطم معنوياتهم، حيث عمد الى فرض طوق أمني وحصار شامل على كل بلدات الفلسطينية في القدس، بما في ذلك البلدة القديمة من القدس، فقد أغلقت الطرق الرئيسية والفرعية بالمكعبات الإسمنتية، وشلت كل مظاهر الحياة الطبيعية فيها، من حيث عدم السماح للطلبة بالوصول الى مدارسهم ومؤسساتهم التعليمية، وكذلك العمال والموظفين لم يتمكنوا من الوصول لأعمالهم في القدس والمؤسسات والمصانع والورش «الإسرائيلية»، وتعطلت حتى المؤسسات الطبية، وكانت هناك صعوبة في التنقل والحركة الراجلة.
أضاف الاحتلال عبئاً جديداً لأعباء المقدسيين، من خلال بناء مقاطع من جدرا فصل عنصري حول بلدات جبل المكبر والعيساوية، ونسقت الأجهزة الأمنية مع بلدية الاحتلال التي يتزعمها المتطرف نير بركات، الذي حمل رشاشه وتجوّل في القدس الشرقية محرّضاً على سكان القدس العرب، حيث وضع الى جانب رجال الشرطة والجيش على الحواجز والمكعبات الإسمنتية موظفين تابعين لبلدية الاحتلال، من أجل ممارسة سياسة البلطجة و»التقشيط» بحق المقدسيين، موظفي التأمين الوطني وضريبة المسقفات «الأرنونا» وسلطة الإذاعة، وكذلك من لهم علاقة بالمخالفات للمركبات والسير، ناهيك عن قيام موظفي بلدية الاحتلال بالدخول الى كل المحلات التجارية وتحرير مخالفات لهم حول اليافطات و»الآرمات» ولوحات الإعلانات المعلقة على أبواب المحلات التجارية ووجود البضائع خارج المحل ورخصة مزاولة المهنة وغيرها.
المسألة هنا ليست فقط عقوبات جماعية وممارسة سياسة عنصرية ومتطرفة ضد أشعب أعزل، عقوبات مخالفة لكل الاتفاقات والمواثيق والأعراف الدولية، ليس الهدف منها أمني، فأمن بضع مئات من مستوطني الاحتلال المزروعين في قلب الأحياء العربية لا يتحقق عبر عزلهم في قلاع محصّنة، مع توفير كلّ الوسائل التي تؤمّن لهم التحرك بسهولة، والتنغيص على حياة كلّ أبناء البلدة المزروعة فيها هذه المستوطنات، بل الهدف أبعد من ذلك، هو ثأري وانتقامي وممارسة لسياسة تطهير عرقي بحق العرب المقدسيين، لحملهم على الرحيل القسري عن مدينتهم. عبر تدمير وشل كل مظاهر حياتهم الطبيعية، من عمل وتعليم وصحة ومواصلات وحرية حركة وتنقل وضرائب جائرة وغيرها.
الاحتلال يريد أن يعيد الثقة والأمن والاستقرار الى مجتمع مهووس، بات يشعر بأن الطفل الفلسطيني خطر عليه في مشيته وضحكته وهرولته، وكذلك يريد أن يصلنا الى مرحلة من الضغط الشديد، لكي تخرج أصوات من بين أبناء شعبنا تلتمسه العذر والمغفرة، بأن يزيل لنا جزءاً من هذه المكعبات الإسمنتية والحواجز ويخفف وقع عقوباته الجماعية علينا، مقابل أن نحفظ له أمن جنوده ومستوطنيه، والعمل على حراستهم، شعب محتل سيعمل حارساً على من يحتله ويقمعه ويهدم بيته ويغلق الطرق عليه، حالة لم يعرفها تاريخ الشعوب والثورات لا قديماً ولا حديثاً، احتلال بدلاً من أن يرحل عن شعب ضاق به وبكل عنصريته وعنجهيته ذرعاً يراد له العمل على حراسه جلاده وتوفير مستلزمات راحته فوق أرضنا التي يحتلها.
نحن ندرك جيداً بأنه لو كان وضع فصائلنا وثورتنا معافى، وحالتنا وأوضاعنا الداخلية صلبة ومتماسكة وموحدة بعيدة عن الانقسام والصراع على المصالح والسلطة بين طرفي الانقسام حماس وفتح ، وكذلك لو كانت هناك حاضنة عربية للانتفاضة والهبات الشعبية بدلاً من الدخول في حروب التدمير الذاتي والانشغال في الهموم الداخلية، ولو كانت هناك قيادة فلسطينية بمستوى طموحات وتضحيات الشعب الفلسطيني، ومالكة لإرادتها السياسية، لما تجرأ الاحتلال على أن «يتغول» و»يستأسد» على شعب أعزل إلا من إرادته وكرامته.
الاحتلال مهما «أمعن في الظلم والاضطهاد، ومهما حاصر وأغلق وخنق وبنى جدران فصل عنصرية وعوائق، تفصل القرى الفلسطينية المقدسية عن محيطها الفلسطيني وعن المغتصبات الصهيونية، فهو لن ينجح في كسر إرادة شعب يريد لهذا الاحتلال أن يرحل عن أرضه، ويتخلى عن أحلامه وأوهامه بشرعنة وتأبيد احتلاله.
الاحتلال عليه أن يدرك بأن عقوباته الجماعية وجدران فصله وكل أشكال القمع والتنكيل، لن تجد له مخرجاً أو حلولاً، بل عليه مراجعة سياساته وإجراءاته القمعية والعنصرية بحق القدس والمقدسيين والمقدسات وفي المقدمة منها المسجد الأقصى، عليه أن يعترف بحق شعبنا في القدس بأنه محتل وله الحق بالعيش في حرية وكرامة كباقي شعوب العالم.